التقيتُ البروفيسير حسن مكي لأول مرة في عام 1989.. كانت تلك هي زيارتي الأولى إلى السودان لجمع مادة علميَّة لبحث كنت أقوم به عن الحركة الإسلاميَّة السودانية وعلاقتها بالرئيس نميري، كنت أقيم في "الخرطوم بحري" بجوار سينما كوبر حيث قضيت خمسة أسابيع, وتيسَّر لي الالتقاء بفئات وشرائح مختلفة من الأساتذة والباحثين والأفراد العاديين.. تكوّنت مع العديد منهم علاقات ودّ, ومحبة, تحوَّل بعضها إلى صداقات حميمة ما زالت قائمة حتى اليوم، كما قدِّر لي معايشة أشخاص ينتمون إلى خلفيَّات ثقافيَّة واجتماعيَّة متباينة, الأمر الذي كان يمثِّل أول احتكاك مباشر مع الواقع السوداني بتعدده الواسع وتبايناتِه المختلفة, وهو أمرٌ يختلف عن التصوُّر الذي يمكن أن تكوِّنه عن السودان عبر قراءة ما يكتب أو ينشر عنه. توثَّقت علاقتي منذ ذلك الوقت بالبروف (كما يناديه تلاميذه ومحبوه) لأسباب عديدة يأتي على رأسها أستاذيَّته وموسوعيته العلمية وكرمه الفيَّاض (العلمي والشخصي), وبساطته الآسرة التي يغلبُ عليها الطابع الصوفي في الحركة والسلوك، رغم انتمائه للحركة الإسلاميَّة الحديثة منذ أن كان طالبًا ثم بروزه كقيادة مؤثِّرة في أحداث شعبان في جامعة الخرطوم عام 1973, وقد واصل مسيرتَه الفكرية والسياسية حتى أصبح يُعرف خارج السودان بأنه مؤرخ الحركة الإسلاميَّة السودانيَّة وأحد أعلامها البارزين، حيث ألّف عنها اثنين من أهم الكتب يتناولان مسيرة الحركة في مرحلة التكوين والبناء في الفترة من 1944 إلى 1969 ومرحلة التوسع والانتشار في الفترة من 1969 إلى 1985, وكان من المفترض أن يكمل هذه السلسلة بمرحلتي الانقلاب ثم المفاصلة.. ولكنه لم يفعل ربما لأسباب خاصة تعود إلى طبيعة علاقته بالدكتور الترابي, وبرفاقه الآخرين في الصف الأول من الحركة، سواء الذين غادروا ساحة العمل السياسي والتنفيذي أو الذين بقوا فيه. وحسن مكي كما هو معروف غزير الإنتاج.. وهو أيضًا واسعُ المعرفة دائم الترحال, حيث يُدعى للكثير من الندوات والمؤتمرات في مختلف البلدان والأصقاع, الأمر الذي مكنه من تكوين رؤية بانوراميَّة للتطوُّرات والتفاعلات في كل الإقليم المحيط بالسودان, فضلًا عن رؤيته الخاصة للسودان وكيفية تكوُّنه وتطوره, والميكانيزمات التي تحرِّك تفاعلاتِه، وبسبب من هذه العوامل مجتمعة تجدُه صاحب مبادرات فكرية في التعاطي مع الواقع, تبدو للبعض أحيانًا خارج السياق التقليدي أو المألوف, ولكنها في الحقيقة تعبِّر عن نظر عميق وقدرة على الاستنباط واستشراف المستقبل بطريقة أكثر انفتاحًا.. وأكثر تسامحًا أيضًا، وهذا مما يتوافقُ مع تكوينه الشخصي والنفسي الذي يؤثِر البساطة ويتجاوز الشكليَّات, ولذا يطرح أفكاره دائمًا بطريقة تغلب عليها البساطة والتلقائيَّة، حتى تغيبَ عن البعض أحيانًا مراميها العميقة. في هذا الإطار, وفي خضمّ الجدل حول الوحدة والانفصال في السودان, تبرزُ لنا رؤية حسن مكي التي طرحها في ورقته المعنونة "قضية الهويَّة في جنوب السودان حالتي الوحدة والانفصال" في ندوة مركز السودان للبحوث والدراسات الاستراتيجيَّة حول حق تقرير المصير.. والتي تقول خلاصتُها أنه ينبغي وضع خارطة لانفصالٍ متدرِّج للجنوب تحاشيًا للتوتُّرات والمخاطر الكامنة في الانفصال بطريقة القفز في الظلام.. وهو يسمي هذا المنهج الطريق الثالث. تقدِّم الورقة عصارةً مركَّزة لقضية الهويَّة في السودان تغوص إلى الجذور.. تستعرض التاريخ والمسارات والصيرورة وصولًا إلى اللحظة الحاليَّة في 2010. ويرى الكاتب أنه ابتداءً من 2005 دخل السودان في مرحلة جديدة على إثر اتفاقية السلام بفصولها الستة, وأن هذه الاتفاقية مع وجود التفاعلات السياسيَّة والصراعات والحراك السكاني, أنتجت تبدلًا في المفاهيم القديمة المتعلِّقة بالجغرافية السياسية, القائمة على شمال وجنوب وشرق وغرب, لأنها جعلت الجنوب حاضرًا في الشمال وفاعلًا في الخرطوم, وكذلك جعلت الشرق والغرب, موصولًا بالشمال, وحاضرًا في الخرطوم.. وأصبحت القضية من يحكم الخرطوم؟ وما شكل الدولة في الخرطوم؟ ويقدم "البروف" العديد من الاستدلالات على أن الصراع في السودان ظلّ صراع هويَّة, يدور حول موقف الدولة من الهويَّة.. وهل الدولة محايدة, أم أنها تتبنى أطروحات الأغلبيَّة وأطروحات الثقافة السائدة؟ وينتهي إلى أن الجنوب ظلَّ يمثِّل أداة ضبط لإيقاعات الهويَّة في الشمال.. وعلى الأخصّ في بُعديها السياسي والتشريعي, وكان الجنوب يحتجُّ على الشمال بأنه يهملُ بعده الإفريقي, لمصلحة بعده العربي, كما كان يرفض إعطاء أولوية لمطلوبات الثقافة الإسلامية, بحجة المواطنة, وبحجة أن ذلك يجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية. ويرى مكي أن بروز الهويَّة السودانيَّة في شكل صيرورة سياسية, أو اجتماعية أو فكرية, عملية معقَّدة ومركبة.. ومع أنه يمكن أن تكبتَ الهوية إلا أنها تنداح, وتعبِّر عن نفسها, في رمزيَّات وأشكال مختلفة، ويقول أن الصراع في جوهرِه لم يكنْ بين الثقافة الإفريقيَّة والإسلامية.. وإنما كان يدور بين الثقافة الإسلامية, والعولميَّة بمحدداتها اللغوية, والروحية, أي ثقافة العولمة بلغاتها اللاتينيَّة (إنجليزية- فرنسية) ومحدداتها الأخرى الاجتماعية, والسياسية, والروحية الفكريَّة, وبمعنى آخر فإن ضبط الهوية الإسلاميَّة, كان يقتضي التوظيف للجنوب, ليس لإبراز العادات والتقاليد والأعراف الجنوبيَّة, وإنما لفتح المجال لمكونات الثقافة الغربية, العولميَّة, علمًا بأن الجنوب فيه المسلم الذي ينافح عن الهويَّة الإسلامية السودانية, ويتمثلها, وفيه المسيحي المعاكس لذلك, وفيهم غير المكترث بمآلات قضايا الهوية, والمحددات الثقافية والروحية الأخرى. ويخلص مكي في النهاية إلى طرْح الفكرة الأساسيَّة في الورقة حين يشير إلى أن الجنوب بؤرة للتواصل والتداخل ما بين شمال السودان وشرق إفريقيا، وأن جنوب اليوم ليس كيانًا جغرافيًّا أساسه الحدود فحسب, ولكنه جملة من التفاعلات والواردات التي تتشكل يوميًّا- لذا يجب ألا نقطعَ الطريق أمام ما يحدث من واردات وتفاعلات. ويختم بطرحٍ غير مألوف بالنسبة للمطالبين بالوحدة "إذا كان المزاج الجنوبي انفصاليًّا في هذه اللحظة.. وإذا كان هناك خوف على السودان شماله وجنوبه, من قفزة في الظلام، فلماذا لا نفكرُ في طريق ثالث: جنوب على صلاحيات سياسيَّة أكثر مما لديّ كردستان العراق.. جنوب منفتح على إفريقيا، بل ومتكامل معها, وله أوضاعُه الأمنيَّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة وسيادة على مواردِه المعدنيَّة والبتروليَّة وسياسة خارجيَّة مع الحدود المفتوحة, كما له الحق متى ما استكمل مقوّمات الدولة في الانفصال التام مع مراعاة أدب الوحدة والتكامل الذي هو أساس الحياة الحديثة". المصدر: الاسلام اليوم