مسيرة مفهوم القوة وتجلياته في العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية مسيرة معقدة، ناهيك عن مسيرته في العلاقات الدولية، لكن الذي يميز هذا المفهوم أنه عصب ومركز فهم المجتمع الإنساني من أصغر وحدة وهي الفرد إلي أكبر وحدة وهو العالم. فضلاً عن أنه يمكن أن يكون محكاً للقياس بين عالم البشر وعالم الطبيعة حين نقارن بين القوة والطاقة، وبين أشكال القوة المعنوية وتحولات الطاقة المادية، وهي المقارنة التي شغلت العلوم الاجتماعية حين سبقتها العلوم الطبيعية في مضمار الضبط والقياس، فسعت العلوم الاجتماعية والإنسانية بدورها لتطوير نظريات لضبط وقياس الفعل والسلوك الإنساني، لكن هيهات. فالإنسان ليس مادة فحسب بل هو جماع مكونات معقدة من المادة والعقل والعاطفة ورغم أننا يمكن أن نتنبأ بالسلوك أو ندرس الثقافة لكن ستظل هناك مساحة ومسافة من الإرادة الإنسانية يمكنها أن تقلب كل الحسابات والتوقعات رأساً علي عقب. من هنا فإن النظريات التي تبنت تعريف أن القوة هي قدرة طرف علي ممارسة التأثير في طرف آخر وإقناعه - أو إجباره - علي فعل شيء أو منعه من الإقدام علي فعل شيء قد شهدت مراجعات عديدة لتضم لذلك التأثير النفسي من قوة معنوية (علاقات تقليدية أو شخصية كاريزمية)، وكذا القدرة علي الهيمنة علي الوعي وتزييفه كي يتحرك الناس وهم يظنون أنهم يختارون في حين أنه قد تم تشويه رؤيتهم للواقع. انشغل الأدب بهذا أيضاً منذ القرن الماضي، فمثلاً في رواية 1984 يحدثنا أورويل عن نظام يفلح في تدجين البشر والتحكم فيهم وتطبيعهم علي سلوك واحد، وفي رواية «عالم جديد شجاع» يتناول آلدوس هاكسلي واقعاً متخيلاً شبيهاً بذلك، لكن الحلقة المفرغة يتم كسرها حين يتمرد أحد الناس علي تلك المنظومة، ويبقي السؤال معلقاً في النهاية يمكن أن يتم تحدي النظام وهدمه وتأسيس نظام جديد، فهل ينجح الفرد في تحريك قلة تقود التغيير وتؤدي لنهاية الكابوس؟! وتدرس النظريات السياسية أشكال القوة، لكن الآلة الأكبر للقوة في العصر الحديث هي الدولة بامتياز، فقد صارت الدولة القومية هي مركز القوة ومحركها، والمتحكم في مصادرها المادية، وهي التي تشكل عبر منظومة التعليم والتحكم في توزيع الموارد وأدوات استخدام العنف ومنظومة التشريع والقانون شكل العلاقات الاجتماعية وتكوين النخب. وقد شهد العالم تغيرات في القرن الماضي أربكت أيضاً المنشغلين بنظريات القوة، أولها ظهور أطراف جديدة في العلاقات الدولية خلاف الدولة هي الشركات العابرة للقارات من ناحية لتمثل هيمنة رأس المال وتكمل مسيرة الاستعمار القديم في التحكم في الموارد والأسواق العالمية، وفي مقابلها نمو شبكات عالمية من التضامنات الاجتماعية وحركات مناهضة سيطرة رأس المال العالمي ومقاومته، وحركة ضد الحرب وحركات البيئة وغيرها. علي جانب آخر عادت القوة السياسية والاجتماعية للدين في كل التقاليد والحضارات، ليخرج من أسر الحياة الخاصة التي أرادت الحداثة أن تحبسه فيها عبر عمليات العلمنة، والتي قادتها آلة الدولة أيضاً التي هي تجلي العقل المادي بامتياز، وفي النصف الثاني من القرن ظهر عالم جديد هو عالم الإنترنت وعالم الفضائيات بكل فرصه ومخاطره والذي ساعد علي كسر الهيمنة علي العقل وتنظيم جهود المقاومة المدنية والاجتماعية وفضح شبكات القوة المهيمنة وتوفير المعلومة في مجالات عديدة. لكن كل رؤيتنا للقوة ارتبطت بالكبير والضخم، ونسينا في خضم تلك التحولات أن القوة في البدء هي خصيصة إنسانية فردية، وأن فرداً واحداً يمكنه أن يكون أمة، ويغير العالم.لكن رهان القوة الغاشمة هو أن تشعر الفرد بأنه غير ذي قيمة، وهو ما تفعله أداة الترويع والتعذيب، وتفعله أدوات الإعلام، وتصوغه ماكينة التعليم في الدول المستبدة. لذلك فإن قرار فرد واحد بأن يتحدي المنظومة ويخرج ليقول إني أري الملك عارياً، أو يأتي من أقصي المدينة يسعي ليقول يا قوم اتقوا الله، أو يخرج علي الناس ليصادم كل ما آمنوا به اتباعاً لتقاليدهم فأعمي قلوبهم، أو يخرج لمعركة يدرك أنه سيذبح فيها لكن يقول «هيهات من الذلة»، هذا القرار الذي يوجهه يقين وتحركه إرادة يمكنه أن يقلب الأمور ويغير التاريخ. لا تنظروا بعين الاستخفاف لفرد أو جماعة صغيرة تطالب بالحق وتصبر علي ذلك، ولا تبقوا في انتظار المد الثوري العارم الذي شهدناه في القرون الماضية، تلك الحركات الاحتجاجية الصغيرة محدودة العدد التي نراها كل يوم في مصر هي التي ستحرك الماء الراكد، دون جعجعة ولا ضجيج. إنها كالنمل الذي سيأكل منسأة صاحب الصولجان، وحين يخر الجسد الميت سيعلم الناس أنه لا يعلم الغيب ولا يملك المقادير إلا الله، فالقوة شروطها ربانية، وسننها إلهية، أما التمكين فهو منحة من الله لمن يأخذون بأسباب القوة بيقين ولا يخافون في الحق لومة لائم، فاصبروا وصابروا ورابطوا وافعلوا الخير لعلكم تُرحمون.