اخترع المصرى فكرة الدولة منذ خطت قدماه على هذا الوادى قبل 7000 عام وتمحورت الفكرة العبقرية حول الجيش كعمود فقرى لها.. امتلك المخترع المصرى شفرة اختراعه وهديته للعالم قبل وجود العالم القديم والحديث. تعطى الدولة للمجتمع قواعد النظام المستقر، لكن فى نفس الوقت تصاب الدولة بأعراض المرض فى عملها الدائم. يسبب فيروس الفساد هذه الأعراض فيصيب آلية عمل نظام الدولة, فالدولة ,نظام يديره الإنسان وحتما لهذا الإنسان أخطاؤه. أدرك المصرى القديم إيجابيات وسلبيات منتجه الفريد، فابتكر المصل الشافى لفيروس الدولة عن طريق أذرع رقابية تطارده وتحاصره ثم تقضى عليه لحظة الإصابة. تتنازع الدولة المصرية طوال تاريخها الممتد العريق موجات من القوة والضعف فتفقد فى بعض الأحيان مناعتها أمام الفيروس المزمن. تكونت فى مخيلتنا صورة ربطت فيروس الفساد بنظام الدولة المصرية فى الأزمنة الحديثة، ولذلك تشكلت الأجهزة الرقابية كجهاز مثل الرقابة الإدارية لتحجيم شر الفساد. تناسينا أن نظام العمل فى الدولة المصرية نظام بيروقراطى يضرب بجذوره منذ آلاف السنين، والمنطقى مهاجمة فيروس الفساد لهذا النظام كعرض ارتبط باختراع الدولة نفسها. تعطينا الأبحاث التاريخية غير التقليدية فى الحضارة المصرية القديمة نظرة مشوقة عن هذا النظام العريق الدولة المصرية فنكتشف أن فيروس الفساد طارد الدولة منذ فجر تاريخها وأجهزة الرقابة القديمة كانت له بالمرصاد حتى فى أثناء ضعف مناعة الدولة. يقدم عالم المصريات الفرنسى باسكال فيرنوس كتابًا صدر بالفرنسية بعنوان «جرائم وفضائح من عهد الرعامسة» وترجمه إلى الإنجليزية الباحث فى المصريات الأمريكى دافيد لورتون تحت عنوان «الجريمة فى مصر القديمة»، وهو نفس العنوان الذى صدرت به الطبعة العربية ترجمة أحمد البشارى. يستعرض فيرنوس فى كتابه من خلال فصوله الستة نوعية وطبيعة جرائم مختلفة شهدتها مصر القديمة فى فترة الرعامسة، ولكن يستوقفنا فى هذه الجرائم النوعية المرتبطة بالفساد فى الدولة المصرية القديمة وكيفية مقاومته من خلال أجهزة الدولة الرقابية. يبتعد عالم المصريات فرينوس فى بحثه المثير والشيق عن مناقشة طبيعة آليات عمل الدولة وقتها، ولكنه يميل إلى الكشف بمهارة عن تفاصيل الأحداث التى وقعت من خلال قراءة النصوص المصرية القديمة والبرديات. يمدنا كم التفاصيل الدقيقة فى كتابه عن قضايا الفساد التى حفظها التاريخ المصرى برؤية نفهم من خلالها آلية عمل الدولة المصرية والإشارة الأوضح فى هذه الرؤية أن الدولة المصرية كيان راسخ يمرض ولا يموت ويمتلك من الآليات ما يعالج به المرض. ينفى أولا فيرنوس كم السخافات التى تروج من الأعداء والحاقدين على الحضارة المصرية القديمة بوجود قدرات خاصة تملكوها أو اتصالهم بكائنات فضائية لأن من يروجون هذه الخزعبلات ليسوا على علم. نرى نحن أن لهم غرضًا أوله سرقة هذا المجد من أصحابه وآخره هدم الهوية المصرية. «أما بالنسبة لهؤلاء الذين لديهم القدرة على دراسة التقارير الأثرية وقراءة النصوص القديمة، فالمصريون القدماء كانوا بشرا من لحم ودم مؤهلين للعظمة والضعف أسيادًا لمشروعاتهم الطموحة وعبيدًا أيضا لانشغالاتهم العادية». يفتح العالم الفرنسى ملف قضية فساد ونهب مقابر طيبة ومكان الجريمة هو الضفة الغربية للنيل المواجهة لمعابد الكرنك والأقصر. تدار هذه المقابر المخصصة لملوك مصر العظام من قبل مؤسسة ضخمة من موظفى الدولة تتنوع درجات وظائفهم من عمال صغار إلى مدراء ومسئولين كبار وكهنة للحفاظ عليها. هذه المقابر الملكية كانت مليئة بالكنوز الثمينة، وللدلالة على حجم الكنوز الموجودة فى المقابر والمعابد يقارن فيرنوس بين ما عثر عليه فى مقبرة توت عنخ آمون وبهر العالم أقل الفراعين شأنا مقارنة بتحتمس الثالث أو رمسيس الثانى.. فكيف كانت كنوز مقابرهم؟ جاءت لحظة الضعف التى أصابت الدولة المصرية فبدأ فيروس الفساد فى الانتشار وتحول الموظفون فى المؤسسة الضخمة إلى متواطئين مع عصابات سرقة الكنوز وأحيانا أخرى أصبحوا هم أنفسهم عصابة. «وهكذا كانت مجاورة هؤلاء الموتى إغراء للآخرين للتمتع بالمعيشة ولولا أن المصريين القدماء قد ضربوا بيد من حديد لما وصلنا شيء عنهم». ساعد فى تحقيق هذه الضربات رغم حدوثها فى عهود ضعف آخر حكم الرعامسة أن المجتمع سبق تنظيمه ووضع أساليب مراقبته أو ما نسميه الآن الدولة والرقابة على العاملين داخلها. جرت وقائع قضية الفساد داخل هيئة الجبانات رفيعة المستوى المسئولة عن هذه المقابر والمعابد الملكية وتورط فى عمليات السرقة والاختلاس موظفون كبار، ولكن هذا لم يمنع الدولة المصرية من إرسال الرقباء والمفتشين لمعرفة حجم الفساد المستشرى. امتلك هؤلاء المفتشون والرقباء ما نسميه الآن حق الضبطية القضائية. فحص الرقباء ما حل بالمقابر وأجروا تحقيقات موسعة شملت جميع الموظفين، والطريف أن التحقيقات شملت زوجات المتهمين ممن حصلن من أزواجهن على الثروات التى جمعوها من الفساد. تلعب الزوجة دائما دورا محوريا وممتدا فى حياة الفاسد المصرى القديم والحديث، فالجد الفاسد أعطى للزوجة ثروة من الفضة والخدم وعندما سألها المفتش أو رجل الرقابة عن كيفية الحصول على الفضة قالت الزوجة واسمها «أريانفر» إنها لم ترها، أما الخدم فأحضرهم معه من إحدى سفرياته للخارج. أجابت زوجة متهم آخر عما عندهم من خدم قائلة أنها اكتسبتهم عن طريق التبادل بمنتجات حديقتها حسبما جاء فى النصوص المصرية القديمة، وطبعا لم يصدقها المحققون فامتلاك خادم فى مصر القديمة يوازى امتلاك سيارة فارهة فى مصر الحديثة. تصيب قارئ هذه النصوص دهشة كأننا نقرأ ملفات قضية ضبطتها أجهزة الرقابة الان ونفس الإجابات الساذجة من المتهمين لإخفاء سبب تضخم الثروات غير المشروعة. تكشف التحقيقات أيضا نوعية الموظفين المتورطين فى قضايا الفساد داخل جهاز الدولة وأن أجهزة الرقابة التى حققت فى القضية أو القضايا لم تستثن أحدًا. «والأغلبية ترجع للطبقة الوسطى والدنيا (...) الكثير منهم كانوا موظفين فى الإدارات الحكومية مثل كاتب الخزانة أو مراقب الحقول وممن شاركوا مباشرة فى السرقات البعض من كبار الموظفين، بل إن زعيم إحدى العصابات التى سلبت المقابر الملكية كان «عوفن أمون» كاهن منطقة مونتو والعاملون فى مونتو كانوا تحت سيطرته».بالتأكيد الكاهن عوفن هو المثل التاريخى على أن حاميها حراميها.. تعطى التحقيقات صورة عن عرض فاسد مازال متوطنًا حتى الآن وهو دور الموظف الصغير فى رعاية الفساد حتى لو توصلت أجهزة الدولة للص وأمسكت به. يعترف أحد المتهمين المدعو «أمينى بانفر» أنه عضو فى عصابة تسرق المقابر باستمرار ويكمل اعترافه: «علم حراس طيبة بارتكابنا سرقات فى الغرب استوقفونا ثم أحضرونى فى حضرة حاكم طيبة. أنا أخذت عشرين دبنا من الذهب التى كانت حصتى فى السرقة وأعطيتها إلى كاتب منطقة تامينيو المدعو خائموبى الذى حررنى وأطلق سراحى.. انضممت لرفاقى ثانية». حلت روح الكاتب خائموبى وتشابهت الأحرف بعد آلاف السنين لتجسدها السينما المصرية باسم حاتم بدلا من خائموبى. يعطى حجم الفساد الذى شهده جهاز الإدارة فى الدولة المصرية القديمة إحساسًا بأن الأمور فلتت من الدولة، لكن فيرنوس يقول فى كتابه «رغم ذلك تمت محاكمات.. ذلك لأن هناك بعض الأشخاص قاموا بواجبهم». يقصد الكاتب هنا الرجال الذين حققوا فى هذه القضايا حتى وصل كل الجناة إلى المحاكمة وتم عقابهم. نترك فيرنوس وبحثه الشيق عن دولة مصر القديمة ونذهب لمصر الحديثة ، يستغل أعداء وجود الدولة المصرية بخبث كلمة الفساد من أجل هدم الدولة نفسها وليس إصلاحها مصورين أن الدولة هى الفساد وللتخلص من الفساد يجب هدم الدولة. تعطى الوقائع التاريخية السابقة دليل الصلاحية لفكرة الدولة وأنها الحامية للمجتمع من الانزلاق إلى الفوضى حتى فى فترات ضعفها، ثم قدرتها من خلال أجهزتها الرقابية على الشفاء من أعراض فيروس الفساد.. الذى سببه الأول والأخير الإنسان. •