فجر الجمعة.. الساعة الخامسة والربع رن جرس التليفون المحمول، كنت مستغرقة في النوم في فندق خمس نجوم علي سرير مريح. قبل أن أقرأ اسم المتصل نظرت إلي الساعة «إلهام» في «الخامسة والربع صباحاً» لم أستيقظ بما يكفي لأفهم معني المكالمة «محمد تعيشي إنت». فلم أرد. قالت: «أنا آسفة أوي أنا صحيت حضرتك من النوم.. هم كلموني من المستشفي دلوقتي وقالوا لي ومش عارفة أعمل إيه قلت أكلم حضرتك». بالتأكيد قلت كلاماً جعل المكاملة تنتهي.. لكنني لم أتذكره أبداً فيما بعد. عندما أعدت وضع رأسي علي الوسادة كانت فارغة تماماً. لم أعد إلي النوم ولم أستيقظ، ثم بدأت تلاحقني صور غير مترابطة وشديدة التشويش، صورة محمد بعد إجراء فحص الموجات الصوتية علي القلب «قلبك زي الفل يا عم محمد» قالت الطبيبة فقفز محمد من فوق سرير الكشف.. «ياه.. ربنا يبشرك بالخير يا دكتورة.. الواحد كان قلقان علي موضوع القلب ده». كانت إلهام تنتظرنا خارج الحجرة، خرج يبشرها «الحمد لله.. القلب سليم».. فشاركته الفرحة «الحمد لله». عم محمد مريض سرطان رئة!!، وفحص القلب مطلوب كإجراء روتيني قبل تحديد جرعة الكيماوي التي يمكن أن يتحملها الجسم. علي سلم المستشفي قال «والله أنا حاسس إني خفيت، الدكتورة دي شاطرة وبنت حلال!!» كان عجيباً.. عايز يفرح بأي طريقة. قلت لنفسي.. وتذكرت صوت إلهام «محمد تعيشي إنت». وبسرعة ظهرت صورة إلهام علي شاشة مخي، الذعر يلون وجهها بلون شاحب «هو صحيح عنده سرطان».. طيب أعمل إيه أنا.. ده أنا أتعديت أكيد.. عايزة أعمل تحليل.. أنا خايفة أكون اتعديت». مضحكة جداً هذه الصغيرة، التي فرضت ظروف عجيبة علي كلتينا أن نشترك في الاهتمام بمحمد.. المريض.. الفقير.. الوحيد.. وجارها كنا نلتقي ثلاثتنا في الصباح الباكر علي باب المستشفي لاستكمال الفحوصات، بمجرد أن تجلس إلهام، تضع رأسها علي أقرب شيء وتنام.. ويجلس هو بعيداً.. ينظر إليها ويبتسم.. أصلها مش متعودة تصحي بدري، كان يقول عنها «ابنتي» عندما يسأله أحد «مين معاك»، حتي كدت أصدق أنها ابنته، لولا أني أعرف أسرتها. كانت علاقتهما خالية تماماً من المجاملات كعلاقة أي أب مريض بابنته الشابة، لن تتركه وحده أبداً رغم خوفها من العدوي لكن كانت دائماً لا تخفي مظهر «الزهق والضيق» وهو لا يهتم. في كل مرة نلتقي كان يصر علي أن يشتري لي شاياً من أي كشك، وكنت أرفض.. فيأمرها أن تذهب هي لشراء الشاي. وعندما أدركت أنني محاصرة بالشاي ولن أستطيع الفكاك صارحته بأنني أفضل النسكافيه في الصباح، فتركني ولم يستجب لندائي ولا لمحاولات إيقافه، واتجه صوب كشك الشاي.. يجر ساقيه ويتساند بإحدي يديه علي الجدار، عندما عاد كان نصف كوب النسكافيه قد تساقط علي ملابسه وعلي الأرض، وكانت إلهام تضحك ساخرة منه. تذكرت الآن صوتها «محمد تعيشي إنت» كان نور الشمس قد ملأ الحجرة.. وكان مشهد البحر من النافذة غاية في الجمال.. وكان مخي الآن مستيقظاً تماماً فأدركت معني الجملة «محمد تعيشي إنت.!». نجلاء بدير