إلي اشعار آخر، لا وجود لتفسير منطقي للتصعيد الذي تمارسه "حماس" في اتجاه مصر غير الرغبة في التملص من أية مصالحة فلسطينية- فلسطينية. مرة اخري يتبين ان "حماس" غير مهتمة سوي بمتابعة سيطرتها علي قطاع غزة من جهة والرهان علي الوقت من اجل اسقاط السلطة الوطنية في الضفة الغربية من جهة اخري. لو لم يكن الأمر كذلك، لكانت وقعت وثيقة المصالحة التي طرحتها مصر ودعت "فتح" و"حماس" إلي توقيعها بدون ادخال أي تعديلات عليها. وافقت "فتح" علي الوثيقة وعلي اخذها كما هي علي الرغم من ان الادارة الأمريكية طلبت رسميا من "ابو مازن" الامتناع عن التوقيع. وقد اكد ذلك رئيس السلطة الوطنية شخصيا في لقاء له مع مجموعة من الصحفيين في لندن قبل نحو خمسة اشهر. ولمح قريبون منه وقتذاك الي ان مسألة التوقيع علي وثيقة المصالحة المصرية مرتبطة أساسا بقدرة "حماس" علي ممارسة سياسة مستقلة لا اكثر. تبين بوضوح ان الحركة مضطرة الي ان تاخذ في الاعتبار ما تطلبه منها ايران، اضافة بالطبع الي سوريا. ليس ما يشير الي ان "حماس" في وضع يسمح لها بالتركيز علي الهم الفلسطيني. يبدو اكثر من اي وقت انها أسيرة منظومة اقليمية لا تستطيع سوي التحرك في اطارها. كان هناك امل في ان تساهم تركيا بعد الدور الذي لعبته في فك الحصار، ولو جزئيا، عن غزة في جعل "حماس" تتخذ مواقفاً اكثر انفتاحا تنم عن تمسكها بالقرار الفلسطيني المستقل والرغبة في الانتهاء من الاحتلال. لم يحصل شيء من هذا القبيل. كل ما في الأمر ان "حماس" بدأت تراهن علي امكان استفادتها من التصعيد بين اسرائيل وتركيا، خصوصا بعد الموقف الشجاع الذي اتخذه رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان والقاضي بمنع أية طائرة عسكرية اسرائيلية من دخول الاجواء التركية وذلك ردا علي الجريمة الاسرائيلية في حق المواطنين الاتراك المشاركين في "اسطول الحرية". يعتبرهذا الحدث من دون شك تطورا في غاية الاهمية. ولكن هل في الامكان الاستفادة منه في اي شكل وفي اي اتجاه كان من دون مصالحة فلسطينية قائمة علي برنامج سياسي واضح مقبول من المجتمع الدولي؟ هذا البرنامج موجود وقد رفعته منظمة التحرير الفلسطينية منذ العام 1988 ويقوم علي خيار الدولتين استنادا الي قرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض في مقابل السلام. من دون موقف فلسطيني متماسك وواقعي، لا امل في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي. علي العكس من ذلك، ان رفض "حماس" توقيع الوثيقة المصرية يعكس رغبة في الاساءة الي مصر اكثر من اي شيء آخر. ما قد يكون اخطر من ذلك، ان الحملة علي مصر تكشف ان حرب غزة في العام 2008- 2009 استهدفت في جانب منها احراج القاهرة واظهارها في مظهر من يدعم الحصار الاسرائيلي لغزة، علما بان لا علاقة لها بالاتفاق القاضي بفتح معبر رفح في العام 2005. هناك اربعة اطراف علي علاقة مباشرة بهذا الاتفاق : الولاياتالمتحدة، اسرائيل، الاتحاد الاوروبي الذي ارسل مراقبين يشرفون علي حركة المرور عند المعبر، السلطة الوطنية ممثلة بحرس الرئاسة الذي كان يرابط في رفح قبل الانقلاب الذي نفّذته "حماس" منتصف العام 2007. عندما يكون هناك اتفاق من هذا النوع حظي بموافقة فلسطينية اولا، لا يعود لدور مصر، في ما يخص رفح بالذات، الا داخل حدودها وعند النقطة التي يدخل منها المواطنون الفلسطينيون الارض المصرية. في كل الاحوال، يتبين يوميا ان الحملة علي مصر جزء لا يتجزأ من عملية هروب الي امام تمارسها "حماس" والتي كان آخر فصل من فصولها هجوم عناصرها قبل ايام علي فرع لمصرف في غزة. كيف يمكن لحركة مؤتمنة علي ارواح الناس في القطاع حرمانهم من المصارف والخدمات الاجتماعية وحتي من نعمة الكهرباء في هذا الصيف الحار. علي الرغم من كل ما قيل ويقال بإنه لا امل في تحقيق اي تقدم علي صعيد التسوية ما دامت حكومة بنيامين نتانياهو في السلطة، ليس امام الفلسطينيين سوي متابعة الهجمة السياسية عن طريق تمسكهم بمشروع منظمة التحرير من جهة واستكمال بناء مؤسساتهم الوطنية من جهة اخري. يفترض بهم متابعة ذلك بغض النظر عن مشاريع الاستيطان الاسرائيلية والمساعي الهادفة الي ازالة الوجود العربي من القدس. في النهاية، ان ما تقوم به حكومة نتانياهو يشكل افضل دليل علي غياب المشروع السياسي الاسرائيلي. بات في امكان الفلسطينيين القول إنه لا وجود لشريك اسرائيلي يمكن التفاوض معه. قامت كل سياسة اسرائيل منذ وصول ارييل شارون الي السلطة مطلع العام 2001 علي نظرية غياب الشريك الفلسطيني وذلك بعد سلسلة اخطاء ارتكبها الجانب الفلسطيني. في مقدم الاخطاء عسكرة الانتفاضة. لم يحد اللذان خلفا شارون عن هذا الخط. تمسكا به بقوة. هذا ما فعله ايهود اولمرت وهذا ما يفعله حاليا بيبي نتانياهو. المؤسف ان تصرفات "حماس" تخدم هذا الخط نظرا الي انها تلعب دورا في تعميق الانقسامات الفلسطينية- الفلسطينية وحتي العربية- العربية. لماذا إذن تلك الحملة علي مصر ولماذا لا تكون بحثاً في وثيقة المصالحة، في حال كان مطلوبا ادخال تعديلات عليها، بعد التوقيع؟ مرة اخري، يبدو ان اسرائيل تراهن علي الوقت من اجل خلق امر واقع جديد علي الارض. اظهرت تجارب الماضي القريب ان رهانها كان، للاسف الشديد، في محله بدليل ما استطاعت عمله في الضفة الغربية منذ العام 1967. هناك بين الفلسطينيين من يعي هذا الواقع ولذلك رهانه علي المشروع الوطني لمنظمة التحرير... وهناك من يظن أنه لا بدّ من مجاراة اسرائيل في الرهان علي الوقت. المشكلة ان الوضع الاقليمي لا يخدم الفلسطينيين المراهنين علي الوقت وعلي شعارات المقاومة والممانعة، خصوصا أنه ليس في المنطقة العربية ما يدعو الي التفاؤل لا في العراق ولا في السودان، حتي لا نتحدث عن دول عربية اخري تنخرها الانقسامات والتجاذبات...