قضيت يومين فى الخرطوم، الأسبوع الماضى، مشاركاً فى ندوة حول الطيب صالح، وللوهلة الأولى فى العاصمة السودانية يدرك الإنسان الحالة الانتخابية هناك، لكن فيما يخص رئيس الجمهورية لا يبدو أن هناك معركة انتخابية، بل معركة استفتاء، لا تشعر أن هناك منافساً للرئيس، لافتاته وحده تملأ الشوارع والميادين، فى كل مكان يخطر لك أو لا يخطر، ففى الزوايا الجانبية بمطار الخرطوم الدولى توجد صور الرئيس، حتى فى صالة المغادرة النهائية تحيط بك صور السيد الرئيس البشير، ويبدو أن القائمين على الحملة الدعائية حرصوا على ألا يصاب المشاهد بالملل، لذا نوعوا الصور.. مرة وهو يرتدى البدلة ملوحاً بعصاه ضد المحكمة الجنائية الدولية وربما ملوحاً لشعبه، ومرة يرتدى الجلباب السودانى الأبيض، صورة له جالساً وأخرى واقفاً.. وهكذا، صور.. صور.. تفتش عن صورة لمرشح منافس فلا تجد.. فى أحد الشوارع وجدت صورة للدكتورة فاطمة عبدالمحمود المرشحة الأخرى، وحين سألت عرفت أنه بيتها، أما فى الميادين الكبرى والشوارع الأخرى، فلا أحد سوى الرئيس عمر البشير. الأهم من صور الرئيس هو الكلمات والشعارات التى وضعت حولها فتصر بعض الصور على أن البشير هو «القوى الأمين».. وهكذا صوتنا يذهب إلى «القوى الأمين»، ونعرف أن هذه الصفة تعود إلى القرآن الكريم فى سورة القصص وتتعلق بسيدنا موسى حين خرج هارباً من مصر إثر ارتكابه جريمة قتل وشروعه فى الثانية، فتوجه إلى أرض مدين، على النحو البديع الذى يصوره القرآن الكريم.. فقرر الفريق الانتخابى للبشير أن يمنحه تلك الصفة «القوى الأمين»، وبإلحاح عليها، وهناك صفات أخرى، يأخذها بعض الإخوة السودانيين بفكاهة، مثل «أسد الأمة» و«قائد ثورة الإنجاز والإعجاز» وبدا لى أن الرئيس الليبى معمر القذافى متواضع حيث أطلق على ثورته «ثورة الفاتح» والرئيس السادات كان أشد تواضعاً إذ سمى ثورته «ثورة التصحيح».. وأطرف تلك اللافتات وجدتها على كوبرى علوى يعبر النيل، تعلن التأييد لقائد «ثورة الكبارى»، رغم أن الكوبرى بناه الصينيون، ويحدثك البعض عن أنه يعود إلى زمن جعفر النميرى. السودانيون مثل المصريين أحالوا الأمر إلى مادة للتندر وللفكاهة، فتسمع العديد من النكات و«الإفيهات» حول كل شعار، ونكات المواطن العادى تختلف عن نكات المثقف والمسيس، المهم أن الشارع فى الخرطوم وأم درمان ملىء بالنكات، التى تعبر عن عدم الرضا حيناً والغضب حيناً آخر.. واليأس مرة، لكن بعضها يكشف جانباً من القبول أو عدم الممانعة.. على طريقة «وإيه يعنى.. ما الجديد»؟ الرئيس البشير محظوظ جداً، بقرار المدعى العام الدولى إلقاء القبض عليه، هذا القرار جعل المعارضة له تتراجع، لأن مهاجمته وانتقاده فى هذا الظرف، يعنيان لدى العوام أنك تصنف فى خانة الضغوط الدولية، التى تعنى فى التحليل النهائى عندنا ضغوطاً غربية، أى أمريكية وربما إسرائيلية، ولذا يتحدث المثقفون بصوت خافت عما جرى فى دارفور، وفى جمعية الفيلم شاهدت فيلماً وثائقياً بعنوان «عيال المطمورة» عما جرى لأسرة من دارفور، حيث أخذت أم أطفالها الأربعة وخرجت بهم إلى الصحراء هاربة من القتل والجوع، وسارت بهم إلى أن استقرت أسفل شجرة وشعرت أن المنطقة يمكن أن يمر بها المتقاتلون، فحفرت هى وهم حفرة عميقة، اعتاد السودانيون أن يحفروا مثلها ليطمروا فيها الحبوب، وهيأتها السيدة بفتحات معينة، حتى إذا وقعت الواقعة أخفت أطفالها فيها، على طريقة حفرة صدام حسين، وفى الليل جاء المتقاتلون، فوضعتهم فى الحفرة، لكن مع الرياح واشتداد التقاتل والنار اختفت معالم المكان ولم تصل إلى موقع الحفرة أبدا.. الواقعة نشرتها الصحف السودانية، لكن ما إن انتهى المخرج من فيلمه حتى صدر قرار اتهام الرئيس البشير، فاضطر الرجل أن ينسى الفيلم، فلو عرض أو شارك به فى أى مهرجان خارج السودان، سيبدو وكأنه مساند للاتهام الدولى، فاكتفى الفنان بأن يعرض فيلمه فى مقر الجمعية للأصدقاء وللمترددين عليه، تمنيت عليه لو شارك بهذا الفيلم فى مهرجان بالقاهرة أو أن يرسل منه نسخة نعرضها فى نقابة الصحفيين بمصر أو أتيليه القاهرة أو مكتبة الإسكندرية وربما فيها جميعاً، فمن حق الوطن هنا أن يكون ملماً بحجم الكارثة الإنسانية فى دارفور. الحالة الانتخابية جعلت الشارع بالخرطوم يعيش حالة من البحبوحة السياسية، الناس كلها تتحدث فى الموضوع من يدافع عن الرئيس يدافع، ومن ينتقده يفعل ذلك بحرية كاملة، وبعض الانتقادات قاسية، والانتقادات تتناول تجربة الرئيس البشير من بدايته وانقلابه العسكرى فى 1989.. لكن الرقابة هناك لم تتوقف، فقد تمت مصادرة كتاب المحبوب عبدالسلام «الحركة الإسلامية السودانية تأملات فى العشرية الأولى لعهد الإنقاذ».. الكتاب صدر فى القاهرة عن دار مدارك، ويرصد مؤلفه العلاقة بين الترابى وجماعته من جانب والرئيس البشير من جانب آخر، الكتاب ملىء بالمعلومات الصادمة ويرصد جرائم حركة الترابى ومن معه، بحق الديمقراطية وبحق السودانيين والسودان كله.. جراح كثيرة يفتحها الكتاب خاصة أن مؤلفه لم يكن بعيداً عن الترابى، كان مقرباً منه، لذا فهو يكتب من الداخل.. هناك. تشكو مديرة الرقابة من أن الكتاب رغم منعه من دخول السودان، يتم تسريبه ويصل إلى أيدى القراء، لا تدرك هذه السيدة المسكينة أن زمن الرقابة ولّى وانقضى. ولم يكن ممكناً أن أغفل وجود الرئيس السابق عبدالرحمن سوار الذهب على رأس الحملة الانتخابية للرئيس البشير، وسوار الذهب رجل له مصداقية خاصة، فقد قاد انقلاباً وتنازل عن السلطة طائعاً مختاراً لتبدأ تجربة ديمقراطية، وهو الرئيس العربى الوحيد بعد الرئيس السورى شكرى القوتلى الذى فعلها، وجاءنى الرد من عدد من السياسيين والقانونيين أن صورة سوار الذهب المرسومة له فى مصر وفى العالم العربى مبالغ فيها إلى حد كبير، وذكروا تفاصيل كثيرة خلاصتها أن سوار الذهب فرض عليه من صغار الضباط فى الجيش أن يقود الانقلاب على النميرى وأن ظروفاً دولية ومحلية فرضت عليه كذلك أن يترك السلطة، لذا ليس غريباً- فى نظرهم- أن يساند رئيساً (انقلب على الديمقراطية ومازال ضد الديمقراطية). المخضرمون فى السودان قلقون بجد، الانتخابات ستتم ونتيجتها شبه محسومة للبشير وهو يريد ذلك ليكون معه سند شعبى وطنى فى مواجهة الإدانة الدولية له، هو يريد أن يقفز على القرار الدولى بخصوصه، ولن يسعد أحد بإلقاء القبض على رئيس عربى آخر أو محاكمته، لكن مستقبل السودان محفوف بالمخاطر، الجنوب مهدد بالانفصال، وكارثة دارفور لم تحل بعد وقد تؤدى إلى انفصال آخر، باختصار السودان مهدد بالتفكك، والدولة لا تعمل بجدية لمواجهة تلك الأزمات- فضلاً عن أنها تفاقمت فى عهد الحكم الحالى. نصحنى أحدهم إن كنت أريد معرفة السودان بأن أخرج من الخرطوم إلى الأقاليم، حيث لا خدمات ولا أى شىء، فالعاصمة تستأثر باهتمام الحكومة والرئيس، وتستأثر أيضاً بالاستثمارات العربية وغيرها، أما بقية الأقاليم فيتم تجاهلها، هم أيضاً عاتبون على مصر.. عاتبون عليها أنها ساندت وتحمست للانقلاب فى البداية، ثم آثرت أن تبتعد وتبتعد فكان ما هو كائن اليوم.