المصري عبقري بطبعه، صاحب تاريخ طويل من الاختراعات والابتكارات، خاصة في مجال البناء، والمعابد الفرعونية وأهرامات الجيزة خير دليل، توارت العبقرية نوعًا بتأثير الاستعمار حينا والكسل أحيانًا، إلا أنه بفضل رجال بررة مخلصين، عادت العبقرية المذكورة إلي الظهور، حتي في وجود عوائق ومعوقات، ومن يزر الإسكندرية يري عجبا. الأبراج ذات العشرين طابقا تقام نهارًا جهارًا متحدية قرار المحافظ بمنع التعديات، وإزالة المخالفات حتي مع تكرار شكاوي الناس، التي وصلت إلي 21 (واحد وعشرين) ما بين خطاب وفاكس وكتابة في الجرائد، مع ترديد أخطار البناء المخالف علي الأمن والصحة والبيئة، والتنبيه علي احتمال وقوع كوارث في حالة حدوث زلزال أو حريق أو انفجار أنبوبة غاز، حيث يصعب وربما يستحيل دخول أو وصول سيارة إسعاف أو إطفاء إلي المكان، هذا مع حرمان المساكن المجاورة (القديمة) من نعمة الشمس والنور والهواء والهدوء، مع تكدس الشوارع الضيقة أصلا بمئات السيارات، ومع ضعف تيار الكهرباء والمياه، ومع الضجيج والزحام والمشاحنات، بل مع صعوبة فرض الأمن العام علي بقع مكدسة بمئات الشقق بما يذكر المرء بالعشوائيات، وإن كانت مغلفة هنا بزجاج فيميه أو واجهة رخامية، وبما ينبئ بانهيارات سكندرية شائعة. وفي شارع طيبة بالإسكندرية - كمثال - كما في غيره من شوارع، تقدم السكان بشكوي للمحافظة ثم إلي حي وسط من قيام مقاول بالبناء مخالفا كل الشروط المتعارف عليها هندسيا، ارتفاعات بلغت 14 (أربعة عشر) طابقا في شارع لا يزيد عرضه علي أربعة أمتار، أربعة عشر طابقا دون أي ردود ومازال في الخطة المزيد من طوابق، مع اعتداء غريب علي الرصيف، والأغرب أن سلم العمارة (البرج) تقع أول درجة فيه في نهر الشارع، أي أن سلم العمارة احتل الرصيف بكامله بالإضافة إلي جزء من نهر الطريق، في صورة من تلوث معماري غير مسبوق. تقدم السكان بالشكاوي وبالفعل وصلت لجنة حكومية صادرت كذا شيكارة أسمنت وكذا سقالة خشب، وكذا شوال أو زكيبة رمل.. كله كذا فقط، مع تقشير (تقشير من القشرة) وليس تكسير كذا عمود أسمنت معدة لمزيد من الارتفاع: علي السطح!! هكذا فقط، كي يعود المقاول بعدها لزيادة الارتفاع سعيدا بهذا العقاب الشاعري! نعود للعبقرية المصرية.. والتجديد العصري.. زمان كان المبني يأخذ وقته، الحفر والدق والصب.. إلخ. كان الطوب يغمر بالماء، بل الزلط أيضًا، ثم كانت الصبّة تأخذ وقتها مع رش أو تسقية السقف الأسمنت والأعمدة بالماء ليلا، وتركها كي ترسخ أسبوعا أو حتي شهرا، بعدها يبدأ الاستعداد للطابق التالي.. وهكذا، قد يطول البناء في عمارة عدة أدوار شهورا طويلة.. كان ذلك فيما مضي. الآن.. المعمار بطريقة اخطف واجري، أو خلص واقلب أو ابرز تنجز ولا تهم سلامة البشر أو عمر المبني، تمامًا كما لا يهم خرق القانون ومبادئ هندسية البناء وشكاوي الناس، المهم: المكسب، المكسب فقط توطئة للانتقال إلي موقع آخر وخرق آخر. البناء يتم بسرعة تدعو للدهشة، 24 ساعة يوميا، ضجيج وإغلاق شوارع، ضمن حفلات متصلة من إزعاج للسكان يصل لدرجة الحرمان من النوم، ومع تهديد من يعترض وتكرار القول أن المقاول واصل، وهي آفة مصرية علي أي حال، لا يعرف المرء معها واصل لمن وواصل إزاي؟ وواصل علي حساب من؟! الأغرب أن يتم بناء الأدوار المخالفة (وهي أكثر دائمًا من المصرح به قانونا أو معماريا) بسرعة فائقة.. ومن يتصور أن يجري بناء طابق كامل خمس شقق - جدران وأعمدة وأسقف، وواجهة (محارة وبياض) وخشب (شبابيك وأبواب).. في الساعات منذ عصر الخميس حتي صباح السبت؟! أقل من 40 ساعة!! ذلك أن الفترة المذكورة تمثل إجازة رسمية في المحافظة والحي وخلافه، وعملا بمبدأ: الرزق يحب الخفية!! ولتذهب شكاوي الناس إلي الجحيم. حيث الطابق الجديد قد أصبح واقعا ولن يزيله أحد. وتتكرر الممارسة، خلال الإجازة المبروكة، ولك أن تتخيل مدي الإزعاج القاتل الذي تسببه الأوناش وصراخ العمال وحركة عربات النقل والجرارات طوال ليلة الخميس وليلة الجمعة مرة أخري.. ولتذهب حقوق البشر إلي الجحيم: مريض يعاني، طالب يذاكر.. إلخ. لكن السؤال الذي لا أمل من ترديده هو: هل هذه الارتفاعات تتم في الخفاء والظلام؟ ألا يراها أي وكل مسئول من علي بعد أميال؟ هل هذه مدينة ساحلية علي البحر حقا؟ كيف علي بعد أمتار من البحر تتحول الأحياء إلي علب خانقة دون نسمة هواء بفعل الأبراج التي تزدحم بها حواري المدينة البائسة؟ كيف يجرؤ مواطن علي خرق القانون هكذا وعلنا؟ ثم يفلت دون عقاب؟ لماذا لا تتم مصادرة الطوابق المخالفة لصالح الدولة في صورة إسكان شعبي أو يتم تغريم المخالف ضعف قيمة المخالفة مثلاً.. لماذا لا يسود تفعيل قانون البناء كما يحدث في كل بلاد العالم؟ وإلي متي يستمر هذا الوباء السرطاني، المتمثل في أبراج يتمسح أصحابها في الدين أحيانًا عبر بناء مسجد في الطابق الأرضي.. مثلا؟ إلي متي؟