أدعو الله سبحانه أن يتقبل كتابات الراحل الرائع "أحمد بهجت" فى ميزان حسناته كعلم يُنتفع به، لقد كانت سطوره تغذى الوجدان وترتقى بالمشاعر وتمد القارئ بالمعلومات عبر أسلوب سلس وصياغة سمحة. كانت كتابته تتميز بأنها تسمح للقارئ أن يعيد قراءة الكتاب نفسه والمقال نفسه أكثر من مرة عبر الاندهاش نفسه، مكررا الإعجاب، بل مكتشفا للمزيد من الأعماق التى تحملها الفكرة. كثيرا ما كنت أحتفظ ب"صندوق الدنيا" بسبب شدة إعجابى بما كتبه فيه، ولقد أعدت بعد وفاته قراءة بعض قطع صندوق الدنيا التى أحتفظ بها، فوجدت أنها بالفعل جديرة بإعادة النشر فى كتاب لتسهيل الاحتفاظ بها عند القراءة، وقد اخترت هنا بعضا مما حفظت، واقتطعت عددا من العبارات الجديرة بإعادة التأمل فيها. - عن "حب الله" كتب فى صندوق الدنيا: »كان سبب خلق الخلق هو انصراف مشيئة الله إلى العطاء، والعطاء قصة الحب، هكذا ينظر العارفون بالله إلى العالم. إنهم يرون الحب قانونا حاكما فى الوجود، ويرون عطاء الله سببا فى ميلاد الكون والإنسان، ويحسون أن رحمة الله نسيج يشف به ثوب الكون على رحابته وجلاله، وهم يرون أن الله قد خلقنا ليتفضل علينا بحبه، ولكى يتفضل علينا مرة أخرى بأن يسمح لنا بحبه. ويضيف أحمد بهجت: قرأت هذه الآية أمام جلال الدين الرومى »يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه« بكى شاعر الصوفية الأكبر حين قرأت عليه الآية إن الله يتوعد الارتداد عن الدين، وهو ظلم عظيم، بأرقى ما فى الوجود من مشاعر الحب وقيمه، إنه لايهدد المرتدين عن دينهم بالنار أو النحاس المصهور أو العذاب، إنما يهددهم بأن يستبدلهم بقوم يحبهم ويحبونه، إن القوة التى تهدد الشرك والردة هى حب الله. - وعن البحر كتب: »إن امتداد البحر إلى ما لا نهاية يشبه طموح الإنسان وأحلامه كما أن اختلاف السطح الأزرق عن صخور القاع ووحوشه ولآلئه يشبه اختلاف مظهر الإنسان عن حقيقته وبينى وبين بحر الإسكندرية عشق قديم، إن كل ما سمعته عن احتواء المحب للمحب ليشبه احتواء البحر لمن يقفز فى مياهه، نحن نعرف من التجربة البشرية ومما نشاهده من فنون كيف يحتضن الإنسان إنسانا ولكن أحدا لا يحتضن أحدا فيحتويه مثلما يفعل البحر بالإنسان، إنه هو العاشق الذى يحيط بكل ذرات المحب دفعة واحدة ويحمل البحر الإنسان مثلما يحمله الحب، ومثلما يغرق المرء فى الحب ويضيع يمكن أن يغرق فى البحر ويضيع« - وكتب عن النور الداخلى تأملات رائعة جاء فيها: »أحيانا تجلس مع إنسان متعلم إنسان له قيمته فى مجال حيوى من مجالات الحياة فتحس بأن هذا الإنسان مظلم من الداخل، وتحس بأن له مجالا من الظلمة ينفثه حوله، ثم تجلس مع إنسان فطرى لم يتعلم ولا يقرأ ولا يكتب فتحس بأن فى داخله نورا خاصا يشعه على الحياة حوله. إن المعرفة العلمية المادية لا تكفى إلا لصنع مصابيح الشوارع وإضاءتها، أما النور الداخلى فلا يستمد إلا من المعرفة الروحية الخالصة معرفة ما يتجاوز العالم المادى للإنسان«. ويضيف: يقول القديس يوحنا الصوفى الأسبانى الكبير.. لا نور يهدينى سوى النور المضىء فى قلبى.. أما الأستاذ رينيه ويج فيتصور أن برنامج الحياة الروحية هو القدرة على إغماض العيون والنزول الى أعماق العقل الباطن حتى يجد المرء فيه النور الضعيف أو الساطع الذى يحمله فى أعماقه. وإذا صح أن كل واحد منا يملك قبسا من هذا النور فإن مهمة الإنسان هى الإبداع ومحاولة توصيل ما يستطيع توصيله من هذا النور الداخلى الذى يأتى من المعرفة الروحية والإيمان بالله، وسوف نفهم الآية القرآنية المدهشة التى تتحدث عن حال المؤمنين بقولها »نورهم يسعى بين أيديهم«. يارب ارحم أحمد بهجت، لقد أنار بداخلنا جوانب لم نكتشفها إلا عبر إضاءاته التى واصل تبصيرنا بها بدون تكلف وبدون ترصد، وإنما برقة ورقى وببساطة وسلاسة وصفاء.