هواجس الانفصال تدق طبول الحرب في السودان 5 مشاهد مختلفة لحالة التوتر الذي يعيشه السودان حاليا شماله وجنوبه.. تنذر بعاصفة قد تتجدد معها المواجهات المسلحة التي تقترب.. وتقترب كلما اقتربنا من استفتاء تقرير المصير الذي يصوت من خلاله شعب الجنوب في يناير المقبل لخيار الوحدة.. أو الانفصال.. والمشاهد رصدناها من العاصمتين الخرطوم وجوبا بعدما أصبح هاجس توابع الانفصال وكأنه يدق طبول الحرب بين الشمال والجنوب من جديد، ونجده واضحا في الاحتشاد والزحام بمطاري العاصمتين للنازحين من الجنوبيين الذين يعيشون بالشمال ويسارعون للعودة للديار تاركين اراضي الشمال. وحالة تأهب من القوي والحركات السياسية بالجانبين ببدء برامج تسلح مكثفة وكأن ساعة الصفر اقتربت.. وهو ما رصدناه في حوارات مسجلة مع قادة القوي السياسية المعارضة المختلفة الذين لم ينكروا هذا التسلح، هذا فضلا عن توتر صامت رصدناه في استطلاع للرأي جمع عينة من السودانيين من مختلف المستويات الاجتماعية والاعمار جبنا خلاله شوارع العاصمتين نسأل المارة.. من مع الوحدة؟ ومن مع الانفصال؟ اخترقنا خلال جولتنا عالم أهل الغابة المعسكرين في قلب العاصمة الخرطوم، فاجأتنا مشاكل أيتام الحروب في الغابات، وتعاطفنا مع قصة الاطفال الأرامل، تعرفنا علي سر غزو الأموات للشوارع والميادين العامة، واكتشفنا قصة ديك النميري الذي حرم علي السودانيين التجول بشارع النيل الأزرق، وجبنا بجبل الأولياء بحثًا عن العجوز التي قهرت تماسيح النيل.. وقبل أن نغادر السودان تسلقنا الشجرة المصرية التي شيدت فوقها المدارس والمساكن والملاعب ولم يفوتنا المرور لشرب الجبنة علي رصيف المشاهير.. من الغابة الي قلب شارع الغابة .. منطقة الجنوبيين النازحين الي العاصمة الخرطوم .. وهم أميون تماما يتحدثون القليل من العربية وينتجون من الخزف الابانوسي واخشاب الماهوجني منحوتات غاية في الروعة تماسيح وأفيال وسحالي وعقارب وثعابين.. ينقلون ثقافة الغابة والحياة البدائية من النساء العاريات ومعارك السهام والرماح.. جاء أهل الغابة كما يطلقون عليهم من بين أشجار الغابات المحيطة بولاية بحر الغزال بالجنوب السوداني، يحملون فوق أكتافهم سن الفيل الطبيعي ،ليعسكروا في أحد الشوارع الرئيسية بالعاصمة الشمالية الخرطوم، وكل ما يربطهم بالمكان هو عدد من الألواح الخشبية التي يستغلونها نهارا ليضعون عليها حيواناتهم الغابية التي صنعوها من أشجار الأبنوس الخالص ويطعمونها عاج الافيال وينامون أسفلها ليلا. لم يكن من السهل الاقتراب منهم للحديث معهم عن سر رحلتهم الي المدينة وتركهم أكواخهم وزوجاتهم وأطفالهم وبيئتهم الغابية ليعسكروا في قلب العاصمة بشارع الغابة.. هم لا يتحدثون مع الغرباء من المارة الا للتفاوض علي بيع منتجاتهم الغابية التي تأخذ أشكالاً تعبر عن الحياة المحيطة بهم في موطنهم من قردة، غوريلا، تماسيح، الغزلان، والمراكب، وكل أنواع الحشرات التي ينحتونها مكبرة بجميع تفاصيلها الدقيقة، فضلا عن العصا الملونة المطعمة بعاج الفيل التي تلقي قبولا لدي كبار العائلات وشيوخ القبائل فيمسكونها للتعبير عن القوة، والقدرة علي امتلاك زمام الأمور..ولا يقل سعر القطعة الواحدة عن 200 جنيه سوداني. حاولنا في البداية التحدث الي بعض منهم فلم نجد إلا رد فعل مليئا بالعداوة الشبيهة بتلك التي يصورونها في تماثيلهم التي يفترشونها أمامهم للبيع فهم عندما ينحتون البشر يصورونهم بشكل فيه الكثير من ملامح الغضب والقوة والجبروت، وغالبية منحوتاتهم الخشبية في وضع الحرب أو الدفاع عن النفس، وكأنها مازالت تقف معهم في قلب الغابة، إبداعهم الفني حقا يبهرك بدقته وكأنه يعبر عن حالة يعيشونها بداخلهم تسكنها كل مظاهر حياتهم الغابية .. كررنا التجربة للحديث عن ما ينحتونه والسؤال عن شرح بعض المنحوتات ،ولم نفلح ففي المرة الثانية تم التعامل بازدراء أكثر بعدما وضح أن هدفنا ليس هو الشراء.. وما كان هناك من مخرج إلا الانتظار علي الصف المقابل ومراقبة الأجواء للبحث عن مدخل جديد لاختراق عالم أهل الغابة ومعرفة أسراره التي من المؤكد لغتها هي تلك الأشكال من الطيور والحيوانات تعبر عن رموز لا يعرفها إلا أصحابها ويتفاعلون بها، مثلها مثل اللغة الهيروغليفية القديمة. وبالفعل بفضل التأني في مراقبتنا وجدنا أحد العجائز الذي كان يشرف علي الجميع ويرجعون اليه من وقت لأخذ المشورة سواء .. وكان العم أناكو دينك هو مدخلنا حيث كان يجلس ليدخن "البايب " أقتربنا وألقينا التحية بالانجليزية فرد علينا بالعربية ..ثم سأل "هل تعرف شكوكو"، وكان الفنان المصري الكوميدي شكوكو هو كلمة السر التي فتحت لي الباب علي مصرعيه لدخول عالم اهل الغابة .. تحدث العم أناكو الذي يعرف القليل من العربية وأخذ يروي لنا قصص ونوادر أصدقائه من الجنوبيين الذين يأتون لأول مرة من غابات الجنوب الي المدينة، بصراحه لم يكن يفهم كلانا من كلمات الآخر الكثير، ومع ذلك كنا نتبادل الضحك من الأعماق ،ومن أكثر الأشياء التي استغرب لها العم أنكو هي حال أصدقائه الذين كانوا يلبسون الجلود ويمشون حفاة، وأصبحوا يتسوقون من الأسواق السودانية ملابس من القماش. تحدثنا أيضا الي صومائيل والذي حاولنا أن نفهم منه كيف تتم عملية إحضار هذه الكميات الكبيره من سن الفيل الطبيعي، وهل تتم بعد مهاجمة الافيال ..إلا أنه كان يصر علي كلمة واحدة من الغابة .. سألناه عن رأيه في الاستفتاء، وقال أنه يخشي من الانفصال أن يتم طردهم من شارع الغابة بالخرطوم ولا يسمح لهم بالنزوح لبيع منتجاتهم . وتدخل العم أناكو قائلا إن الانفصال هو الأفضل، وهو لا يعني الفرقة بين الشعبين بل هو مجرد وضع فواصل يمكن الجنوب من ادارة شئونه بنفسه، وأنه لا يتوقع طرد الجنوبيين من أراضي الشمال في حالة الانفصال. وعلق نوير أبانوب بأنه لا يريد حروبا جديدة بعدما فقد عدد كبير من أبناء قبيلته كل ثروتهم من الأبقار، وسيظل في مكانه في شارع الغابة يمارس عمله ويبيع منحوتاته ولن يترك مكانه بغض النظر عن نتيجة الاستفتاء. .. النازحون من الغابة الي شارع الغابة فقدوا كل شيء بسبب الحروب ولم يبق لهم الا الابداع . والذي تراه متأصلا في اعمالهم .. جاءوا بعدما راحت ثروتهم لا بيوت ولا ابقار يعسكرون في قلب العاصمة فقط من أجل فرصة جديدة للحياة..