تتدافع علي المسرح الجيوسياسي طائفة من المفاهيم والمصطلحات التي لا نملك حيالها، من فرط جاذبيتها وتماسك منطقها، ترف الرفض أو القبول، ولا يصلح الالتفاف حولها عبر حيل البلاغة العربية، أو حتي غض الطرف بشأنها، في عصر يهمل ولا يمهل، من لا يتعامل بجدية مع مفرداته. من هذه المفاهيم: المراجعة والنقد والتجديد والاختلاف والتسامح والإصلاح والتعددية وحقوق الإنسان والديموقراطية.. إلي آخر هذه المنظومة من الكلمات المفاتيح ، التي باتت تشكل اللغة الكونية للأخلاق والسياسة والقانون في عالمنا المعولم. لكن يبدو أن مفهوما جديدا سيصبح أكثر شيوعا في الأيام القادمة، وهو "دبلوماسية العلم".. لأن العلم (والمعرفة) -حسب تعبير الرئيس الأمريكي باراك أوباما- عملة القرن الحادي والعشرين. ورغم أن الاتحاد الأوروبي هو أول من نحت هذا المفهوم في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، فإن التاريخ سيذكر أن الرئيس أوباما هو أول من طبقه عمليا في العام 2010 ، في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا. في عام 1993 أصدر الاتحاد الأوروبي كتابا يحمل عنوان "نمو وتنافسية وتشغيل"، يحدد قواعد اللعبة الاقتصادية والاجتماعية، أما الكتاب الثاني المعنون "تعليم وتعلم" فقد صدر سنة 1995 ليشير -ربما لأول مرة - إلي بروز مجتمع "معرفي" تقوم بنيته حول رهانات كبري هي العولمة والتسارع الكبير الذي تشهده الفتوحات العلمية والتقنية. الملاحظة الأساسية في الكتابين تتعلق أساسا بالمعرفة ذاتها، هي أن ما ينتج اليوم من معارف يجاوز بكثير ما يستطيع الفرد استيعابه. وهي ظاهرة حديثة نسبيا في تاريخ البشرية، وإن كانت تطورت بسرعة جعلت الوعي بآثارها يبدو وكأنه يجئ متثاقلا متأخرا. وفي خطابه بجامعة القاهرة الرابع من يونيو عام 2009 دعا الرئيس أوباما إلي "بداية جديدة بين الولاياتالمتحدة والمسلمين في أرجاء العالم"، وقال "سنعمل في ما يخص العلم والتكنولوجيا علي إنشاء صندوق جديد لدعم تطور التكنولوجيا في البلدان ذات الأغلبية المسلمة والمساعدة علي نقل الأفكار إلي السوق كي تخلق فرص عمل". وانطلق بالفعل ثلاثة من العلماء الأمريكين، كل في جولة مستقلة، إلي عدد من الدول ذات الأغلبية المسلمة تمتد من شمال أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا في الفترة من يناير الماضي وحتي مايو القادم 2010 ، بهدف إقامة شراكات جديدة في العلوم والطب والهندسة والتكنولوجيا، وهم: أحمد زويل والياس زرهوني وبروس ألبرتس. معروف أن أحمد زويل أستاذ للكيمياء والفيزياء ومدير مركز البيولوجيا الفيزيائية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. منح جائزة نوبل للكيمياء في العام 1999 علي عمله الطليعي المتطور في مجال علم "الفيمتو" (وهو أسلوب لرصد وتتبع حركة الذرات المنفردة في الفيمتو ثانية أي في جزء من الثانية يساوي واحد علي أكوادريليون من الثانية أي أننا لو قسمنا الثانية إلي 100000000000000 جزء، تكون الفيمتو ثانية واحدا من تلك الأجزاء، مما مكّنه من دراسة الذرات والجزيئات أثناء حركتها لكي يري ما يحدث بالفعل عندما تنفصم الروابط الكيميائية للجزيئات وتنشأ بينها روابط جديدة. والثاني هو الياس زرهوني أستاذ لعلم الأشعة (الراديولوجيا) وهندسة الطب الأحيائي في جامعة جونز هوبكنز بولاية ماريلاند ومن كبار الزملاء في برنامج الصحة العالمي التابع لمؤسسة بيل ومليندا غيتس. وسبق له أن شغل منصب مدير معاهد الصحة الوطنية الأميركية من العام 2002 حتي العام 2008. حصل علي شهادته في الطب من كلية الطب بجامعة الجزائر قبل قدومه إلي الولاياتالمتحدة. وهو عضو في مجلس أمناء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا في السعودية. والثالث هو بروس ألبرتس أستاذ فخري في جامعة كاليفورنيا ( سان فرنسيسكو ) للكيمياء الأحيائية والفيزياء الأحيائية. وهو رئيس تحرير مجلة ساينس (العلوم) وشغل منصب رئيس الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم لفترتين متتاليتين كل منهما ست سنوات من العام 1993 حتي العام 2005. وشغل بين العامين 2002 و2005 منصب الرئيس المشارك لمجلس الأكاديميات، وهو عبارة عن معهد استشاري في أمستردام يشرف عليه رؤساء 15 أكاديمية علمية وطنية. وسيعمل المبعوثون الثلاثة علي تقصي الفرص في كل المجالات العلمية والتكنولوجية بما في ذلك الرياضيات والهندسة والصحة والطاقة وأبحاث تغير المناخ والتكنولوجيات الخضراء (الصديقة للبيئة) ، إلي جانب التعرف علي مواطن القوة والضعف في المؤسسات العلمية وتقديم التوصيات. وسيحمل كل مبعوث منهم معه خبرته الخاصة واهتماماته أثناء أداء مهمته.