يتحدث هذا الكتاب عن طموح الفيلسوف والعالم نحو امتلاك السلطة دون رجل السياسة باعتباره صاحب المعرفة العلمية. وعلي هذا الأساس تأتي صورة رجل العلم والقلم مضادة لصورة رجل السيف، فالأول ينقد اختيارات الثاني، والثاني يحاول شراء ذمة الأول فيما يعرف ب"فقهاء السلاطين" كوسائل "لتجميل مجالس الملك". ويؤكد المؤلف وهو مفكر مغربي علي أن إشكالية السلطة والمعرفة في الإسلام تزداد وضوحا في الفترات الحرجة وهي فترات الفتن، التي تتضح عبرها مسئولية رجل العلم في الفهم والفتوي والبيان وعملية الإنقاذ من هذا التراجع والانحلال. وقتها يصبح العالم كما يطلق عليه ابن القيم "حكما علي الخلائق"، ومكلفاً بمسئولية "التوقيع عن الرب". لكن العكس هو الحاصل بحسب رأي المؤلف، فهو يحيلنا إلي ما اصطلح إليه باسم "فقهاء العصر" أو مفتي العصر"، وهم نوع من رجال العلم أصبحت جل أعمالهم منحسرة في مجرد كيفية آداء العبادات والمعاملات واستصدار الفتاوي الغريبة. من ناحية أخري يشرح الكتاب كيف اضطلع "علم أصول الفقه" بالتحديد - كأخطر علوم الإسلام كما يعتبره المؤلف - بإشكالية السلطة والشرعية بين رجلي العلم والسياسة. ويدعو خلال استعراضه للأعمال التقويمية للفكر الأصولي إلي إعادة النظر في هذا العلم منذ مراحل النشأة الأولي وضرورة ربطه بالعوامل المجتمعية والفكرية والسياسية المحيطة به. يبحث د. عبد المجيد الصغير في كتابه "المعرفة والسلطة في التجربة الإسلامية - قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة" في العلاقة بين السلطة السياسية والسلطة المعرفية في الإسلام، والتداخل بينهما. ويفرق بين الممارسة السياسية للقوة وبين مفهوم السلطة، فالمعرفة في حد ذاتها قوة وسلطة مؤثرة ومنافسة لسلطة رجل السياسة. في حين أن السياسة تدبير، والقوة عكس التدبير وتستوجب العنف. ينتقل المؤلف إلي توضيح أبعاد الصراع بين رجل العلم ورجل السياسة علي إثبات الشرعية. حتي المتصوفة الذين نظن فيهم الزهد، يسعون نحو امتلاك سلطة تنازع سلطة الفقيه أو العالم. وهذا الأخير مشكلته أنه لا يستطيع اتخاذ موقف الحياد من السلطة حتي لو رغب في ذلك، فهو مطالب دائما بتحديد ولائه من السلطة. بخصوص موقف التراث الفقهي والفكر الأصولي من هذا الصراع، يشرح الصغير أن دراسات الباحثين الغربيين والمستشرقين في هذا المجال لم تستطع تقويم الفكر الأصولي تقويما شاملا يزاوج بين التنظيرات والمواقف العملية. وذلك راجع في نظر المؤلف إلي قصور المناهج التي ورثها الاستشراق عن القرن التاسع عشر، وقيامها علي أيديولوجية "غزو الشرق المريض". فيما آمن بعض المستشرقين بعدم ارتباط الإسلام بأي نظام سياسي من الأساس! وفريق ثالث قطع ب"عقم" علم الأصول منذ لحظة تأسيسه مع الإمام الشافعي. ويري المؤلف أن الراحل د. نصر حامد أبو زيد قد تبع هذا النوع من الدراسات الاستشراقية، وانتقد في الشافعي طغيان الرؤية الشكلية الحرفية للنصوص، وذلك في كتابه "الإمام الشافعي والأيديولوجية الوسطية"، مما حدي بالدكتور حسن حنفي إلي اعتبار أبو زيد "أقرب إلي الفكر الشيعي الخارجي وفكر المعارضة السياسية". أما في نظر المؤلف ذاته فإن أبو زيد اتبع مواقف سياسية اسقاطية، واستخدام "صكوك اتهام" جاهزة ليرد بها علي معاصريه ومعارضيه الذين لاحقوه سياسيا وطاردوه فكريا، "فلم يجد بديلا للانتقام من خصومه غير الحط من قيمة نماذجهم القديمة". غير ذلك يفرد المؤلف فصولا لمحاولات تأريخ الفكر في الإسلام. ويؤكد أن الفكر الأصولي علي عكس ما يروج له في الأدبيات الغربية هو مرادف للتفتح ورفض التقليد ومراعاة للمصالح العامة، والإيمان بجدوي الحوار وحرية النقد والقبول بالتسامح وإمكانية الاختلاف. وأن الكتابات السياسية الفقهية والأصولية ترمي إلي تطبيق السياسة الشرعية، وتعميم مكارم الأخلاق. فضلا عن ضمانها لما أسماه "حق التقلب في العيش"! يسير المؤلف علي ما سار عليه ابن خلدون من التفريق بين نظام الخلافة والممارسة السياسية في عهد النبوة والخلفاء الراشدين وبين بداية تشكل الدولة الأموية التي قامت علي "العصبية". لكنه يعتبر أن مراسم الخلافة التي استمرت حتي جزء من قيام الدولة العباسية، تراجعت عما كان يعمل به في دولة الخلافة الراشدة المبكرة. التي كان لسلطان القلم والكتاب فيها نفوذ عن سلطان العصبية والسيف. وينتهي المؤلف إلي وصف التجربة السياسية التي نمت في ظل ما يسمي بدولة الخلافة أو "إمارات التغلب" بتجربة "دولة سلطانية" مستأثرة. حتي صار الخلفاء في ذلك الوقت أشبه بالسلاطين، يعتقدون بأنهم يؤسسون ل"ملك طبيعي"، وصار السلطان يساوي نفسه بالإله، يشاركه في أكبر تجليات نفوذه وهي الطاعة والخضوع. ينبه المؤلف إلي خطورة البعد الديني في العالم الإسلامي أو كما يسميه "التسلط باسم الدين". كأن تتعرض النصوص الدينية إلي الاستغلال والتوظيف والإسقاط والتلاعب والشحن بدلالات سياسية محدودة الأهداف. وحينها تتقابل مفاهيم مثل الحكم والفصل مع مفهوم الجبروت، ويتم تحميل مصطلحات دينية بحتة كالهدي والصراط بدلالات سياسية سافرة. ويحدث نفس الشيء مع المفاهيم الأصولية، التي تقع ضحية لتأويلات التوظيف السياسي لأفعال الطاعة والبيعة والإجماع. وهي نفسها المفاهيم المسئولة عن صورة رجل السلطة المنطبعة في المخيلة العربية والإسلامية، والتي جعلته مرادفا لمعاني الاختلاف والغرابة وعدم المس والعصمة والقداسة.