قبل خمس سنوات، في آب- اغسطس من العام 2005، انسحبت اسرائيل من قطاع غزة. فككت مستوطناتها وانكفأت، من دون اي تنسيق من اي نوع كان مع السلطة الوطنية الفلسطينية، الي مواقع تقع خلف الحدود الدولية المعترف بها. تركت قطاع غزة، الذي سعت دائما الي التخلص منه، للفلسطينيين الذين وقعوا في الفخ الذي نصب لهم بعدما اعتقد قسم منهم ان غزة تصلح نقطة انطلاق لتحرير فلسطين من البحر الي النهر او من النهر الي البحر لافارق. ما الذي نشهده بعد خمس سنوات علي الانسحاب من غزة الذي اعتبره بعض الفلسطينيين انتصارا للمقاومة؟ الجواب اننا نشهد مأساة حقيقية تتمثل في عدم قدرة الفلسطينيين علي استغلال فرصة الانسحاب الاسرائيلي وزوال الاحتلال، لأي سبب كان، من اجل تقديم نموذج لما يمكن ان تكون عليه دولة فلسطينية مستقلة. سقط الفلسطينيون ضحية فوضي السلاح بدل ان يستغلوا التخلص من الاحتلال كي يكشفوا للعالم وجههم الحضاري وقدرتهم علي التأقلم مع المعطيات الاقليمية وتغييرها لمصلحة قضيتهم الوطنية. تشكل غزة نموذجا للفشل الذريع في الاستفادة من اي ثغرة، مهما كانت ضيقة، لاقناع المجتمع الدولي بأن الفلسطينيين شعب قادر علي بناء دولته والمحافظة علي اي التزامات يتعهد بها. بدل البناء علي الانسحاب الاسرائيلي وانتهاء الاحتلال، عمت فوضي السلاح كل القطاع. ووجد حتي من يدمّر الابنية وأنظمة الري المتطورة التي تركها المستوطنون بدل المحافظة عليها واستخدامها بطريقة حضارية. لم تمض ايام علي الانسحاب الاسرائيلي حتي بدأت المناوشات بين مقاتلي "فتح" و "حماس". بنت "حماس"، بدعم ايراني وغير ايراني، ميلشيا خاصة بها. وفي منتصف حزيران 2007، نفّذت انقلابها الدموي من منطلق ان الانتصار علي "فتح" وطردها من القطاع اهمّ بكثير من تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني. بدا واضحا ان همّ "حماس" محصور بتغيير طبيعة المجتمع الفلسطيني من جهة وتحويل غزة ورقة ايرانية وغير ايرانية تستخدم ضد السلطة الوطنية الفلسطينية وضد مصر وضد كل من يرفض ان يكون الشعب الفلسطيني وقودا في معارك ذات طابع اقليمي لا علاقة له بها من قريب او بعيد. في حال كان لابدّ من تلخيص للوضع في غزة بعد خمس سنوات علي تنفيذ الانسحاب الاسرائيلي، يمكن القول ان اسرائيل كسبت رهانها. كان الرهان الاسرائيلي، وهو رهان ارييل شارون رئيس الحكومة وقتذاك، علي ان الفلسطينيين في غزة سيكونون مرة اخري ضحايا فوضي السلاح وان "حماس" لا يمكن الا ان تنتصر علي "فتح" في ضوء المساعدات الخارجية التي تحصل عليها، خصوصا من ايران. الآن، يمكن الحديث عن كيانين فلسطينيين منفصل كل منهما عن الآخر وعن تحول غزة الي "امارة اسلامية" علي الطريقة الطالبانية (نسبة الي طالبان) وعن دفاع مستميت عن بقاء الحصار الاسرائيلي الظالم الي ما لا نهاية نظرا الي انه يسهّل علي "حماس" اخضاع الشعب الفلسطيني في القطاع وعزله عن محيطه العربي. باختصار شديد، صارت غزة اسيرة الجندي الاسرائيلي جلعاد شاليط المحتجز في القطاع منذ حزيران من العام 2006. كيف يمكن ل"حماس" ان تقبل من الناحية الانسانية بالحصار الذي يطال ما يزيد علي مليون ونصف مليون فلسطيني من اجل جندي اسرائيلي لا تعيره دولته اي اهتمام. علي العكس من ذلك، تتذرع حكومة بنيامين نتانياهو بشاليط كي تحكم حصارها علي غزة وكي تمارس ارهاب الدولة فيما العالم يقف موقف المتفرج... علي الصعيد السياسي، يتبين كل يوم ان "حماس" نفّذت المطلوب منها اسرائيليا بكل دقة وامانة في مقابل احتفاظها بالسيطرة علي قطاع غزة والامتناع عن اي خطوة في اتجاه تحقيق المصالحة الوطنية علي اسس واضحة تصب في خدمة المشروع الوطني الفلسطيني. من يريد دليلا علي ذلك، يستطيع العودة الي الطريقة التي انتهت بها الحرب علي غزة اواخر العام 2008 وبداية العام 2009. حاصر الاسرائيليون القياديين في "حماس" بعد لجوء هؤلاء الي غرفة تحت الارض في احد المستشفيات وما لبثوا ان انسحبوا من دون المس بهم. انتهت الحرب فجأة وبقي القياديون علي قيد الحياة مع فارق بسيط. قبل الحرب، كانت الصواريخ المضحكة- المبكية التي تطلق من غزة قادرة علي تحرير فلسطين. بعد الحرب صار اطلاق الصواريخ من القطاع بمثابة "خيانة وطنية". بقدرة قادر انتقلت الصواريخ بين ليلة وضحاها من موقع "الوطنية" الي "الخيانة" من دون ان يوجد من يطرح سؤالا واحدا عن السبب الحقيقي وراء هذا الانقلاب في المواقف "الحماسية". ما قد يكون اهم من ذلك كله، انه بعد خمس سنوات علي الانسحاب الاسرائيلي من غزة، لا يزال الانسحاب يؤدي وظيفة محددة تتمثل في ايجاد الاسباب التي تبرر لاسرائيل عرقلة اي تسوية من اي نوع كان. مجرد وجود كيانين فلسطينيين، يسمح لحكومة بنيامين نتانياهو بطرح تساؤلات في شأن قدرة الفلسطينيين علي التزام موقف موحد. مجرد هجوم "حماس" علي امكان العودة الي المفاوضات المباشرة يؤكد ما يسميه الاسرائيليون "شكوكا" بصدقية الموقف الفلسطيني. قبل خمس سنوات، برر دوف فايسغلاس، مدير مكتب ارييل شارون وقتذاك، الانسحاب من غزة برغبة اسرائيل بالامساك بطريقة افضل بالقدس الشرقية وقسم من الضفة الغربية. يتبين الآن انه لم يتغير شيء في السياسة الاسرائيلية. كل ما في الامر ان نتانياهو ينفّذ سياسة شارون بطريقة افضل منه. كيف لا ولديه حليف فلسطيني يعمل كل ما في وسعه من اجل اضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية واظهارها في مظهر العاجز عن التفاوض باسم الفلسطينيين والتقدم في اتجاه قيام الدولة المستقلة. الخوف كل الخوف ان يصدق من قال ان الفلسطينيين الفلسطينيين لا يفوتون فرصة الاستفادة من اي فرصة تظهر امامهم. ثمة من يرد بأن لا وجود لفرصة فلسطينية الآن. ولكن هل من الضروري قطع الطريق علي اي فرصة مهما كان الامل بظهورها ضعيفا؟