أظن أن ساعات وأيام وشهور الصيف لا تحتمل القراءات العميقة من كتب ودراسات ومقالات، حيث الحر السخيف والرطوبة القاتلة والزهق من نفسك ومن الآخرين يمنعونك من متعة فهم الشيء الذي تقرؤه سيادتك!! في الصيف أعود إلي كتب المذكرات والذكريات لنجوم السياسة والأدب والفكر حيث ذكرياتهم البسيطة أو العميقة المغزي وما تحويه هذه الذكريات من مواقف وطرائف وعجائب! لقد اندهشت وتعجبت واحترت وأيضاً حزنت عندما عاودت قراءة مذكرات الاقتصادي الكبير الدكتور «عبد الجليل العمري» وعنوانها «ذكريات اقتصادية.. وإصلاح المسار الاقتصادي» ورغم جفاف العنوان وعدم عاطفيته، فإن حكايات وذكريات الرجل المحترم لا تستحق فقط القراءة بل تأملها بعناية والاستفادة من رؤي هذا الرجل! قبل قيام الثورة تولي د. عبد الجليل العمري وزارة التموين في وزارة «علي ماهر» في فبراير 1952 ، فلما قامت الثورة التي كلفت بدورها «علي ماهر» بتشكيل الوزارة، طلب منه «علي ماهر» أن يعمل معه وزيراً للمالية، ويحكي «عبد الجليل العمري» قصة أول لقاء له مع أعضاء مجلس قيادة الثورة في النصف الثاني من أغسطس 1952 وكان قد انتهي من عرض أول موازنة عامة علي مجلس الوزراء ووافق عليها! وجاءت هذه المقابلة في مكتب رئيس الوزراء وحضرها عدد من الضباط أذكر منهم - الكلام للدكتور العمري - محمد نجيب وجمال عبد الناصر وجمال سالم وعبد اللطيف البغدادي. أما ما جري في ذلك الاجتماع فيرويه «العمري» قائلاً: «كان اللقاء في شأن الزيادة علي الضريبة الجمركية علي الدخان والسجائر مما استتبع زيادة علبة السجائر (20 سيجارة) قرشاً واحداً، وكانوا يطالبون ويصرون علي إزالة هذه الزيادة والعودة بسعر السجائر إلي ما كانت عليه من قبل، لأن سياسة الضرائب علي سلعة يستهلكها الكثير من جمهور الشعب لا تتماشي وما قامت عليه الثورة من الرغبة في إسعاد جموع الشعب! ويظهر أنهم كانوا قد أثاروا الموضوع من قبل مع رئيس الوزراء عقب صدور الموازنة العامة مباشرة لأن «علي ماهر» تكلم في الموضوع في مجلس الوزراء في اليوم السابق لاجتماعي بمجموعة الضباط في مكتبه ولكنه ذكر أن هناك شكوي عامة من زيادة أسعار السجائر!! وسألني إن كان من المستطاع إلغاء الزيادة في ضرائب الدخان، وكانت إجابتي تتلخص في أن الضرائب الجمركية من المسائل الحساسة جداً في سوق التجارة والمال، ففرضها وإلغاؤها بعد ذلك مباشرة يدل دلالة واضحة علي ضعف سياسة الحكومة ثم إن هذه الزيادة ستجلب للخزانة خمسة ملايين جنيه، وهو مبلغ لا يستهان به في ذلك الوقت الذي كانت جملة إيرادات الدولة فيه لا تجاوز 220 مليون جنيه! وفي اللقاء مع مجموعة الضباط كررت هذا الكلام وذكرت أنه في الكثير من البلاد المتقدمة التي تتجه اتجاهاً اشتراكياً لازالت الضرائب غير المباشرة تمثل جزءاً مهماً من إيرادات الدولة وعندما أحسست بأن هذه الحجج لم تقنعهم ذكرت لهم إنه في أمثال هذه الحالات التي يقع فيها خلاف بين وزير المالية ومجلس الوزراء أو مجلس السيادة فعلي وزير المالية أن يستقيل ليفسح المجال لشخص آخر تكون له سياسة مغايرة خاصة أن تدبير خمسة ملايين من الجنيهات عن طريق الضرائب المباشرة صعب المنال! وهنا أثاروا أن موضوع زيادة ضرائب الإيراد العام وهي التي تفرض عادة علي الأغنياء لم يأت لها ذكر في مناسبة عرض الموازنة العامة! فأفهمتهم أن وزارة المالية انتهت من إعداد مشروع القانون الذي يعدل فئات الضريبة ويرفعها: فلما علموا أن مشروع القانون معد وسينظر في الجلسة القادمة لمجلس الوزراء اكتفوا بهذا القدر وطلبوا مني أن أطلع «جمال سالم» علي المشروع عندما يحضر إلي مكتبي في الغد، وفعلاً تم ذلك، وقد أفهمته أنه برغم زيادة فئات الضريبة علي شرائح الإيراد العام زيادة كبيرة فإنني مقتنع بأن هذه الزيادة لن تأتي بحصيلة كبيرة وما أظنها تجاوز المليونين من الجنيهات، وذلك لأن عدد الأغنياء في ذلك الوقت كان محدوداً، ولكن ما دفعني لإعداد مشروع القانون لزيادة فئات الضريبة علي شرائح الإيراد العام وعرضه علي مجلس الوزراء هو الرغبة في العمل علي تقارب الدخول الصافية»! وللذكريات الطريفة والعميقة بقية!