اكتب لكم من "الجونة" لؤلؤة الغردقة التي اخترعها سميح ساويرس، الأقل شهرة من نجيب ساويرس ولكنه ليس أقل إنجازا. فسميح ساويرس مسكون بالسياحة ومشاريعه السياحية تتصدره.. ومشروع الجونة واحد من ثمرات عقله وطموحاته. قد كانت هذه أول مرة أزور الجونة وأقيم فيها أسبوعا كاملا، وأشهد أني عرفت معني عبارة سياحة اللاشيء.. فأنا أصحو كما أشاء ودون أي منبه يقطع رنينه عمق استغراقي في النوم وأحلق ذقني علي مهلي والموبايل مغلق وأتناول وجباتي في وقت محدد.. وأقرأ الصحف بتأن شديد.. ولما كنت سعيدا بعائلتي الصغيرة فقد كنت أقضي النهار كله حتي الرابعة علي الشاطيء الذي يضمن لأي إنسان خصوصيته، وكان حفيدي يعوم في الماء، ماء البحر ثم يلعب الألعاب المائية بسعادة بالغة يصاحبه مدربه حتي لا تحدث حوادث.. كنت أرقب الناس حولي واندهش! مبعث دهشتي أن معظم نزلاء الفندق من الأجانب من شتي بلاد العالم يعيشون حلاوة البحر والمكان والمطاعم المعلقة علي كتف جزيرة كأنهم يعبئون المتعة في زجاجات وأشعر بضحكاتهم المجلجلة، وأسمع صراخ أطفالهم في اللهو البريء.. وأكاد أصل إلي قناعة بأن الأجانب أكثر استمتاعا بشاطيء الجونة ولياليها ومطاعمها المتنوعة منا نحن المصريين.. فالأجانب يتصرفون علي سجيتهم ونحن "ننظر" للاَخرين ويهمنا منظرنا أمام الاَخرين.. والأجنبي رجلا أو امرأة في أي عمر ينزلون البحر ويضحكون ويرش بعضهم بعضا بالماء، والأجانب لا يتأنقون وهم في الطريق للشاطيء مثلما أري أنيقات مصر في الجونة.. إنهم يرتدون ملابس بسيطة عادية تسترهم فقط وفي المساء تراهم في ثياب أخري.. وعلي الشاطيءإذا سمعوا عن منطقة جديدة الذهاب إليها باللنشات أسرعوا وذهبوا للجزر البعيدة، فهم يحبون الإحاطة بالمكان ومعرفة نوع أسماك البحر فيه ومدي أعماقه ولون صخوره.. إنهم مغرمون بمعرفة كل شيء عن مكان جديد تطئه أقدامهم تحت سماء مصر وبالذات علي شواطئها المبهرة، لعل الأجانب يملكون ثقافة الاستمتاع بالوقت أكثر منا. هل هي ظروفنا الاقتصادية؟ ربما! ولكن ثقافة الاستمتاع لا ترتبط بالعامل الاقتصادي ولكنها مرتبطة بالرغبة في المعرفة والعطش لأنهم والإحاطة أن المصري "يتسلي" والأجنبي يتسلي ويستفيد. لقد قضيت صيفا حارا فلم تهدأ أجهزة التكييف لحظة في البيت أو المكتب أو السيارة وكنت مثل كثيرين أنام في التكييف البارد رغم تحذير الطبيب وكنت أفشل في تجديد توقيت جهاز التكييف ولذلك كنت أشعر أن المكان المكيف نعمة في لهيب الصيف الحار.. لكن هواء الجونة الجميل الذي يحمل نسمات البحر كان أول هواء استقبله بدون تكييف.. إنه هواء مكيف رباني، هواء الجونة بجماله ولثمه للوجوه أعلن إضراب الذباب إلي الأبد، وأعلن اعتصام الناموس إلي أجل غير مسمي! ففي الاسكندرية مثلا وفي العجمي علي وجه التحديد هناك كرنفال للذباب والناموس ربما لأن العجمي مازالت علي قائمة مناطق الصرف الصحي الذي مازال أملا في صدور "العجميست" وهو تعبير يطلق علي من يسكن العجمي.. هواء الجونة أول هواء غير ملوث استنشقه وأحس بكلمة اكسجين! الجونة في المساء عروس متأنقة بعطر الذوق ومازال عدد الأجانب في المطاعم المتناثرة كبيرا.. وسؤال في رأسي: كيف يكتشف الأجنبي الأماكن الجميلة في مصر حيث الهدوء والأمن والشوبينج ولا يوجد تلوث صوتي يصم الاَذان.. لعله أجمل شواطيء العالم طوال العام. لأول مرة أنظر إلي السماء فأجدها مرصعة بالنجوم وكنا بسبب الستارة السوداء أو "السحابة السوداء" لا نري النجوم فالسحابة تحجبها.. السماء صافية والجو جميل وبديع والتراب أصابه الخجل واختفي.. الأمن متوافر، والمواصلات للانتقال لقلب المدينة أو مينائها مجانا وسلامة الأطفال قائمة علي قدم وساق. شكرا سميح ساويرس رجل الأعمال المتواضع البعيد عن أضواء الشهرة الذي يبني المسجد والكنيسة في وقت واحد.. إن اختراع الجونة وصل لاَخر الدنيا، لأنها مدينة ضمت المدرسة والمستشفي والبنك، ومن حق "الغردقة" والدة الجونة أن "تغار" منها!