إذا تأملنا خريطة حوض المتوسط أواخر العصور الوسطي، وبعد زوال ملك المسلمين في الأندلس، فإننا نجد حوض المتوسط عبارة عن مستطيل ضلعه الجنوبي عربي إسلامي، وضلعه الشمالي أوروبي مسيحي، وضلعه الشرقي إسلامي عربي و«تركي» وضلعه الغربي أوروبي مسيحي. كانت أوروبا - في ذلك الوقت - تعيش ظروفا مشابهة لظروف العرب والمسلمين.. كان للعرب والمسلمين خليفة أو سلطان يمثل السلطة الزمنية والدينية، إلا أن سلطته كانت مجرد سلطة رمزية طقسية «ينادي باسمه علي المنابر وتسك النقود باسمه»، بينما كانت السلطة الحقيقية في أيدي حكام محليين، هم - عادة - رؤساء مجموعات الجنود، أو العصابات القبائلية، أو المملوكية أو الميليشيات الدينية والمذهبية. وعلي الجانب الشمالي من المتوسط، في أوروبا المسيحية، كانت للبابوات نفس السلطة الرمزية الطقسية، كما كانت السلطة الفعلية في أيدي مجموعات قطاع الطرق والقراصنة والبارونات ورؤساء الأسر القوية. لم تكن معالم الدولة الوطنية (State) قد اتضحت بعد في شمال المتوسط وجنوبه، إذ كانت الدول لاتزال في مرحلة جنينية حيث كان النفوذ البابوي في الشمال يمثل كيانا هشا لتجمع مسيحي عام، وكان الخليفة أو السلطان لدي العرب والمسلمين يمثل نفس الأمر. العقل في التاريخ في تحليل تطور الجماعات، يعتمد علي تقسيم الحضارة إلي «بنية عليا» «وهي البناء الثقافي للجماعة من دين وقانون وأدب وفنون...» وبنية تحتية «وهي البناء الإنتاجي للجماعة من زراعة أو رعي أو صناعة...» وبدهي أن أي تطورات في البنية التحتية تؤدي إلي تأثيرات في البنية العليا. كانت الجماعات الأوروبية في شمال المتوسط، في ذلك الوقت تعمل بالرعي والزراعة والحرف المتصلة بهما... كذلك كانت الجماعات العربية والإسلامية.. لهذا فإن كلا من المسيحية والإسلام «كإطارين للبني العليا» جري فهمهما وتفسيرهما بما يتفق والبني التحتية لمجتمعات الرعي والزراعة. والزراعة والرعي «وما يتصل بهما من حرف» أنماط إنتاج ذات صلة بطفولة الإنسان وسذاجته في تفسير الظواهر.. تماما كما أن التقدمين العلمي والصناعي يؤديان إلي عقلانية الإنسان في نظرته للظواهر.. يقول فردريك هيجل في «العقل في التاريخ»: «... كما أن الطفل الصغير لا يستطيع أن يعلل اضطراب أوراق الشجر بفعل الهواء.. فإن الرجل البدائي والساذج لا يستطيع أن يجد علة للمرض والكوارث والحاكم المستبد غير الجان والسحر الأسود وآلهة الشر، أو أي تفسير آخر يقدمه له كاهن التوتم أو كاهن الدين». ومن المفيد أن نذكر أن هيجل وجد توازيا بين الدولة الاستبدادية «دولة السلطان» والبعد عن العقلانية وشيوع الخرافة والتفسير التوتمي السحري للدين.. ففي ظل استبداد مملكة بروسيا «مملكة ألمانية في نهايات العصور الوسطي قبل الوحدة الألمانية» عاد راهب زار المنزل الذي ولد فيه المسيح في بيت لحم، فأقام بيتا ريفيا بجوار أبروشيته، ثم ادعي أن بيت «يسوع» طار وفضل هذا المكان.. وجمع الراهب كثيرا من أموال وذهب وحلي المرضي والفقراء والبسطاء، الذين تمسحوا ببيت يسوع رجاء الشفاء، أو طلبا لرحمة السماء.. كذلك وجد هيجل توازنا بين التخلف والاستبداد وشيوع ثقافة عامة مناهضة للمرأة.. إذ كانت تتردد علي الألسنة أسئلة مثل: هل للمرأة روح كروح الرجل؟! هل المرأة الصالحة تدخل الجنة؟!.. وفي مثل هذه الجماعات المتخلفة يصير الدين موجودا بصورة كثيفة في شئون الناس: في ميلادهم ووفاتهم وفي زواجهم وتعليمهم، وفي طعامهم وشرابهم.. «كان رب الأسرة المسيحي مكلفا بترديد دعاء مسيحي قبل الطعام». .. وتقدمت الحضارة في الشاطئ الأوروبي المسيحي من المتوسط، وظهرت الدولة المدنية وتحولت الورش الصغيرة إلي مصانع.. وبدأ التنوير (Renaissance.. إعادة الحياة) وبدأ العلم الحديث: ظهرت نظريات جديدة في الفيزياء والفلك والكيمياء.. وهكذا حدث تحول في البنية التحتية الإنتاجية، الأمر الذي كان له صداه في البني العليا «الدين، الثقافة، القانون، الأدب، الفنون».. وأهم هذه التحولات العقلية عند هيجل: الدولة المدنية، أو بزوغ ما سماه «سلطان الدولة».. «وحدث الفصل الكامل بين الدين والدولة، وعادت الكنيسة إلي حجمها الطبيعي «كمؤسسة وطنية»، وتوقفت - إلي حد كبير - عن «التلويح بالآخرة» وهو أمر يميل إليه رجال الدين حيث يبرز سلطانهم الخطير علي مصائر البسطاء»، و«استرجع الفكر الجديد ما سبق أن قاله المسيح حين عرضت عليه صورة قيصر علي أحد وجهي العملة» «دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»». الزلزال الفكري وبديهي أن هناك أمورا «ثقافية» أخري عجلت بالنهضة الفكرية الأوروبية المسيحية منها: المرتكز اليوناني القائم علي الحرية والمنطقية «عادت إليه أوروبا عن طريق العرب والمسلمين!!!».. ومنها: الأعلام المؤثرون كابن رشد «وهو عربي مسلم!!» ومن جاء بعده مثل روسو ورنتسكيو وفولتير.. ومنها: الزلزال الفكري الذي أحدثته الثورة الفرنسية أخيرا. وانتشرت دولة العرب المسلمين في جنوب المتوسط في دوائر متعاقبة شرقا وغربا.. وقام بعبء الفتوحات العرب المؤمنون بالعصبية الإثنية «محمد عابد الجابري، العصبية والدولة عند ابن خلدون».. وتقدمت الدولة العربية الكبري زمن الأمويين وظلت البني التحتية الإنتاجية كما هي «رعوية زراعية» ووافقها البناء العلوي الإسلامي.. ثم كانت الدولة الإسلامية الكبري زمن العباسيين والتي ضمت قوميات كثيرة كالفرس والمصريين والعراقيين والسوريين والترك وغيرهم.. واستعانت الدولة الإسلامية في أجهزتها الإدارية بميراث تلك القوميات، وبخاصة القومية الفارسية صاحبة الحضارة التي يطمح إليها العرب بتفوقها الإداري ومرتكزها الديني المجوسي.. كما استعانت الآداب السلطانية الإسلامية بالآداب السلطانية الفارسية.. بل تماثلت «بوقات وطبول» ملوك الفرس «ببوقات وطبول» سلاطين العرب والمسلمين.. (ونستخدم هنا إشارة المتنبي حين مدح سيف الدولة الحمداني وذم غيره من «البوقات والطبول»): إذا كان بعض الناس سيفا لدولة ........ فبعضهم بوقات لها وطبول ورددت البوقات العربية والإسلامية من خدم السلاطين تلك المحفوظات الشهيرة من مثل قول أردشير «الملك الفارسي» «... اعلموا أن الملك والدين أخوان توأمان، لا قوام لأحدهما دون الآخر، لأن الدين أس الملك، ثم صار الملك بعد ذلك حارس الدين، فلابد للملك من أسه، ولابد للدين من حارسه، لأن من لا حارس له ضائع، وما لا أس له مهدوم.. واعلموا أنه لن يجتمع رئيس سري للدين، ورئيس معلن للملك في مملكة واحدة، إلا انتزع الرئيس في الدين ما في يد الرئيس في الملك، لأن الدين أس، والملك عماد، وصاحب الأس أولي من صاحب العماد». وبدأت «بوقات وطبول» الآداب السلطانية تعزف للسلاطين وتتجه إلي تفسير الإسلامي بواقعية برجماتية بعيدة عن القيم الإسلامية المعلنة، إن لم تكن مضادة لها: «الناس سواسية كأسنان المشط» مبدأ إسلامي معلن.. لكن واقع العرب والمسلمين طبقي كغيرهم، بل جري ترتيب الناس: «السلطان - الخاصة - ثم الأوباش أو الزعر جمع أذعر وهو من لا خلاق له». «الخمر محرم» مبدأ إسلامي معلن بل يحد شارب الخمر علنا.. ومع هذا فما من شاعر مسلم أو عربي إلا وقد تغني بالخمر، وبدأ بها بعض قصائده.. بل إن كعب بن زهير، وفي حضرة الرسول -صلي الله عليه وسلم- شبه فم سعاد صاحبته بمنهل بلراح معلول «مورد ماء ممزوج بالخمر = الراح» والثعالبي في «آداب الملوك» يؤكد أحقية الملوك والسلاطين في التلذذ «بنعمة النبيذ».. كذلك ينصح «نظام الملك» كل السلاطين المسلمين بضرورة تخصيص وقت «للجلوس مع الندماء» ترويحا عن النفس. أول القصيدة كفر «الحاكم أو السلطان واحد من خلق الله» مبدأ إسلامي معلن.. إلا أن الأبواق المحيطة بالسلاطين والحكام تعتبر الحاكم «كائنا مفردا في شخصه «الاسم، اللباس، المأكل..» وفي ظهوره «مجالس الحكم مجالس اللهو، صور الظهور أمام الرعية».. بل كثيرا ما حدث تشبيه الحاكم بالله مدح أحد الشعراء العزيز بالله الفاطمي، فبدأ قصيدته التي ضرب بها المثل «أول القصيدة كفر» فقال للعزيز: ما شئت لا ما شاءت الأقدار ...... فاحكم فأنت الواحد القهار يقول الشيخ علي عبدالرازق في «الإسلام وأصول الحكم» عن جوقة السلاطين: «إذا ذكروا واحدا من الملوك أو السلاطين رفعوه فوق صف البشر، ووضعوه غير بعيد عن مقام العزة الإلهية، لأن الله «هو الذي يختار الخليفة، ويسوق إليه الخلافة، والسلطان هو ظل الله في الأرض». «والسلطان ملزم بالعدل وحسن توزيع الثروة بين المسلمين» هذا مبدأ إسلامي معلن.. إلا أن الجاحظ «وهو من أوائل من كتبوا في الآداب السلطانية» يقول في «التاج في أخلاق الملوك»: «وأولي الأمور بأخلاق الملك هو التفرد، فلو أمكنه أن يتفرد بالماء والهواء، وألا يشرك فيهما أحدا فليفعل(؟!) فإن البهاء والعزة في التفرد». هذا الاتجاه في النظر إلي السلطان اتجاه «شرقي».. و«شرقي» لا تعني المكان، بقدر ما تعني طبيعة التوجهات المؤلهة للحاكم والمعطلة لتقدم الجماعة «أو هي - كما يقول هيجل - روح عامة معوقة لسمو الجماعة وتقدمها ومؤسسة لروح الاستبداد.. وأينما وجدت هذه الروح فثمة الشرق بصرف النظر عن الموقع الجغرافي». ساند الإمام أبوحامد الغزالي «بالرغم من مثالياته في إحياء علوم الدين» بواقعية لا تقل عن واقعية «مكيافللي» في «الأمير»، ساند السلطان ودولته في «التبر المسبوك» ولم يتطرق إلي الخلافة كمفهوم سياسي إسلامي(؟!!). ليس الغزالي وحده هو الذي نحي هذا المنحي، فابن تيمية في «السياسة الشرعية» وتلميذه ابن قيم الجوزية في «الطرق الحكمية» بل معظم فقهاء المسلمين، قد مالوا إلي واقعية سياسية بعيدة عن مثاليات الدين.. وعزف الجميع للحاكم مقولات مريحة ومبررة للاستبداد، من مثل ذلك المبدأ الواقعي القائل: كل ما هو صالح سياسيا ونافع دنيويا يكون شرعيا.. فلكل سلوك سياسي سند شرعي، وإن تعذر هذا السند فيجب خلقه.. وهذه مهمة من مهام «الفقهاء المصاحبين للسلطان».. بل إن بعض هؤلاء الفقهاء ضمّنوا تآليفهم أبوابا بعنوان «الحيل الشرعية»(!!!)، ومن عجب أنهم غطوا علي إهدارهم للمثل العليا الإسلامية، برفعهم من شأن المظاهر الشكلية كاللحية والحجاب.. وهكذا ترسخ علي الشاطئ الجنوبي من المتوسط.. «دولة السلطان». الأنبياء الكاذبون تخلصت الجماعات البشرية المسيحية في الشاطئ الشمالي من المتوسط من «أمير» مكيافللي وتحولت إلي نظم مدنية دستورية وإلي مبدأ «سلطان الدولة»... و«يظل المستبد الشرقي «كما سماه مونتسكيو في روح القوانين - الكتاب الثاني» جاثما علي صدور الناس، مفوضا وزيره الأكبر في إخضاع الناس بينما هو يستمتع كحاكم عام» «تعبير منتسيكو يذكرنا بقول نزار قباني عن الحكام العرب: الأنبياء الكاذبون يقرفصون علي الشعوب.. ولا رسالة». وسبق ابن خلدون «مونتسيكو» في مقدمته حيث قال: «لا تحتاج الدولة السلطانية في بداية التأسيس إلي الكثير من الوظائف نظرا «للطابع البدوي» الغالب علي التأسيس، الذي يعتمد علي العصبية والتعاضد.. وما إن تتلاشي جذوة العصبية الحاكمة فإن الجماعة تدخل في طور «عمران حضري» يميل إلي الاستقرار ورقة الحياة، ويبدأ السلطان في «الانفراد بالمجد» وتنمو الجوقة السلطانية بأبواقها وطبولها «ووسائل إعلامها» وتظهر فئة «الموالي والمصطنعين».. ثم تدخل دولة السلطان مرحلة «الهرم والاضمحلال»، حيث تضيق أحوال الرعايا، ويتعذر استيفاء حقوق الحاشية، فتتوجه إلي استلاب الرعايا.. ويظهر الخوارج وتبدأ تمردات الأطراف». وتظهر عبقرية ابن خلدون وهو يتحدث عن وظائف الحاشية السلطانية فيقول: «تكون لوظائف السيف أهمية قصوي في بداية التأسيس.. ثم تسود وظائف القلم.. ثم تستعيد وظائف السيف مكانتها حيث يعتمد عليها السلطان في محاولته للدفاع عن نفسه ومواجهة الخارجين عليه». تجاوز الشاطئ الشمالي من المتوسط «أمير» مكيافللي، إلي ترسيخ مبدأ «سلطان الدولة» وفي بلورة إرادة سياسية مسايرة لحركة التاريخ.. تدع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، ووقفنا نحن - في الشاطئ الجنوبي من المتوسط - مع ابن خلدون، عاجزين أمام «دولة السلطان »التي تمثل مرحلة «الهرم والاضمحلال». ويحق لنا أن نسأل: إلي متي تعيش الجماعات العربية والإسلامية في ظل «دولة السلطان»؟! ومتي نتحول إلي «سلطان الدولة»؟!.