وسط زحمة الأحداث وزخمها وعنف المعارك الكلامية والهلامية التى يخوضها أصحاب التيارات المتشددة وصراع الديوك الدائر فى فضائيات المساء والسهرة يخبو صوت الوطن وقيمة مصر التى ينهشها الجميع ليخرج علينا المخرج المسرحى المبدع خالد جلال رئيس الإدارة المركزية لمراكز الإبداع الفنى بوزارة الثقافة ومعه مجموعة مبدعة من الشباب والفتيات صغار السن بعرض ( حلو الكلام) وهو عبارة عن مقتطفات شعرية من أجمل القصائد التى كتبها شعراء كبار قدامى ومعاصرون عن مصر ، وهو عرض ممتع لا يتجاوز الساعة ونصف الساعة ويجمع بين إلقاء الشعر والغناء والدراما. والعرض الذى يستضيفه مركز الإبداع الفنى بالأوبرا من بطولة الدفعة الثالثة باستوديو مسرح مركز الإبداع الفنى - قسم تمثيل - وهو نفس المسرح الذى قدم عرض «قهوة سادة» وشارك فى العرض الجديد أكثر من خمسين فتاة وشابا تباروا جميعا بالغناء وإلقاء الشعر فى إظهار حبهم لمصر من خلال قصائد صلاح جاهين وأمل دنقل وفؤاد حداد ونجيب سرور ونزار قبانى ومحمد حمزة وسيد حجاب وعبدالرحمن الأبنودى وفاروق جويدة وأحمد فؤاد نجم وجمال بخيت ومحمد بهجت وعوض بدوى. وقامت د. نجاة بتدريب الشباب على إلقاء الشعر فى حين أشرف على العرض فنيا المخرج خالد جلال الذى جعل العرض أقرب للدراما منه إلى الإلقاء ، وقام بتقسيم المسرح إلى مستويين أسفل يضم حشود الشباب الذين يتبارون فى إلقاء الشعر ، وأعلى يضم شبابا يعزفون ويغنون ، وكانت حركة الشباب على المسرح متميزة وجعلت العلاقة بين الممثلين والجمهور مفتوحة لدرجة أن الجمهور فى معظم الوقت كان يختار أشعار الشعراء الذين سيلقى الشباب أشعارهم وكان لكل شاعر مدخل يدخل به الشباب حتى أن إفيه الشابين المتمردين على العرض كان ظريفا ونجح فى إضفاء جو من السخرية والكوميديا فى العرض الذى يغلفه جو من الوطنية والانتماء فى حب مصر بشكل غير تقليدى وبنبرة تخلو من الزعيق والصخب، وهى الميزة التى أراها تميز العرض لولا بعض التطويل فى شعر بعض الشعراء وحشو العرض بأشياء تبعده عن هدفه الرئيسى وهو حب الوطن مثل مدخل الشاعر عبدالرحمن الأبنودى.. وعموما فإن ميزة خالد جلال هنا أنه يفاجئنا مع شبابه بعرض ذى قيمة ويرد على كل ما يحدث من سخافات وترهات فى الوسط السياسى ويدعو الجميع - نخبا وسياسيين - إلى الالتفاف حول الوطن والتفكير فى مستقبله. ويأخذنا عرض «حلو الكلام» طيلة مدة عرضه فى جولة حرة مع الشعر - الفصحى والعامى - ليجدد خلايا الانتماء التى كدنا أن نفقدها فى صراع التكالب على المصالح والمناصب، ويقدم الشباب أجمل الأفكار والمواقف التى بثها شعراؤنا العظام لبلدهم - مصر - التى تستحق أن نعشقها ونتغزل فيها من ( مصر يا امة يا بهية) لشاعرنا أحمد فؤاد نجم مرورا بقصائده رجعوا التلامذة وكلمتين عن مصر.. ( ولا صحافة ولا صحفجية.. شاغلين ولادنا عن القضية) ولا ينسى نجم سيناء فى أشعاره (يا سينا أكيد جايين لك ناخد بتار ياسين) وإذا كان شباب العرض قد استقروا على أن يكون بداية العرض مع فؤاد نجم وأشعاره المحرضة العاشقة لتراب مصر فإن من يأتى بعده من الشعراء وهو فاروق جويدة لا يقل حبا للوطن ويحذر - على لسان الشباب - فى قصيدته (المنصب) بآفات المنصب وخطورته (يسكرنا المنصب لا ندرى معنى لوفاء.. لحلال فينا وحرام.. ويضيع المنصب فى يوم وتدوس عليه الأقدام). ويرصد أيضا تقلبات الحاكم (فالحاكم فوق القانون.. ومن كان فى سجن الظلام ثائراً.. صار فى سجن الحكم قاهر» ويمر العرض على قصيدة الربيع لشاعرنا محمد بهجت التى تتحدث عن شباب الثورة ومصر وضرورة أن تكون أعيننا عليها لنتوقف قليلا أمام الشاعر العظيم الراحل نجيب سرور الذى يختار له شباب العرض قصيدتين الأولى «البحر بيضحك ليه».. وأنا نازلة اتدلع أملا القلل» ويقرر فيها ( البحر غضبان ما بيضحكش.. أصل الحكاية ما تضحكش.. البحر جرحة ما بيدبلش وجرحنا ولا عمره دبل) ثم يتألق أحد الشباب فى إلقاء قصيدة بالفصحى لسرور يقول فيها: «شعبنا يكرر أشياء ثلاثة : الخيانة ، الخيانة والخيانة»، ونصل لشاعرنا الغنائى محمد حمزة الذى حول العرض إلى معزوفة غنائية فى حب مصر بأشعاره وأغانيه ( يا حبيبتى يا مصر، فدائى) ويصل صوت الشباب هادرا (لو مت يا أمى ما تبكيش.. أنا مت عشان بلدى تعيش) وذكاء العرض أنه يختار مناطق تماس مع ثورة 25 يناير دون أن يوجهك إلى ذلك فأنت فى جو من الانتماء والوطنية تستفزه فيك الأشعار الصادقة التى خرجت من أفواه الشعراء، فحتى عتاب الشاعر عوض بدوى لمصر يبدو مقبولا فى هذا السياق ( باتحمل معاكى فوق طاقتى) فهو عتاب للمحب وليس عتاب النذل أو صاحب المصلحة، ومن التهجد فى عشق الوطن يأتينا من بعيد صوت أمل دنقل محذرا فى قصيدته الأشهر ( لا تصالح) ، وهنا نتوقف عند الشاب الذى ألقى القصيدة بشكل أكثر من رائع وبنبرة تكتسى بالتحدى والصمود وعدم الاستسلام ( لا تصالح ولو منحوك الذهب.. أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى.. هى أشياء لا تشترى) وينهى بنفس الحزم والقوة (لا تصالح ولا تتوخى الهرب). ومن دنقل إلى العظيم شعرا ومكانة فؤاد حداد الذى أنشد له الشباب.. (مفيش فى الأغانى كده ومش كده) وأنهوا بقصيدته الرائعة (حبوا الوطن) والتى كانت بمثابة المنهج الذى ينبغى أن نسير عليه ، وحسنا فعل شباب العرض حين أتبعوا حداد بصلاح جاهين الذى توقفوا عنده كثيرا بقصيدته ( على اسم مصر) والتى يناجى فيها مصر وملامحها.. (مصر الثلاث أحرف إللى ساكنة ضجيج.. وطقش موج البحر لما يهيج). (بحبها برقة وبعنف وعلى استحياء.. وألعن أبوها بعشق زى الداء وتبقى هيه فى درب وابقى فى درب.. وتلتفت تلتقينى جنبها فى الكرب) ويستمر شباب العرض فى بث حبهم للوطن بكلمات مؤثرة ومعبرة لشاعرنا الكبير عبدالرحمن الأبنودى من حبيبتى إلى الطوفان مرورا بناجى العلى وانتهاء بقصيدة الثورة ( طلع الشباب البديع قلبوا خريفها ربيع) وهنا نصل لشاعرنا الجميل جمال بخيت الذى يتغنى له الشباب بأغانيه عم بطاطا ، ومش باقى منى وقصيدته الشهرة ( دين أبوهم اسمه إيه) والتى برع شباب العرض فى إلقائها وإدانة كل رموز العهد البائد الفاسد ليحملونا إلى ختام العرض مع المبدع الرائع البسيط سيد حجاب الذين غنوا له مجموعة من أغانيه وأبرزها حبيبتى من ضفايرها طل القمر ومن شفايفها ندى الورد بان وقصيدة يا مصر يا جنة الإنسان وختموا العرض بأبلغ مباراة من أشعاره أيضا ( الباقى هو الشعب.. والبانى هو الشعب.. ولا فيه قوة ولا فيه صعب يصدوا زحف الشعب) وهنا تكمن قوة رسالة العرض التى يوجهها إلى كل القوى المتناحرة والمتصارعة على تورتة الوطن بأنه مهما كانت أغراضهم ومصالحهم وصراعاتهم فإن الباقى هو الشعب فاحذروه. «حلو الكلام» عرض مهم فى وقت عصيب تمر به مصر يحاول أن يعلو على كل ما يحدث ويدعونا لأن نلتف حول قيمة الوطن.. قيمة مصر.