شهدت أسوان أزمة حين تلفظ موظف حكومي "وكيل مديرية" بلفظة مهينة لشاب نوبي لجأ إليه لإقامة ندوة في مركز شباب القرية التي ينتمي إليها والكلمة التي كررها المسئول الحكومي عدة مرات هي كلمة "برابرة". لاحظ صيغة الجمع مما يبين أنه لم يوجه الإهانة إلي الشخص الماثل أمامه فحسب بل لكل أبناء النوبة. الغريب أن الأزمة التي بدأت داخل جدران مكتب الموظف العام انتشرت كالنار في الهشيم لتتلقفها وسائل الإعلام كبرنامج 90 دقيقة والعاشرة مساءً والصحف الخاصة ومن الواضح أن القانون الذي يحمي الموظف بحيث يقدم للمحاكمة كل من يتعدي عليه أثناء أداء العمل لا يحمي المواطن من بطش الموظف ولا يوفر له الحماية من الاعتداء البدني واللفظي. وفي الواقع فإنني لم أكن ارغب في الكتابة عن الأزمة بغية إتاحة الفرصة لجهات التحقيق في أن تصل إلي الحقيقة وترد اعتبار الجماعة قبل الفرد. والسؤال: لماذا أحدثت هذه اللفظة الأزمة التي مازالت أصداؤها تسمع في أرجاء المعمورة؟ ولماذا يتعمد فرد بالغ توجيه الإهانة لمجموعة من الناس دون أن يدرك جيدا كل معاني الكلمة التي ينطق بها؟ لقد استخدم الإغريق هذه اللفظة "برابرة" للإشارة إلي الحضارات والثقافات الأجنبية التي التقوا بها ومنها الحضارة المصرية والفارسية والسلتية والألمانية والفينيقية ويقال إن أصل الكلمة نابع من سخرية الإغريق من ناطقي اللغات الأخري غير الإغريقية أو ناطقي اللغة الإغريقية بطريقة خاطئة وكانت تستخدم للإشارة إلي شخص غريب أو قبيلة أجنبية لا يتحدث أفرادها اللغة الإغريقية وكانت تطلق أيضا علي الإغريق الذين لا يجيدون اللغة. ومن القبائل التي أطلقت عليها هذه اللفظة الفايكنج والقوطيون. أما الرومان فكانوا يطلقون لفظة البرابرة علي جيرانهم من القبائل الجرمانية في الشمال وتحديدا في جيرمانيا (ألمانيا)، واستخدمها أيضا النورمانديون حين غزوا انجلترا والقوطيون حين تمردوا ووضعوا نهاية للامبراطورية الرومانية في عام 470 بعد الميلاد. وكان الفرس يستخدمون نفس الكلمة حين يتحدثون عن الإغريق والرومان والعرب وكان البيزنطيون يستخدمونها للإشارة إلي البدو (قبائل البيشنج والكيتشاك الذين يقطنون شمال البحر الأسود) والهنود للإشارة إلي الثقافات الغريبة واعتبر الصينيون الثقافات الأخري كالمغول والتتار والأتراك واليابانيين والكوريين والفيتناميين والأوربيين برابرة. فعند وصول الأوربيين إلي اليابان أطلقوا عليهم برابرة الجنوب وكذلك فعلت قبائل الأنكا في أمريكا الجنوبية للإشارة إلي كل الشعوب التي تعيش خارج إمبراطوريتهم. أما في العصر الحالي فإن لفظة البربر تطلق علي المواطنين الأصليين الذين يعيشون في شمال إفريقيا. وهؤلاء القوم الذين يطلق عليهم أيضا الأمازيغ ينتشرون من سواحل المحيط الاطلنطي إلي واحة سيوة ومن سواحل البحر المتوسط حتي نهر النيجر. وكذلك تعرف لغاتهم باللغات البربرية التي تنقسم إلي عدة لغات تشكل العائلة اللغوية المعروفة بالافرواسيوية ويعيش معظم البربر في الجزائر والمغرب. ويعتبر الرومان هم أول من أطلقوا عليهم هذه اللفظة التي تبناها العرب فيما بعد عند الإشارة لهؤلاء القوم. من الملاحظ أن لفظة "برابرة" كانت تطلق علي الشعوب الاخري في العصور القديمة غير أن بعض الناس مازالوا يعيشون في الكهوف. لقد اعتاد بعض المصريين الإشارة إلي النوبيين بلفظة "برابرة". فمحافظ أسوان الأسبق قدري عثمان ( 19 مارس 1984 إلي 3 أغسطس 1991) نطق بها مما تسبب في أزمة لم تهدأ عواصفها إلا بعد أن تدخل رئيس الوزراء حينذاك، الدكتور عاطف صدقي. ومن المؤكد أن مسئول مديرية الشباب الذي أشعل الأزمة يدرك أن هذه الكلمة "برابرة" تشير إلي فرد أو جماعة إثنية غير متحضرة وتفتقد إلي المكانة الاجتماعية. تقول اليزابيث سميث في كتابها "كايرو كوزموبوليتان" إن هذه اللفظة تعبير عن الازدراء والسخرية وتدل علي النظرة المتعالية. لا شك أن إنسانا محترما يتمتع بقواه العقلية وتربي في كنف أسرة وعائلة طيبة لا يمكن أن يوجه إهانة لفئة من الناس. لا نبالغ إذا قلنا إن هذه اللفظة تنتشر في محيط الطبقات الدنيا التي يعيش معظم أفرادها تحت خط الفقر أو يتخذون من المقابر مسكنا لهم وبالتالي فإنهم مصابون بما يعرف بكراهية الذات غير أن الإنسان يسعي مرارا للخروج من هذه النظرة المتدنية للنفس من خلال البحث عن أفراد يعتبرهم اقل منه مكانة وشأنا معتقدا بأنه قد أدي خدمة جليلة لذاته المهزومة ونفسيته الخربة. وهذا السلوك المنهزم يكسو الجسد الهزيل الجائع الذي لا يعبأ بما يسببه لسانه العفن من ألم نفسي وغضب لفرد أو أفراد لم يسيئوا إليه.