أعشق الإسكندرية عروس البحر الأبيض المتوسط التي زرتها لأول مرة في عام 1969م حينما كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية ثم توالت زياراتي للمدينة الجميلة خلال الاجازات الصيفية، وكلما أزور هذه المدينة تنتابني رغبة شديدة لتحقيق حلم أسرتي التي ترغب في اقتناء شقة صغيرة لعلها تكون ملاذا لهم من قيظ الصيف ودرجة الحرارة الشديدة في أسوان والتي جاوزت حاجز الأربعين خلال شهر رمضان الماضي. مازلت اتذكر واتحسر علي الفرص الكثيرة التي أهدرتها في اقتناء شقة صغيرة في الثمانينيات والتسعينيات حيث أخبرني أحد الأقارب ذات مرة أن هنالك شقة في منطقة سموحة لا يتجاوز سعرها 35 ألف جنيه مصري، أي والله شقة مشطبة بها ستائر بهذا السعر، كما شاهدت شقة ذات حجرتين في منطقة العجمي البيطاش بمبلغ 27 ألف جنيه وأخري ذات ثلاث حجرات كاملة التشطيب في منطقة الهانوفيل بمبلغ 35 ألفا بالطبع ترددت في اتخاذ القرار وانقضت السنوات لتتواري هذه الأسعار وتختفي تماما لدرجة أن أحدا سواء كان بائعا أو شاريا لا يجرؤ أن ينطق بها أو يذكرها إلا في جلسات السمر. الغريب أنني قررت إعادة الكرة في صيف 2010 فتوجهت إلي الإسكندرية ظنا مني أن الأسعار قد تحركت تحركا بسيطا أو في أقسي تقدير تضاعفت لأفاجأ بأسعار خارج نطاق الخيال، فشقة سموحة التي ترددت في شرائها قد تعدت حاجز المليون وشقة البيطاش بلغت 100 ألف جنيه، أما شقة الهانوفيل فقد بلغت 160 ألفا لقد زرت مناطق شعبية «زعربانة والعصافرة» في شرق الإسكندرية وهي مناطق تشتهر بضيق حواريها وأزقتها حيث لا يتعدي عرض معظم الشوارع مترا أو مترين لكنها في نفس الوقت تكتظ بالأبراج الشاهقة ذات الخمسة عشر طابقا وكلها مبان شيطانية شيدت في جنح الظلام بعيدا عن أعين المسئولين الناعسة، ورغم تواضع هذه المناطق الشعبية غير أن شقة صغيرة تتكون من غرفتين بلغت حوالي 160 ألفا. شعرت بإرهاق وملل بعد المجهود المضني الذي بذلته مستقلا القطارات التي تمر بمناطق شرق الإسكندرية والحافلات التي تتجه إلي غرب الإسكندرية في العجمي البيطاش والهانوفيل وابو يوسف والكيلو 21 وغيرها فقررت تلبية دعوة أحد الأقارب لحضور حفل خطوبة ابنته في منطقة مشهود لها بالهدوء والرقي وهي الابراهيمية، ذهبت مع أحد الأصدقاء إلي حفل الخطوبة واندهشت حين شاهدت الفيللات الجميلة التي كانت تزين المنطقة وقد تحولت بقدرة قادر إلي أبراج شاهقة أصغرها لا يقل ارتفاعه عن 12 طابقا في منطقة لا ينبغي أن يزيد ارتفاع أي مبني علي 6 أدوار لاشك أن النتيجة الطبيعية لهذه المخالفات الصارخة أنك لن تستطيع أن تجد مكانا لانتظار السيارة، الأمر الذي دفع صديقي إلي أن يقود سيارته إلي محطة الرمل ثم يعود بالترام إلي موقع الحفل، سألت أحد سكان المنطقة لماذا لا يحاسب أصحاب هذه الأبراج التي باتت تنتشر في جميع مناطق الثغر؟ جاءت الاجابة التي لم تخطر علي البال وهي أن أي مسئول لن يستطيع أن يفعل شيئا لهذه المخالفات ولن يستطيع أن يتوصل إلي صاحب البرج المخالف حتي لو استعان بالمخبر الشهير كولومبو لأن أوراق هذه الأبراج لا تحمل الاسم الحقيقي لصاحب البرج بل تشير إلي أن صاحبها هو الكحول «لنفتح الكاف وتشديد الحاء» والكحول هو شخص متطوع يحصل علي نحو 50 ألف جنيه من صاحب الأرض الذي يسعي لتحويلها إلي برج مخالف بحيث تستخرج جميع التراخيص باسم الكحول الذي يستقبل المخالفات والإنذارات والأحكام الغيابية بالغرامة والسجن بدلا من صاحب البرج الذي يتفرغ لبيع الوحدات التي تجاوزت الواحدة منها حاجز النصف مليون جنيه. همست في أذن أحد الأصدقاء في الحفل بشأن الشقة التي أبحث عنها فنصحني بمطالعة جريدة الوسيط التي تشتمل علي إعلانات العقارات. قبل شهر رمضان بيومين فقط وجدت طابورا طويلا أمام مبني في مواجهة سينما أمير في طريق الحرية بالإسكندرية اعتقدت للوهلة الأولي أن الواقفين ينتظرون كرتونة رمضان التي يوزعها أعضاء مجلس الشعب تحسبا للانتخابات القادمة لكنني اكتشفت سريعا أنهم ينتظرون التوزيع المجاني لجريدة الوسيط التي تظهر صباح كل يوم اثنين والتي تحتوي علي إعلانات عن وظائف شاغرة وعقارات للبيع وأجهزة مستعملة تصفحت الجريدة حيث وجدت شققا عديدة في مناطق متفرقة، لقد اندهشت حين وقعت عيناي علي شقة بمنطقة الهانوفيل تتكون من حجرتين ومنافعها ومزودة بالكهرباء والمياه والغاز وسعرها خمسون ألف جنيه، اتصلت بصاحب الشقة علي التليفون المدون بالجريدة فاكتشفت أنها شقة مساكن مازال صاحبها يسدد أقساطها فصرفت النظر عن شراء شقة وحزمت حقائبي وتوجهت إلي محطة القطار عائدا إلي القاهرة لأشهد أول يوم رمضان مع الأسرة.