فى لمح البصر ضاع مائة وتسعة وعشرون عاما من عمر القضاء المصرى، حيث التهمت نيران الحريق الذى شب بمحكمة جنوبالقاهرة الأثرية تاريخاً عريقاً لمحكمة شهدت أروقتها جلسات محاكمة الرئيس الراحل أنور السادات فى أربعينيات القرن الماضى، وهى أيضا ذات المحكمة التى حكم فيها على قتلة حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان، ولم تكن الخسارة بحريق هذه المحكمة تاريخية فقط، فالدور الثالث الذى شب به الحريق يحتوى علي قضايا نيابات شرق القاهرة وغرب القاهرة والأموال العامة لوسط القاهرة. بالإضافة إلى قضايا مهمة كقضية موقعة الجمل وملف قضية أحمد قذاف الدم وقضايا الألتراس، وقضية أحداث المقطم الأخيرة، وبعض القضايا التي لايزال يحاكم فيها خيرت الشاطر نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، لذلك لم يستبعد المستشار هانى عباس رئيس المحكمة احتماليةوجود شبهة جنائية، وبما أن المعاينة الأولية للنيابة كشفت عن أن الحريق التهم أكثر من 90٪ من الملفات الموجودة بالمحكمة، فمن حقنا أن نطرح أسئلة حول مصير آلاف القضايا المنظورة أمام المحكمة لمواطنين ضاعت حقوقهم هباء، وكيف يستمر حريق لمدة ساعات وهو على بعد خطوات من مديرية أمن القاهرة، بل على بعد أمتار من مطافى العتبة؟، وكيف بمحاكم مصر فى عصر النهضة أن تفتقر إلى نظام إلكترونى يحفظ للمواطنين حقوقهم ونظام تأمينى شامل يحفظ لتلك المنشآت الحيوية بالدولة سلامتها من الحرائق؟ وهل من المعقول أن يكون تاريخنا كله وحضارتنا العريقة مرهونة بعود ثقاب من هنا أو ماس كهربائى من هناك؟
كل هذه الأسئلة وأكثر حاولنا الإجابة عنها فى السطور التالية.
∎استباق للأحداث
فى البداية توجهنا إلى المستشار أحمد سلام وكيل إدارة التشريع بوزارة العدل، الذى أبدى انزعاجا شديدا من تصريحات رئيس المحكمة بعدم استبعاده لوجود شبهة جنائية، حيث يقول لا يجوز لأحد أن يقول وجهة نظره فى قضية لم ينته التحقيق فيها بعد، فالتحقيقات وحدها هى التى ستسفر عن نتائج، فالعالم بأسره يسير وفق تلك الآليات أما - نحن - فى مصر فدائما مانستبق الأحداث، مشيرا إلى أن المستبقين انقسموا إلى قسمين أحدهما يقول إن الحريق استهدف طمس قضايا متعلقة بأعضاء فى جماعة الإخوان المسلمين، والبعض الآخر يقول إن الحريق شب بهدف القضاء على قضايا خاصة ببعض رموز النظام السابق التى يتم التحقيق فيها مثل قضية يوسف والى وأنس الفقى وهايدى راسخ، فمع الأسف الكل يفسر طبقا لهواه السياسى، منحين فى ذلك التحقيقات جانبا، وبسؤاله عن القصور الأمنى الحالى فى المنظومة الأمنية بالمحاكم قال: إن توفير وسائل الأمان والإطفاء بالمحاكم يحتاج إلى مبالغ طائلة، وفى ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تمر بها البلاد لا أظن مطلقا أن تعطى الدولة أولوية لذلك، وبخصوص رفع الدعاوى إلكترونيا وهو النظام الذى أعلن عنه وزير العدل المستشار أحمد مكى منذ حوالى شهر، يؤكد أن الوزارة قد قررت العمل وفق ذلك النظام أكتوبر المقبل، لكنه أيضاً يستبعد القدرة على إتمام ذلك لنفس الأسباب التى تتعلق بعدم وجود موارد بوزارة العدل، وبسؤاله حول مصير قضايا المواطنين التى التهمتها النيران، يقول: لا أرغب أيضا فى الخوض فى مسألة المفقودات، فالحصر لم يتم بعد ومن الممكن أن يكون كل ما فقد هو عبارة عن أوراق غير مهمة يمكن استعاضتها، فأنا لا أحب استباق التحقيقات، وبشكل عام فإن الدور الأول فى غالبية المحاكم يحتفظ فيه بنسخة مايكروفيلم من كل القضايا، وفى تلك الحالة تعتبر النسخة الثانية بمثابة نسخة أصلية.
∎عملية منظمة
وفى المقابل، يؤكد المستشار أشرف ندا رئيس محكمة استئناف القاهرة أنه على ثقة تامة بأن الحريق تم بعملية مدبرة ومنظمة لطمس أدلة بعينها، والدليل أنه استهدف الأماكن التى تحوى دعاوى مهمة بالدور الثالث، ولم يأت على قاعات المحاكمات، ويعترض ندا على ماذكره المستشار سلام أن المحكمة لديها نسخة إلكترونية تحل محل النسخة الأصلية، حيث يقول كيف يتم ذلك ونحن فى عصر التزوير، فكيف لنا أن نثبت من نسخة إلكترونية لشيك بدون رصيد أن التوقيع المذيل به هو توقيع حقيقى وليس مزوراً، فأنا كقاضى لا يمكن أن أعتد بصورة ضوئية فى الكثير من القضايا، ويكمل بقوله: أتوقع اختفاء قضايا من المحكمة لم يتم حرقها وسيتم بيعها لأصحابها فى ظل ما نعيشه الآن من عبث، فالمحاكم بشكل عام تفتقر لنظم الأمان بداخلها، أما محكمة جنوبالقاهرة بشكل خاص فلا يوجد بها كرسى مناسب ليجلس عليه القاضى، بخلاف أنها قد تم الهجوم عليها وتكسيرها ثلاث مرات من قبل، ولم يحرك أحد ساكنا، وأنا أتساءل متى تم تغيير طفايات الحريق داخل المحكمة، هذا إن وجدت بها طفايات حريق من الأساس، رغم أنه لو قام مواطن عادى بافتتاح متجر صغير سوف يطلب منه الأمن الوطنى وسائل أمان أكثر من التى تواجدت داخل محكمة جنوب، مؤكدا أن ذلك من اختصاص صندوق أبنية المحاكم الذى يشرف عليه وزير العدل بنفسه، ويرفض المستشار أشرف ندا رواية الماس الكهربائى حيث يقول، المحكمة يفصل بينها وبين مكتب مدير أمن القاهرة سور، كما أنها تبعد على مطافى العتبة بمسافة لا تزيد على مائتى متر، ولو كانت لديهم نية صادقة لإطفاء الحريق لفعلوا، ويتنبأ المستشار أشرف ندا بمكان الحريق القادم حيث يقول، أتوقع أن تلتهم النيران مبنى دار القضاء العالى قريبا، مشيرا إلى أن المأساة التى ستتبع الحريق، هى ضياع أدلة خاصة بالعديد من القضايا، ستتسبب فى ضياع حقوق ودماء هدراً.
∎حماية تشريعية
وعلى الجانب الآخر تستنكر دكتور سهير حواس أستاذ العمارة بجامعة القاهرة ونائب رئيس جهاز التنسيق الحضارى ترديد البعض بأن المبنى غير مسجل كأثر، حيث تؤكد أن مبنى محكمة جنوب قد سجل فى عام 2009 كمبنى تراثى، وفقا لقانون 144 لسنة 2006 والمبانى التراثية لها حماية تشريعية طبقا لهذا القانون، وبالتالى فإن عملية إعادة ترميمه لابد أن تخضع لأساسيات المبنى التراثى، وترميمه بشكل عشوائى يعد مخالفة للقواعد، وترى دكتور حواس أن مبنى محكمة جنوب يكافئ مجلس الشورى الذى احترق منذ سنوات فى القيمة، فكلاهما يعود للقرن التاسع عشر، وقد قمنا فى مركز بحوث البناء بوضع أسس حماية المبانى الحكومية وتأمينها ضد الحرائق، وأصدرنا مجلداً به خلاصة أبحاث وخبرات علماء كثر فى شتى المجالات، وتختتم دكتور سهير حديثها بقولها: إن حريق محكمة جنوب والذى يعد يوماً أسود فى تاريخ القضاء المصرى ومن قبله حريق مجلس الشورى المصرى لابد أن يكونا درسا لأولى الألباب فليس من المعقول أن نبخل على تاريخنا الحضارى ببضعة آلاف من الجنيهات ونتركه يضيع