هناك أزمنة ابتكر فيها الإنسان الأسطورة كالزمن الإغريقى، الذى يصعب فيه فك الاشتباك بين الميثولوجى والواقعى. ومقابل ذلك الزمن، هناك أزمنة عادت إلى الأسطورة باعتبارها الاحتياطى الذى يستدعى ليسد فراغا عميقا فى الواقع، ومثال هذا الزمن القرن العشرون، الذى شهد إعادة إنتاج الأساطير أو الإحالة إليها، ففى قصيدة واحدة لأليوت هى «الأرض اليباب» ثمة عشرات الهوامش التى تحيل إلى الميثولوجيا، ومن أبرزها وربما أهمها أسطورة سيبيل، التى طلبت من الآلهة الاأدرية، لكنها لم تطلب ديمومة الصبا، وحين بلغت الشيخوخة أصبحت تتمنى الموت. فالقصيدة بنت عصرها وزمانها وظروفها ومحيطها، بنت تقاليد «سادت وبادت»، وقد تم الخروج عليها وتجاوزها. فقصائد أبى تمام وخياله ليس كمن سبقوه، فخيال أبى تمام «خيال المساحات الشاغرة»، وهو الذى قال عنه الشاعر العباسى البحترى إنه «الرئيس الأستاذ». وكذلك بشار وأبو نواس، فهما مختلفان تماماً. وقصائدهما ليست قصائد امرئ القيس وعمروابن كلثوم. ولا هى قصائد أحمد شوقى والجواهرى، لذلك فمفهوم القصيدة هو مفهوم متحول ومتطور. وكذلك الأمر فى قصائد رواد قصيدة التفعيلة والشعر الحر، فما من شاعر يشبه شاعراً، ولا قصيدة من قصائدهم تشبه قصيدة غيرها، على الرغم من النظام العادى لشعر التفعيلة. وشعرنا العربى الحديث، فى الموجة التى أطلق عليها شعر التفعيلة كبديل للعمود، كان استخدام الأسطورة قاسما مشتركا بين الشعراء الرواد، بدءا من بدر شاكر السياب الذى تأثر بكتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر، وحاول تحديث وعصرنة بعض الأساطير سواء الإغريقية منها أو أساطير حضارة الرافدين، والسمة التى طغت فى تلك المرحلة على توظيف الأسطورة فى الشعر هى القيامة والانبعاث، التى تجسدت فى الفتى أدونيس الذى استمدت الارض خصبها وربيعها مما نزف من دمه.إن اعتبار الخيال «أهم أسس الإبداع والتجديد»، هو أمر ينطوى على قدر من المبالغة غير المرغوب فيها، وفى تقديرنا أن الفكر والخيال يعملان معاً، فى سياق الإبداع، وليس آلياً أو ميكانيكياً بالطبع، وهما لا ينفصلان. وبالطبع تفاوت استخدام وتوظيف الأساطير بين شاعر عربى وآخر، تبعا للموقف الأيديولوجى ومرجعيات الثقافة، فالشاعر خليل حاوى بهاجسه القومى اختار من الأساطير ما يكرس أطروحته القومية. أما عبد الصبور فقد اختار ما يتناغم مع هواجسه الميتافيزيقية حول سؤال الوجود والعدم. وذهب الشاعر على أحمد سعيد إلى ما هو أبعد حين أطلق على نفسه اسم ادونيس، متجاوزا التقمص إلى الحلول، وإن كان السياب الأكثر تنوعا وبانورامية فى استخدامه للميثولوجيا، لأن معاناته الجسدية أعطت سيزيف بعدا تاريخيا وواقعيا، وكذلك أشواقه للانعتاق من واقع بالغ القسوة، وجسد خذله فى مُقتبل العمر. العمل الإبداعى» هو كل متكامل، لا يجوز القول بتقديم عنصر على آخر، وأهمية أى عمل هى فى اجتماع عناصره كلها معاً. فاللغة فى أى عمل إبداعي، تنبع من الفكرة التى تنطوى عليها، وهما تتلاحمان، لا بالصورة التقليدية، أى شكلاً ومضموناً، بل فكرة وكلمة تصنعان نصاً إبداعيا. ولذا، فالمبدع صاحب لغة من جهة، وصاحب أفكار مبتكرة من جهة ثانية، ولا يستطيع «خلق» نصه من دون اجتماعهما، وليس بالضرورة أن يكون مفكراً أو فيلسوفاً ليبتدع فكرة، كما ليس بالضرورة أن يكون فقيهاً فى اللغة ليبتكر عبارات مدهشة. ولأن تلك الموجة الشعرية تزامنت مع هزيمة العرب فى حرب عام 1948، التى انتهت باحتلال فلسطين، فقد جذبت أسطورة بنيلوب كثيرا من الشعراء الفلسطينيين، لأنها ذات صلة بالضياع وانتظار العودة، وما فات معظم هؤلاء الشعراء فى هذه الأسطورة هو ما تنبه إليه الشاعر اليونانى حفيد الأسطورة الإغريقية يانيس ريتسوس، فقد قلب الأسطورة، وأعاد إبداعها بوعى فائق للزمن، وانتهى فى قصيدته التى استلهمت بنيلوب إلى أن المرأة التى تنتظرعوليس الذى غيّبته البحار، أنكرته بعد عودته، لأنه لم يعد الرجل العاشق الذى تعلقت به، وأكثر من ذلك سخرت من شيخوخته وندمت على ما أضاعت من العشاق، وهى تنسج الطيور على مناديلها المبللة بالدمع، وتنتهى قصيدة ريتسوس بفرار تلك الطيور من خيوط الحرير إلى أشعة الشمس. يصعب على من يتعرف إلى أشعار الفرنسي آرثر رامبو ويتفاعل مع ما تحمله من حداثة وتجريبية وتفاعل متفاوت مع الحياة بسعاداتها وكآبتها، أن يصدق حكايات تلك النهاية التى كانت نهايته وقد تحول خلال المقلب الأخير من حياته إلى تاجر سلاح فاشل وإلى تائه فى مناطق الشرق بدءاً من قبرص إلى الحبشة مروراً بمصر وعدن، يطارده الإفلاس والمرض والإحساس بالإحباط والخيبة ما وضع فى نهاية الأمر نهاية لتلك الحياة التى كانت كثيرة الوعود، مغرقة فى الرومانطيقية. ونعرف أن تلك «القلبة» فى حياة صاحب «المركب الثمل» بل حتى «موسم فى الجحيم» كانت وراء ذلك الجانب الذى يكاد يكون أسطورياً فى مسار شاعر سوف يصبح بعد زمن طويل من موته ليس فقط أيقونة الشعر الفرنسي، بل حتى أيقونة التمرد على صروف الحياة والنزوع إلى البعيد. وما يلفت الانتباه، هو انحسار هذه الظاهرة فى شعرنا العربى خلال العقود الأربعة أو الخمسة الأخيرة، ونادرا ما نجد نصّا يستلهم أسطورة أو يحيل إليها، فهل حدث ذلك لأن الزمن الذى نموته أكثر مما نعيشه بلا أساطير وبلا أشواق للتحليق عاليا، والأرجح أنه زمن زواحفى يلتصق الإنسان فيه بالتراب، بعد أن فقد جناحيه وأصبح بيته هو قبره، كما هو الحال بالنسبة للسلحفاة. وهناك الفيلسوف الألمانى سبينوزا الذى لا يخفى تأثيره الطاغى على الفكر الفلسفى وتحريره من أولية اللاهوت على الناسوت، وداروين ونظرياته التطورية، ويونغ وكاسيرر وت. س. إليوت، الذى لا تخفى آثاره الحاسمة على حركة الحداثة الشعرية العربية، سواء من خلال عشرات الترجمات لقصيدته الطويلة «أرض اليباب» إلى العربية، (عبدالواحد لؤلؤة، توفيق صايغ، نبيل راغب، محمد بدوي، وغيرهم) أو من خلال استلهام شعراء عرب كثيرين لقصيدته من أجل صوغ قصائدهم بناء على الخراب المستفحل فى بلدانهم العربية بوجهيه الروحى والمادى. والأسطورة ليست كما يتصور البعض مرادفا للخرافة، أو مضادة للتاريخ إنها من صلب التاريخ، لكن على صعيد الممكن والقابل للتحقق، لهذا قال أرنست فيشر إن الخيال قد يكون واقعا بالغ التركيز، وقد عرّفها سيجموند فرويد وفقا لمنهجه ومعجمه النفسى بأنها، ترجمة مصعّدة للرغبة. وعرّفها يونغ بانها تعبير عن صراعات اللاوعى البشري، وحين نعيد قراءة أساطير مثل سيزيف وبروميثيوس وأيكاروس، نجد أنها تعبير عن عقاب أبدى لحق بالإنسان عندما بلغ رشده الآدمى وتمرد، وقد تكون اسطورة بروميثيوس هى الأوضح والأدق فى التعبير عن هذا العصيان، فكل ما تعرض له من عقاب وهو نهش النسور لكبده العارى، كان بسبب اكتشافه لسرّ النار، والنار فى سياق كهذا هى النور ذاته بكل ما يقبل من تأويلات. ويرى الشاعر العراقى معروف الرصافى أن قول الحقيقة يقابلها ثمن يجب دفعه فيقول: «أصبحت لا أقيم للتاريخ وزناً، ولا أحسب له حساباً لأنى رأيته بيت الكذب ومناخ الضلل ومتجشم أهواء الناس، إذا نظرت فيه كنت كأنى منه فى كثبان من رمال الأباطيل قد تغلغلت فيها ذرات ضئيلة من شذور الحقيقة فيتعسر أو يتعذر على المرء أن يستخلص من طيش أباطيله ذرات شذور الحقيقة. ولئن أرضيت الحقيقة بما أكتبه لها، لقد أسخطت الناس على، ولكنى لا يضرنى سخطهم إذا أنا أرضيتها، كما لا ينفعهم رضاها إذا كانت على أبصارهم غشاوة من سخطهم علي، وعلى قلوبهم أكنة من بغضهم إياى (...) أما سخط الناس من أجل أننى خالفتهم لوفاق (الحقيقة) وصارحتهم فى بيانها جرياً على خلاف ما جروا عليه من عادات سقيمة وتقاليد واهية، فلست مبالياً به ولا مكترثاً له...» وهناك أسباب تاريخية وموضوعية لانجذاب الشعراء العرب من جيل الرواد للأسطورة، منها أن تلك الموجة من الحداثة فى نهاية الأربعينيات من القرن الماضى تزامنت كما قلنا من قبل مع حراكات وطنية وسياسية، منها ما يتعلق بالاستقلال، ومنها ما يعبر عن احتجاج أصيل على نظم مُستبدة، لهذا كان استخدام الأساطير ذات الصلة بالانبعاث والقيامة بمثابة استدعاء للاحتياطى القومى والإنساني. هناك إذن أزمنة تبتكر الأساطير مقابل أزمنة أخرى تعيد إنتاجها، لكن الزمن الرمادى الذى تضاءل فيه الآدمى وتشيّأ وحولته ثقافة الاستهلاك إلى إسفنجة لا حاجة به إلى الأساطير، أو حتى إلى الخيال، لأن واقعيته الزواحفية قدمت الضرورة على الحرية، والرغيف على الوردة وأخيرا أصبح يعيش ليأكل فقط، والتاريخ قابل فى بعض مراحله لأن يؤسطر، بحيث تجسد فيه الاستثناءات رموزا تصلح لكل أوان، لكن هناك فترات يصبح فيها الإنسان كالمنبت الذى لا تاريخا أبقى ولا أسطورة قطع، بحيث تصبح حدود قامته وملكوته بين قبعته أو كوفيته وحذائه.