العمل في بلاط صاحبة الجلالة يدفعك دائمًا للاحتكاك المباشر وغير المباشر مع مختلف ألوان الطيف السياسي سواءً علي مستوي الاحتكاك بالأفكار، أو بالأشخاص الذين يحملونها. وبقدر ما شُغلت طوال الوقت بمناقشة مختلف الرؤي السياسية، كنت حريصًا علي مراقبة أداء وسلوك من يعبرون عنها ويرفعون شعاراتها؛ وكان أهم ما لفت انتباهي هو هذا المرض العضال الذي ضرب في عصب غالبية السياسيين، وهو إلقاء تهم العمالة والخيانة وأحيانًا الكفر في وجه كل من خالفهم الرأي وقد شاع هذا المرض علي وجه الخصوص بين صفوف الشيوعيين والناصريين والإخوان. ولأنني زاملت وصادقت الكثيرين منهم، وكنت دائم الخلاف معهم، لم يجدوا لي مكانًا في جدول التصنيف السياسي الذي يعتمدون عليه في توصيف الأشخاص ذلك أنهم يعتبرون الاستقلال عن رؤاهم نوعًا من الرمادية وإن قلت أنك ليبرالي وصفوك إما بالعمالة للغرب والرأسمالية المتوحشة أو بالعلمانية الكافرة. ليس المهم هنا كيف يراني هؤلاء الأصدقاء، لكن هذا الموقف الرمادي من وجهة نظرهم جعلهم كلما لاحظت شيئًا عبر السمع أو اللمس، أو خبرة استدعاء ما في الذاكرة لربطه بما أسمعه فأري ما يستعصي علي عيني المكفوفتين؛ يطلقون دعابتهم المتكررة. والله هتطلع يا علي في آخر الفيلم بتشوف ويمكن تبقي ظابط أمن الدولة اللي بيراقبنا.. هذه الدعابة ربما تصير حقيقة مؤكدة لدي بعضهم بعد الانتهاء من قراءة سطور هذا المقال؛ وفي أحسن الأحوال قد يذهب البعض الآخر إلي أن وزارة الداخلية وفقًا لنسبة ال5% قامت بتعييني ضابطًا في جهاز مباحث أمن الدولة للتلصص علي المتظاهرين ومراقبة نشاطهم، ولم لا ومعظمهم مريض بهسس ملاحقته من أجهزة الأمن الدولية والمحلية. منذ بدايات عام 2003 عندما اشتعلت شوارع القاهرة بالتظاهرات الشعبية قبيل الحرب الأمريكية علي العراق، حرصت علي متابعتها عن كثب، خاصة أن موجات التظاهر راحت تتلاحق عبر الحراك السياسي غير المسبوق الذي شهدته مصر من ذلك الحين بعد نشوء حركات احتجاجية واجتماعية تحت مسميات مختلفة، وكان أهم ما لاحظته هو تكرار نفس الشخوص المشاركة في كل المظاهرات باستثناء تلك التي خرجت من أجل العراق حيث جذبت تعاطفًا شعبيًا كبيرًا. وبالطبع تعكس تلك الحالة واقعًا آخر مفاده أن نفس الشخوص هم في نفس الوقت أعضاء كل الحركات والتنظيمات بل والأحزاب السياسية المعارضة وهذا ما يفسر أن حجم المشاركين في كل تلك المظاهرات لا يتجاوز 150 شخصًا أزعم أنني أعرف 90% منهم. لكن الأهم من ذلك هو أن العشرات ممن ينتمون لتنظيمات وحركات شيوعية في الأساس قد دأبوا في معظم المظاهرات علي اتباع مبدأ تسخين الأجواء وذلك عبر استفزاز ضابط الشرطة بالسب أو الاعتداء المادي لينتهي الأمر بالقبض علي أحدهم ليصبح علي الفور نجم الفضائيات وحديث الصحف السوداء، وربما المناضل المدلل لدي بعض جهات التمويل الأجنبية التي تخصص جانبًا من أموالها لدعم النشطاء السياسيين، وأذكر في هذا السياق قيام بعض المتظاهرات بسبب ضابط شرطة بدا من صوته أنه جاوز الخمسين، فجاء رده «عيب أنا في سن أبوكم ومحدش لمسكم»، وعلي الفور كان الرد منهن «ما يشرفناش إنك تبقي أب لواحده فينا» ليتبعن ذلك بوابل من الشتائم. الاحتكاك بالشرطة أو الاعتداء علي العساكر الغلابة فلسفة مفادها أن مرور المظاهرة هكذا دون أن تلتقط الكاميرات صور الالتحام مع الأمن يعني فشلها إعلاميًا ومرورها مرور الكرام. وهذا ما حاول بعض المتظاهرين في مظاهرة 2 مايو التي وقفت أمام مجلس الوزراء تطبيقه برفع الحواجز الأمنية ومحاولة الاعتداء علي عساكر الشرطة لولا تدخل العقلاء من المتظاهرين أنفسهم الذين اتهموا علي الفور بالعمالة لصالح الأمن رغم كونهم من قياديي المظاهرة. وعندما مرت مظاهرة الأجور كخبر عابر في الصحف أصرت بعض العناصر علي استدراك الموقف من مظاهرة 3 مايو وهو الأمر الذي فضحته هذه المرة عدسات الصحف والفضائيات علي حد سواء في صور كشفت استعراض بعض المتظاهرين لأجسامهم الفتية في دفع أفراد الأمن علاوة علي عصا اللافتة التي رصدتها الكاميرات فوق رؤوس بعض ضباط الشرطة. هؤلاء الذين يحترفون السير في المظاهرات بغية الظهور الإعلامي يتمنون يوميًا القبض عليهم، وهذا ما يعرفه كثيرون من قيادات الأحزاب والتنظيمات السياسية وما لا يرضون عنه. بل إن كثرة تكرار بعض تلك العناصر في كل المظاهرات تقريبًا تجعلك تظن أن هناك وظيفة تم استحداثها مؤخرًا اسمها (متظاهر). وبالتوازي مع هذا النشاز أذكر أيضًا أن هناك تجاوزات أخري يرتكبها بعض ضباط الشرطة في حق المتظاهرين غير أن وجود عقلاء بينهم يشكل رادعًا قويًا لتجاوزاتهم. تسجيل مثل هذه الملاحظات وغيرها لا يعني أبدًا إنكارًا لحق التظاهر الذي أكد عليه الدستور والقانون، وإنما يأتي كضرورة لحماية هذا الحق وتأصيله، ذلك أن إثارة الشغب بالاحتكاك المتعمد مع أفراد الشرطة يفسده، بل ويمنع الجادين من ممارسة حقهم في التعبير أثناء المظاهرة حيث لا يمكن أن تصل رسائل المتظاهرين إلا في أجواء سلمية وهادئة سوي من صخب الهتاف فقد نص الدستور علي حق التظاهر بوصفه آلية من آليات التعبير في مجتمع ديمقراطي وكوسيلة مشروعة للضغط علي النظام والحكومة لتحقيق مطالب المتظاهرين، أما محاولة إضفاء صفة العنف علي المظاهرات فتجعل منها محاولة لإثارة الفوضي والخروج علي النظام العام. وهذا الهدف ليس بعيدًا عن ذهن بعض السذج الذين يعتقدون أن بإمكانهم تحويل المظاهرة إلي ثورة شعبية عارمة فبعضهم يعيش هذا الحلم الثوري، وهو ما عبر عنه بعض المتظاهرين يوم 3 مايو عندما اعترضوا علي انسحاب نواب المعارضة والمستقلين والإخوان مطالبين بتسيير المظاهرات إلي مجلس الوزراء ولو كان الثمن الدخول في صدام دموي مع قوات الأمن. غير أن اللافت في المشهد العام لمظاهرة 3 مايو هو أن قيادات حركة كفاية ومستنسخاتها كحركة 6 أبريل وعايزين نصلح مصر أدركوا أن نواب المحظورة وإلي جانبهم بعض نواب المعارضة والمستقلين انتبهوا إلي أهمية المشاركة في المظاهرات لعمل شو إعلامي ولخطف الأضواء ليبدأوا حملاتهم الدعائية لانتخابات البرلمان مبكرًا، الأمر ذاته بالنسبة لعناصر جمعية البرادعي للتغيير الذين يريدون استثمار المظاهرة لجذب انتباه الفضائيات وهو ما حذا بقيادات كفاية لتحريم ما كانت قد أحلته لنفسها بالظهور المتواصل علي شاشات الفضائيات، التي تسبب تهافت كاميراتها ومعديها علي نواب المحظورة في خلق غيرة النجومية بين قيادات المظاهرة تمامًا كالغيرة التي نقرأ عنها بين (نجمات السيما) مجمل القول أن التظاهر السلبي وحده الذي يؤتي ثمار الضغط علي الحكومة والحزب الحاكم، وهو ما نراه جليا في النتائج التي وصل إليها عدد كبير من المعتصمين علي رصيف مجلس الشعب الذين التزموا باشتراطات التظاهر السلمي، فلم يجدوا من يصد تحركهم أو يمنع حقهم في الاعتصام أو من يقول أزيحوا هؤلاء لأنهم يشوهون سمعة مصر. بقيت الإشارة إلي أن ملاحظة قيادات كفاية بالنسبة لنواب المحظورة لا تخلو من الحقيقة، ذلك أن الحصانة البرلمانية تمنح لنواب الشعب حتي يتمكنوا من مجاوزة حق حرية التعبير والرأي إلي حق امتلاك جميع الآليات القانونية والدستورية ليس فقط لمراقبة الحكومة، أو المشاركة في سن التشريعات وإنما أيضًا في الضغط من أجل انصياع الحكومة لمطالب الشعب، واللجوء إلي التظاهر لا معني له إلا تقاعس النائب عن ممارسة حقوقه البرلمانية، أما إذا كان الأمر هو عدم تمكينهم من ممارسة تلك الحقوق كما ادعي نواب المظاهرات فكان الأحري بهم التخلي عن مقاعدهم ولو من باب إحراج الحكومة ونواب الأغلبية ورئيس المجلس، لكن الأمر كله يكمن في شهوة الظهور.