مع أول أيام الشهر الجاري رحل المعلم المسرحي د. عبدالرحمن عرنوس، مر إلي عالم الراحة بعد عناء حياة صاخبة، وهب عمره كله للمسرح وللشارع المصري، كان عرنوس الشخص المختلف الذي يحكي عن المسكوت عنه في حياة المسرح المصري كان يحب شوارعه الخلفية، درويشًا في مقاهي أهل الفن عاش متصوفًا في قاعات الدرس بالمعهد العالي للفنون المسرحية أمضي معظم وقته. لم ينل حظه الكافي من الشهرة لدي الجمهور العام لكن يعرفه أهل الفن ومعظم المشتغلين بالمسرح في الوطن العربي. كان آخر صعاليك المسرح المصري كان ملكًا متوجًا في عالم الصدام مع كل ما هو مسكوت عنه، لذلك عاني حالة متوارثة من المنع والتجاهل منذ تعيينه معيدًا بالمعهد العالي للفنون المسرحية عام 1965 وحتي الآن، وكل ما حصل عليه من فرص للتعبير عن نفسه كانت فرصًا منقوصة ومحاطة بكل أنواع المعوقات، ولذلك لا يعد إنجازه كمخرج إنجازًا ملموسًا فقد قدم مسرحيات لم تعرض طويلاً مثل رحمة وشاطئ الزيتون وطيران فوق عش الوقواق. لكن إنجازه الحقيقي كان في دوره كمعلم وكمفجر إبداعي لطاقات تلاميذه. منحهم وقته وبيته وجنيهاته التي لم تكن كثيرة، له في وهج الجميع شيء من وهجه منذ أحمد زكي النجم الكبير حتي أحمد السقا، ساهم في تعريف هؤلاء بلا شعورهم الخفي عبر تدريبه المشهور عن كسر الخجل حيث صالح تلاميذه لا شعورهم بذكرياته الأليمة والسعيدة. رحمه الله كان يحب الناس وكان يحب البسطاء، ولمن لا يعرفه فهو الرجل الذي ألف ولحن وردد المصريون جميعهم خلفه نشيد الوداع يا جمال يا حبيب الملايين، عرنوس لم يكن لا يسار مصري ولا ناصري ولا ليبرالي، عرنوس كان علي أقصي درجة من عدم التوافق مع الكذب الإنساني العام. كان باب منزله لا يغلق طوال النهار والليل، حصل علي الدكتوراه في عمر الستين، لم يتزوج فقد فارقته حبيبته الأولي فعاش بألم التجربة الأولي للأبد، عرنوس توافق مع الشارع البسيط، ركب المواصلات العامة وأطعم كل الموهوبين الفقراء في بيته لحمًا وعسلاً. كان منزله هو البيت الدائم للغرباء إذا تعذر لأحدهم جدرانًا تحميه في ليلة إفلاس تام، وإذا ضاقت الدنيا بالنجم محمد سعد ولم يجد في عينيه إلا الدموع ذهب لدفء عبدالرحمن عرنوس وهو تلميذه بالمعهد العالي للفنون المسرحية لكن عرنوس لم يتوافق مع الوسط المسرحي ولم يتحرك نحو النجومية كممثل، ورضي بالصدام الدائم، وكان طيبًا كالأطفال العباقرة لا يعرف الحلول الوسط، كان نموذجًا للموهوبين المبددين وللمضيعين في أوطانهم. كان يحب مصر وناسها البسطاء قدم فنه خلال حرب الاستنزاف بفرقتي أولاد الأرض وشباب البحر لدفع اليأس عن الناس، جاب أقاليم مصر علي عربة من أجلهم، كان عرنوس خارج الأبنية الأنيقة ودور العرض المعطرة، كان يقدم مسرحه علي المقهي كما فعل مع عدلي فخري ومحمد نوح في ثمانينيات القاهرة بمقهي أسترا بميدان التحرير قبل أن تحتله مطاعم المأكولات السريعة، قدم للصيادين علي بحيرة المنزلة فنه، كما قدم لأهالي الصعيد أجمل المعزوفات الشعبية. عمل بالأردن منذ 1983 وحتي أوائل التسيعينيات، وهناك صادفته السعادة وصار نجمًا معبودًا عبر مختبر اليرموك المسرحي، وقلده ملك الأردن أرفع وسام في العلوم والفنون هناك. ولم يعرف في مصر تكريمًا أرفع من حب البسطاء له، وعشق أهل الفن والثقافة للبقاء معه في سمر حتي الصباح، رحمه الله رحمة واسعة عاش عمره في محراب الأستاذية الصوفي ومات في هدوء الراضي القانع بما قسمه الله له من عمر تجاوز الخامسة والسبعين عامًا من الصدام الدائم مع كل ما هو كاذب ومزيف. وداعًا أيها المسرحي الاستثنائي د. عبدالرحمن عرنوس.