وتمضى السنون ليصل عمر الحلم الذى تحقق إلى مائة عام، كان مجرد ضرب من الخيال والأمانى الوطنية الصادقة، منذ أن حكم محمد على مصر عام 1805 وفكّر فى إنشاء بنك مصرى، كان جزءًا من مشروعه لبناء مصر حديثة مستقلة. ولسبب أو لآخر لم يُحقق الحلم، الذى ظلت مسكونة به قلوب وعقول من حلموا بمصر قوية مستقلة قومية، لها هوية مصرية بالتخلص من بقايا الأثر العثمانلى والاحتلال الإنجليزى. حتى جاء من حقق الحلم.الصرح العظيم الذى كلما مررنا به، نراه شامخًا كمعبد فرعونى، هو المبنى العريق والمعنى العظيم، هو بنك مصر ومؤسسه طلعت حرب. ويبلغ الصرح الاقتصادى العظيم من العمر مائة عام، كان حُلمًا راود طلعت حرب كثيرًا حتى حققه، بدأ خطواته الأولى التى كانت أحد تجليات نزوع مصر للاستقلال وأحد تجليات تعبير مصر عن هويتها القومية والوطنية، والتى جسَّدتها ثورة المصريين لانتزاع مصريتهم وتأكيدها فى ثورة 1919. المصريون ورجال السياسة يطالبون «بالاستقلال التام أو الموت الزؤام»، وكان رجل الاقتصاد الفذ طلعت حرب يحرث الأرض ليزرع بذور الاستقلال الاقتصادى، ويبنى أعمدة بناء اقتصاد قوى، لن تحصل مصر من دونه على الاستقلال السياسى وهو القائل بقوة وإيمان: «من لا يملك قوته لا يملك قراره». لذا فهو وبحق أبو الاقتصاد المصرى. كان القرار الذى سعى إليه بدأب وخبرة الاقتصادى البارع الخبير، فدعا للمساهمة فى إنشاء «بنك مصر» الذى بدأ برأسمال قدره 80 ألف جنيه، اكتتب فيه 126 مكتتبًا، وطرح السهم بسعر أربعة جنيهات، يقسم السهم إلى أربعة أجزاء كل جزء ثمنه جنيه واحد، حتى يتمكن جميع المصريين البسطاء من شراء أسهم والاكتتاب فى البنك، محققًا الهدف والشعار الذى من أجله أنشأ البنك: «بنك مصر بنك كل المصريين». السبيكة المصرية وتأسس البنك وأُعلن افتتاحه فى دار الأوبرا المصرية فى 10 مايو عام 1920، ولأنه حقًا هو بنك كل المصريين، فنحن نستطيع أن نقرأ فى تشكيل مجلس إدارته وجمعيته العمومية معنى الهوية المصرية الجامعة لكل أبنائها، تلك السبيكة المصرية التى مدت جذورها وصنعت صلابتها حضارة بلد عمره أكثر من سبعة آلاف سنة. ولنقرأ معا أسماء بعض من أعضاء مجلس الإدارة والجمعية العمومية للمؤسسين، فنجد كما نشرت الجريدة الرسمية «الوقائع المصرية» عبدالعظيم المصرى بك/ الدكتور فؤاد سلطان باشا / أصلان قطاوى باشا/ عباس بسيونى الخطيب أفندى/ يوسف قطاوى باشا/ إسكندر مسيحة/ يوسف شيكوريل». هذه هى السبيكة المصرية التى نراها فى مجلس إدارة والجمعية العمومية لبنك مصر، سبيكة انصهر فيها المسلم والمسيحى واليهودى، سبيكة صهرت الباشا والبيك والأفندى فى خلاياها. كانت ببساطة مصر فى بنك مصر، فكل من يملك جنيهًا وبحس وطنى اشترى جزءًا من سهم فى البنك سواء كان عاملًا أو فلاحًا، امرأة أو رجلًا. المهم هو معنى وقيمة البنك «بنك مصر». على اسم مصر «على اسم مصر» عنوان القصيدة الملحمة البديعة التى كتبها «صلاح جاهين» وكتب فيها شعرًا تاريخ مصر بلدنا العظيمة، وعلى اسم مصر وقبل قصيدة العظيم صلاح جاهين بنحو نصف قرن كتب «طلعت حرب» اسم مصر، وسمى صروحًا صناعية واقتصادية باسم مصر.وكما هو معروف تلك الصروح التى مازالت تضخ القدرة فى شرايين الاقتصاد المصرى، هى قامات عظيمة وعريقة وعلى اسم مصر سمى «شركة مصر للغزل والنسيج/ شركة مصر للطيران / مصر لصناعة السينما» وغيرها الكثير الذى مازلنا نشد ظهورنا بقوة عليه. وكما سجل التاريخ لم تتوقف الحرب ضد طلعت حرب، الحرب فى الواقع كانت ضد استقلال مصر سياسيًا واقتصاديًا، حرب تحالف فيها الإنجليز مع الأحزاب الرجعية وبعض الشخصيات العامة التى ربما لها دوافع لم تفصح عنها، فقد شكّلوا جبهة للقضاء على حلم طلعت حرب وحلم المصريين وحقهم فى النهضة والتنمية. فقبل أن تندلع بأيام الحرب العالمية الثانية فى عام 1939 وبإيعاز من البعض ذكر التاريخ بعضًا من تفاصيل الحرب ضد طلعت حرب قام المودعون بسحب أرصدتهم من البنك، وأيضًا وبإيعاز من المتحالفين ضد طلعت حرب قام صندوق البريد الحكومى بسحب ودائعه من البنك دفعة واحدة، فلجأ «حرب» لوزير المالية فى ذلك الوقت طالبًا مساندة مالية من الحكومة إلا أن الحكومة رفضت. وكان قد استدعاه أحد أضلاع المؤامرة وهو المستشار المالى الإنجليزى وأطلق بوقاحة ما بداخله وما بداخل امبراطوريته قائلا: «هل تتصور أن المصريين يستطيعون أن يديروا بنكًا؟ إنها صناعة الأجانب وحدهم» ونصحه أن يشرك الأجانب فى إدارة البنك فكان رد «حرب» لقد قررت أن يكون البنك مصريًا مائة بالمائة. و كانت المساومة إما أن يترك البنك حتى ينهار أو يستقيل طلعت حرب حتى تقبل وتتدخل أضلاع المؤامرة بإقراض البنك فكان قرار طلعت حرب بالاستقالة وقال جملته العظيمة: «فليذهب ألف طلعت حرب وليبقى بنك مصر». خلدوا الزعيم الأول نعم استقال طلعت حرب ولكنه بقى وسيظل خالدًا ورمزًا من رموز مصر ومن صُنّاع تاريخها العظيم، فهل يمكن ذكر اسم بنك مصر دون إقرانه باسم طلعت حرب هل يمكن ذكر اسم أي من صروح مصر الاقتصادية دون أن نقول «بناها طلعت حرب». تحية من جيل ومن أجيال تحفظ اسمه وتحفظ له ما قدمه لها ولمصر. الأجيال التى دعتها أم كلثوم فى أغنية غنتها مرة واحدة فى ذكراه عام 1957 وفى حضور الزعيم جمال عبد الناصر ومن أبياتها التى كتبها صالح جودت ولحنها رياض السنباطى: اذكروه خلدوه فى كتاب الخالدين يا شباب الثورة البيضاء فى الوادى الأمين اذكروه فى كتاب الخالدين كرموا ذكرى الزعيم الأول هبة الماضى إلى المستقبل وهو قبل الثورة الكبرى بشير الثائرين .•