شهدت الاجتماعات الأولي لمجلس قيادة الثورة الكثير من المواقف الطريفة، وربما القرارات الأكثر طرافة!! في النصف الثاني من أغسطس 1952 كان أول لقاء للدكتور «عبد الجليل العمري» وزير المالية في مكتب رئيس الوزراء «علي ماهر باشا» وحضرة «جمال عبد الناصر» و«محمد نجيب» و«جمال سالم» و«عبد اللطيف البغدادي»، وكان د. العمري قد انتهي من عرض أول ميزانية عامة علي مجلس الوزراء ووافق عليها. في هذا الاجتماع تم رفض اقتراح د. العمري بزيادة سعر علبة السجائر قرشًا واحدًا وأن هذه الزيادة علي سلعة يستهلكها الكثير من جمهور الشعب لا تتمشي وما قامت عليه الثورة من الرغبة في إسعاد جموع الشعب!! لكن بعد عام واحد تغير الموقف تمامًا، وحسب مذكرات الدكتور «عبد الجليل العمري» وعنوانها «ذكريات اقتصادية» (الصادرة عن دار الشروق سنة 1986) حيث يرويه «د. العمري» بقوله: «ومن غريب المصادفات إنه عندما حان وقت تحضير الموازنة العامة 1953 - 1954 وكان الحال قد تغير فأصبح «محمد نجيب» رئيسًا للوزارة مع كونه رئيسا لمجلس قيادة الثورة وكان هذا المجلس قد أخذ السيادة كان واجبًا علي وزير المالية، أن يعرض الخطوط العريضة لمشروع الميزانية الجديدة علي مجلس قيادة الثورة قبل عرضها علي مجلس الوزراء لإقرارها واستصدار القوانين الخاصة بتنفيذها. فلما عرضت الخطوط العريضة وكان من بينها خفض وزن رغيف العيش دراهم معدودات ثار غالبية أعضاء المجلس، واكتفيت هنا بالقول أن الإبقاء علي وزن الرغيف سيستتبع أولا زيادة في بند نفقات الدعم الذي كان في ذلك الوقت حوالي مليونين من الجنيهات، وكان الدعم أصلا غير مقبول من الناحية الاقتصادية لأنه يخل بصرح الكيان الاقتصادي وثانيًا أن الموازنة العامة ستظهر وبها عجز يكاد يصل لخمسة ملايين من الجنيهات، وهنا اقترح أحد الأعضاء زيادة سعر علبة السجائر قرشًا كما حدث في العام الماضي، وكان هذا القول مثار تعليق من أكثر من عضو وكان من بينهم «زكريا محيي الدين» الذي قال إن زيادة القرش لعلبة السجائر في العام الماضي لاقت معارضة شديدة من ناحيتنا وكادت تدفع بوزير المالية أن يستقيل فكيف يحق لنا أن نقترحها الآن!! وبعد مناقشة جميع الاحتمالات الأخري ولم يكن من بينها في هذه المرة زيادة فئات ضريبة الايراد العام انتهي المجلس إلي الموافقة علي الخطوط العريضة كما هي ومن بينها خفض وزن الرغيف وقال محمد نجيب في ذلك الوقت كلمته المأثورة «دي لقمة للقطة»! وقد استعمل هذا التعبير في خطاباته بعد صدور الموازنة العامة مما كان له أكبر الأثر في قبول الشعب لخفض وزن الرغيف، وهكذا توازنت الميزانية ولم نضخم بند نفقات الدعم»!! وما أكثر الحكايات ذات الدروس البليغة في مذكرات الدكتور «عبد الجليل العمري» وهو الرجل الذي اختير سنة 1982 لرئاسة المؤتمر الاقتصادي لحل مشاكل مصر الاقتصادية»، حيث يختتم الرجل الاقتصادي المحترم مذكراته بهذه الواقعة ذات الدلالة البالغة فيقول: كنت في أحد أيام صيف 1954 بعد أن استقلت من وزارة المالية في مكتب بريد سيدي بشر لأسجل خطابًا، ولما قرأ موظف المكتب المختص اسم الراسل سألني إن كنت أنا شخصيًا مرسل الخطاب وزير المالية السابق، فلما أجبته بالإيجاب قال إنك حملتنا تضحيات كثيرة، أوقفت العلاوات والترقيات ورفعت أسعار السجائر وخفضت وزن الرغيف ومع ذلك تحملناها راضين لأننا كنا نفهم الأسباب ولأننا كنا نري حكومة البلاد تقتصد في نفقاتها ولا تهتم بالمظاهر المكلفة وكان الوزراء يقبلون خفض مرتباتهم ويدفعون قيمة استهلاك السيارات الحكومية التي خُصصت لركوبهم!! ويعلق العمري قائلاً: هذا مثل صغير ولكنه ذو دلالة كبيرة لاستعداد هذا الشعب لقبول التضحيات إن هو اقتناع بضرورتها وتبين له إنها تشمل الجميع حاكمين ومحكومين، ولاشك أن القدوة الحسنة التي يقدمها المسئولون هي أكبر محفز لجميع طبقات الشعب أن تتبع عن رضي خطواتهم، تقبل عن قناعة تقديم التضحيات التي تتطلبها المصلحة العليا للبلاد، ومصلحة البلاد قطعًا في حاجة إلي تضحيات الجميع». وربما تصلح حكايات الأمس للفهم اليوم، أقول ربما!!