طوال عقود، عانت مصر من فساد الجهاز الإدارى للدولة، وتربح كبار المسئولين وصغارهم ، لتحقيق مصالح شخصية على حساب المصلحة العامة، ولم يستطع أحد دحر الفساد والقائمين عليه، لغياب الإرادة السياسية اللازمة للقضاء عليه.. والآن: قررت الدولة الضرب بيد من حديد على الفساد، والمتورطين فيه، وأن تقدمهم للمحاكمة مهما كانت مناصبهم، سواء كانوا مسئولين كبارا أو صغاراً.. فلا أحد فى مصر الجديدة التى يبنيها المصريون بعد ثورتين فوق القانون، أو المساءلة. نعود إلى الوراء قليلا، حينما أطلق المهندس إبراهيم محلب رئيس مجلس الوزراء الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد فى ديسمبر الماضي، والتى تهدف إلى إرساء مبادئ الشفافية والنزاهة لدى العاملين بالجهاز الإدارى للدولة، سن وتحديث التشريعات الداعمة لمكافحة الفساد تطوير الإجراءات القضائية لتحقيق العدالة الناجزة، ودعم الجهات المعنية بمكافحة الفساد، والارتقاء بالمستوى المعيشى للمواطنين، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ورفع مستوى الوعى الجماهيرى بخطورة الفساد، وأهمية مكافحته، وبناء ثقة المواطنين فى مؤسسات الدولة، وتعزيز التعاون المحلى فى مجال مكافحة الفساد، والارتقاء بمستوى أداء الجهاز الحكومى والإدارى للدولة، وتحسين الخدمات الجماهيرية. وبشكل عام، يمكن تقسيم الأجهزة الرئيسية لمكافحة الفساد كما يقول عاصم عبد المعطى رئيس المركز المصرى للشفافية ومكافحة الفساد، ووكيل الوزارة بالجهاز المركزى للمحاسبات سابقا إلى 3 أجهزة رئيسية، بالإضافة إلى 90 جهازا ترتبط أعمالها بمكافحة الفساد، حيث تشمل الأجهزة الرئيسية الجهاز المركزى للمحاسبات وهو الجهاز الأعلى للرقابة المالية والإدارية فى مصر، إضافة إلى الرقابة الإدارية، ولها وظيفة شرطية تتعلق بالتحرى والرقابة الإدارية، ثم النيابة الإدارية وهى جهاز قضائى منوط به التحقيق فى القضايا المالية والإدارية، أما الأجهزة الرقابية الأخري، والتى يزيد عددها على 90 جهازا رقابيا، ونحن كرقابيين لا نقر بأنها أجهزة رقابية محايدة، لأنها تتبع الجهاز التنفيذى للدولة، ويمكن تصنيف عملها الرقابى بأنها رقابة على الذات. نأتى إلى الأسباب الرئيسية لتفشى الفساد، طوال العقود الأربعة الماضية وحتى الآن، وتشمل تغول السلطة التنفيذية، كما أن عدم وجود سلطة تشريعية منتخبة حتى الآن أدى إلى زيادة تغول السلطة التنفيذية وهيمنتها، وعدم وجود فاعلية للرقابة المتبادلة بين السلطات الثلاث، وهى أساس قيام الديمقراطية فى العالم كله، وهى التى تؤدى أى الرقابة المتبادلة إلى مواجهة الفساد فى مهده، اضف إلى ذلك ضعف الأجهزة الرقابية فى ممارسة عملها الرقابى على الجهاز التنفيذى فى الدولة، نتيجة تبعيتها وعدم استقلاليتها، بالرغم من إدعاء استقلالها وبالمخالفة للدستور الحالي، حيث يتم تعيين رؤساء هذه الأجهزة بقرار من السلطة التنفيذية، كما أن الرقابة على السلطة التنفيذية تتم عبر هذه الأجهزة، ومن ثم فإن ولاء رؤساء هذه الأجهزة فى المقام الأول للقائمين على تعيينه، لضمان استمراره وبقائه فى منصبه، مما يؤدى إلى إضعاف الدور الرقابى لتلك الأجهزة على الجهاز التنفيذي، مؤكدا أن عدم صدور قانون لتبادل المعلومات حتى الآن، ضيق مساحة حركة نشر قضايا الفساد فى وسائل الإعلام المختلفة لغياب المعلومات، فضلا عن عدم وعى المواطن المصرى بأن مدركات الفساد الواجب التوعية بخطورتها يترتب عليها بحسب تقارير العديد من الأجهزة الرقابية والمركز المصرى للشفافية ومكافحة الفساد إهدار ربع الموازنة العامة للدولة، واستفادة مافيا الفساد بهذه المبالغ والتى تتراوح بين 170 مليارا و200 مليار جنيه من موازنة العام الماضي، كما أن دورالمؤسسات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى مازال دون المستوى المطلوب فى مكافحة الفساد، فضلا عن غياب دورها الرقابى المجتمعي. أما لماذا لم نتمكن من مواجهة الفساد بالرغم من وجود عشرات الأجهزة الرقابية، فالأمر يعود فى رأى عاصم عبد المعطى إلى عدم وجود إرادة شاملة ومتكاملة للمواجهة، لدى الجهاز التنفيذي، فى التخلص من الفساد المستشرى منذ أربعة عقود مضت، فالجسد الحكومى فى معظمه مصاب بفيروس الفساد، كما أن شبكة الفساد العنكبوتية مازالت موجودة، وتسيطر على مفاصل الدولة، مؤكدا أن الفساد فى مصر يهدر مليارات الجنيهات سنويا، فى ظل غياب خطة واضحة لمكافحة الفساد، بينما أدت الإجراءات الاحترازية التى اتخذتها الدولة على مدار الشهرين الماضيين لمواجهة الفساد، إلى تحسن ترتيب مصر فى المؤشر العالمى لمواجهة الفساد إلى المرتبة 94 عالميا، من بين 175 دولة على مستوى العالم، مما يشير إلى أن مصر عازمة على مواجهة الفساد، وأنها اتخذت العديد من الإجراءات التى تمكنها من ذلك، وهو ما أدى إلى تراجعها إلى المرتبة 94 فى المؤشر العالمى لمواجهة الفساد، من بين 175 دولة، بعد أن كانت تحتل المرتبة 114 فى السابق. شيوع ظاهرة الفساد للفساد الإدارى، كما يقول الدكتور عادل عامر الخبير بالمعهد العربى الأوروبى للدراسات السياسية والإستراتيجية أشكال كثيرة منها الرشوة، والمحاباة والمحسوبية، والسرقات والاختلاسات، والابتزاز، والاحتيال، واستغلال المنصب العام فى الحصول على امتيازات خاصة، او التصرف بالاملاك العامة بطريقة غير قانونية او الحصول على بعض الصفقات التجارية او على اعفاءات ضريبية، او منح تراخيص للاشخاص او للشركات بشكل غير قانوني، إضافة إلى الواسطة التى تعد إحدى صور الفساد الاداري، مشيرا إلى أن منظمة الشفافية الدولية تصدر «مؤشر إدراك الفساد» سنويًا، وتجرى من خلاله تقييما لمؤشرات الفساد فى 175 دولة حول العالم، وعادة ما يعتمد التقييم على آراء عدد من الخبراء فى مجالات الاقتصاد والأعمال والاستثمار. وإذا رأى أحدهم أن الوضع فى بلد ما تحسّن أو ساء، ينتج عن ذلك ارتفاع أو انخفاض ترتيبه، وهذا بالضبط ما حدث لمصر فى تقرير عام 2014، حيث أشارت مصادر داخل المنظمة نفسها، إلى ان حجم الفساد فى مصر قد قلّ، فتقدمت مصر 20 مركزًا، واحتلت المرتبة 94 بواقع 37 نقطة، ولكن لا تزال هذه المرتبة سيئة للغاية، لأنها تُعتبر مصر ضمن البلاد الأكثر فسادًا. وتحتسب نقاط المؤشر على مقياس من صفر (الأكثر فسادًا) إلى 100 (الأقل فسادًا). إصلاحات ضرورية وعلى المستوى الإقليمي، فإن مصر كما يقول الخبير بالمعهد العربى الأوروبى للدراسات السياسية والإستراتيجية ما زالت أقل من متوسط دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبالرغم من التقدم الملحوظ لمصر، إلا أن التقرير ذكر بأن مصر لم تتمكن من تقديم الإصلاحات الضرورية لمكافحة الفساد، مشيرا إلى أن وجود برلمان منتخب فى السنوات القادمة، قد ينتج عنه تحسّنا فى مرتبة مصر، ولكنه سيكون تحسّنًا طفيفًا. ولكن وجود البرلمان سيؤثر حتمًا على مرتبة مصر فى مؤشر آخر، وهو «مؤشر الموازنة المفتوحة»، لأنه بعكس «مؤشر إدراك الفساد»، يعتمد على معايير موضوعية للوقوف على شفافية الموازنة. الفساد بالأرقام ويقدر حجم الفساد فى مصر خلال العام الماضى 2014، بنحو 200 مليار جنيه، أى ما يعادل 25.5 مليار دولار، بينما تشير تقارير المراكز الحقوقية، ومنها «مبادرة ويكى فساد» على حد قول الدكتور عادل عامر- إلى أن حجم الفساد خلال شهر يونيو الماضى يقدر ب3.4 مليارات جنيه، ويقدر حجم الفساد خلال شهر مايو الماضى 3.2 مليار جنيه، ليصل حجم الفساد خلال الشهرين الماضيين إلى 6.6 مليار جنيه، أى ما يعادل نحو 770 مليون دولار أمريكي. . و تشير التقارير إلى أن معدلات الفساد فى مصر مرتفعة، وقد وصل حجم الفساد إلى أن شهر يونيو الماضى شهد 71 واقعة مختلفة، معتبرة أنه «الرقم الأكبر على الإطلاق مقارنة بالتقارير السابقة لها وعلى إثرها بلغ حجم الفساد فى مجمله 3.496.823.672 جنيه مصرى من أموال الدولة». وفى شهر مايو الماضي، قدرت «مبادرة ويكى فساد» كما يقول الدكتور عادل عامر حجم الفساد المكتشف داخل أجهزة الدولة المختلفة عن تلك الفترة بنحو 61 واقعة، بلغت قيمتها 3.2 مليارات جنيه مصري، وتنوعت وقائع الفساد ما بين الاختلاس والرشاوى واستغلال الوظيفة الرسمية، وجاء إهدار المال العام فى المركز الأول، وحل الاستيلاء على المال العام بالمركز الثاني، بينما جاءت جريمة استغلال المناصب فى الدولة للتربح وتبريح الغير بالمركز الثالث واحتلت جريمة الاختلاس المركز الرابع ، فيما جاءت جريمة الرشوة بالمركز الخامس نتيجة المخالفات ، والفساد المالي، والإداري. ظاهرة قديمة جديدة الفساد فى مصر يمثل ظاهرة قديمة جديدة، وليس أدل على ذلك، من تلك الدراسة التحليلية لأسباب الفساد فى مصر قبل ثورة 25 يناير، «نحو رؤية مستقبلية لمنع ومكافحة الظاهرة»، والتى أجراها الباحث حسين محمود حسن بمركز العقد الاجتماعي، حيث أشارت الدراسة إلى أن سيادة القانون وضعف الردع العقابي، لم تكن تحترم بشكل كبير قبل ثورة 25 يناير، حيث تم إصدار قوانين تخدم فئات معينة على حساب الصالح العام، كما أن تنفيذ القانون والأحكام القضائية كان يحكمه فى كثير من الأحيان النفوذ السياسي، والقدرة المالية للشخص، والسمة الغالبة لطول إجراءات المحاكمة، الأمر الذى أضعف من قوة الردع القانونية والقضائية تجاه المفسدين، كما تكررت وقائع هروب بعض المتهمين إلى الخارج قبل المحاكمة، خاصة الأشخاص الذين كانوا مقربين من السلطة قبل ثورة يناير. وقد أدت هذه الممارسات إلى اهتزاز هيبة القانون فى أعين الناس، وأصبحوا لا يتوانون فى كسره، والتحايل عليه، لأنهم أصبحوا ينظرون إليه على أساس انه سيف مصلط على رقابهم، قبل أن يكون وسيلة لحمايتهم، وأن القانون ما هو إلا وسيلة لحماية أصحاب النفوذ. أما أسباب الفساد والمتعلقة بالإدارة العامة، فقد أشارت الدراسة إلى أن هناك العديد من العيوب فى نظم الإدارة العامة فى مصر ، والتى كان لها دور كبير فى انتشار الفساد قبل الثورة، كما دفعت البيروقراطية الحكومية، والإجراءات المعقدة، الكثيرين للجوء إلى الرشوة لتسهيل أعمالهم، أضف إلى ذلك ضعف الرقابة الذاتية فى الأجهزة الحكومية، مما شجع الموظفين الفاسدين على المضى قدماً فى ارتكاب أفعال الفساد بلا رادع. المالية العامة للدولة يضاف إلى تلك الأسباب، أن المالية العامة للدولة تدار بطريقة ساهمت كثيراً فى انتشار ظاهرة الفساد فى الدولة، فصعوبة فهم الموازنة العامة أضعف من الرقابة الشعبية على موارد المال العام، وسبل إنفاقه، كما أدت الصناديق الخاصة العديدة الموجودة خارج الموازنة العامة، إلى إضعاف الرقابة على أموالها وهى أموال عامة ونفس النقد يوجه إلى موازنات البند الواحد، كما أن الإنفاق الحكومى يشوبه الإسراف، أما نظام المزايدات والمناقصات العمومية، وإن كان منظما بشكل قانونى جيد، ويتم نشر المزايدات والمناقصات على بوابة الحكومة الالكترونية بشكل شفاف، إلا أن الممارسة كشفت عن فساد كبير فى هذا القطاع، وقد عانت مصر من أساليب منح القروض فى البنوك العامة التى كان يغلب عليها الطابع الشخصي، مما أدى إلى حصول كثير من المقربين من النظام السابق على قروض كبيرة بغير ضمانات، والهروب بها خارج البلاد. كما أن إدارة شركات قطاع الأعمال العام والخصخصة التى تمت شابها الفساد بسبب تسييس إدارتها، وقرارات بيعها، وعدم اعتمادها على معايير الشفافية، والمشاركة، والكفاءة، والفاعلية. البيئة الثقافية والاجتماعية وللبيئة الثقافية والاجتماعية فى مصر أثر فى انتشار الفساد، فالقبول الاجتماعى للفساد الصغير، والنظر إليه على أنه وسيلة مقبولة اجتماعيًا للحصول على الحقوق، واتخاذ الفساد مسميات أخرى مثل «الإكرامية، والشاي، والمواصلات » يرسخ الفساد فى الأجهزة الحكومية، ويعرقل جهود مكافحته. غياب الرقابة الفاعلة ومع أن مصر بها عدد كبير جداً من الجهات الرقابية، إلا أنها لم تؤد الدور المنوط بها بفاعلية، لعدة أسباب، أولها هناك عدم الوعى بالجهات المعنية بمكافحة الفساد، وبالتالى كيف يلجأون إلى جهات لا يعلمونها، كما أن عدم استقلالية هذه الجهات وتبعيتها جميعاً للسلطة التنفيذية، وضعف سلطاتها القانونية أثرعلى استقلاليتها، وبالتبعية قيد قدرتها على التحقيق فى فساد المسئولين الكبار، أضف إلى ذلك تداخل اختصاصات الجهات الرقابية، وضعف التنسيق بينها، مما جعل أكثر من جهاز رقابى يمارس نفس الرقابة على نفس النوع من النشاط فى نفس الوحدات الإدارية، وهو ما يمثل إهدارا للوقت والمال العامين، ويعوق الأجهزة الإدارية عن أدائها لدورها الأساسي، ويجعلها تتفرغ لإعداد التقارير للأجهزة الرقابية، وكذلك عدم الكفاية المادية والبشرية لبعض الجهات الرقابية، حيث إن عدد الشكاوى التى تقدم إلى هذه الجهات أكبر من قدراتها البشرية، كما أن سرية تقارير الأجهزة الرقابية تحرم المجتمع المدنى من مصدر مهم من مصادر المعلومات ، وتضعف الرقابة الشعبية.