كتب: أحمد سميح وتغريد الصبان ورهام محمود وسوزي شكري لا يعيش الفنان التشكيلي في عزلة عن العالم كما يراه ويعتقد البعض، فحضورهم كان واضحا ومؤثرا في انتفاضة الشعب المصري، سواء في القاهرة بميدان التحرير، أو في باقي محافظات الجمهورية، رسامون ومصورون ونحاتون وخطاطون جميع الفنون التشكيلية كانت حاضرة وبقوة في قلب "الميدان"، الذي مثّل رمزا للثورة، هذا التحقيق يرصد آراء بعض من الفنانين الذين شاركوا في الثورة، بجانب العديدين غيرهم ومنهم محمد عبلة وصلاح عناني وهاني راشد. عبدالله داوستاشي مصور فوتوغرافي، وهو أيضا ابن الفنان السكندري عصمت داوستاشي، شارك في مظاهرات 25 يناير وواصل طوال فترة الثورة، أصيب خلالها بسبب طلقات "الخطروش" في أجزاء عديدة من جسمه، لكنها لم تمنعه من تسجيل وتوثيق مشاهد الثورة بكاميرته، ويستعد حاليا لإقامة معرض فني لهذه المشاهدات. أدخلته الثورة مجال الكتابة من خلال ما يشبه ال"يوميات" نشرها علي صفحته علي "الفيس بوك"، منها قصة طريفة عنونها "قصة سيارة مناضلة" يقول فيها:"سيارتي التي دائماً أعاملها بقسوة وعنف، اعتقادا مني بأنها دبابة وليست سيارة بعد إصابتي يوم "جمعة الغضب" بالخرطوش من قوات الأمن المركزي، أثناء معركة دامية غير متكافئة في المنشية بالإسكندرية وبعد خروجي من المستشفي يوم السبت بناءً علي رغبتي، كتبت عليها كل الشعارات التي أؤمن بها وأرددها مع حشود الشعب المصري بكل طوائفه، ظلت أطوف بسيارتي التي أصبحت تشاركني في نضالي بكل أرجاء الإسكندرية، للاطمئنان علي الأهل ومتابعة الأحداث المتطورة كل ساعة، والبحث عن المظاهرات للمشاركة والتصوير، أقف فوق سطح سيارتي لأصور من زاوية أعلي، وهكذا كنت أعتمد عليها بشكل أساسي كالعادة، وذلك كله لمدة يومين حتي ذهبت إلي أختي لاصطحابها هي وأبنائها إلي والدي كي يطمئن قلبه وذهبنا إلي "العجمي" بسيارة أختي وتركت سيارتي ب«محرم بيه» وبداخلها حقيبتي التي تحتوي علي كل الأشياء التي أستخدمها ومن أهمها الكاميرا ولم أعد لآخذ سيارتي كما كان مخططاً وذلك أنني اكتشفت أثناء عودتي لأخذ السيارة أن الشرطة التي أصبحت سرية، والمرشدين والبلطجية بدأوا بالانتشار بكثرة يروجون لبقاء مبارك عن طريق المنشورات المؤيدة والترهيب والضرب لمن يحاول التعبير برأيه فاكتشفت أني في خطر وكذلك سيارتي، وتواريت عن الأنظار وقمت بالمبيت عند إحدي الأسر الصديقة، وكنت أتنقل كل يوم في مكان وأتنكر وأشارك في المظاهرات التي كان يحاصرها البلطجية من كل مكان بمصاحبة الشرطة، كل ذلك بدون الكاميرا والسيارة ووصلتني الأخبار عن سيارتي أول بأول عن طريق أحد أصدقائي بمحرم بيه. ويكمل: في البداية جاء مجموعة من البلطجية يحملون الشوم وهدفهم تحطيم السيارة، فمنعهم أصدقائي وأهالي محرم بيه وكان هناك قلة من أصحاب القلوب الضعيفة الذين أنكروا معرفتي ومعرفة السيارة ولكن استطاع أهالي المنطقة الشرفاء إنقاذها وقاموا بغسلها وإزالة الشعارات من عليها واعتقدت أن السيارة أصبحت في أمان ولكنهم قاموا بعد ذلك بإرسال مجموعه من الأطفال المتشردين لإفراغ الهواء من الإطارات والتخريب فيها، وكنت قد طلبت من صديقي في بداية الأحداث بأن يفتح السيارة عنوة لإنقاذ حقيبتي والكاميرا وقد فعل فكانوا بالنسبة لي أهم من السيارة نفسها وبعد ثلاثة أيام ذهبت لاسترجاع سيارتي ووجدت مساعدة من كل الأهالي لإصلاح السيارة وتأهيلها للعمل، وأخذتها إلي العجمي وقمت بمواراتها في الجراج الخاص بي. وتوالت الأحداث واستعملت بعد ذلك سيارة شقيقتي ليومين حتي انكشفت الأمور واتضح من المفسد والبلطجي وأننا سلميون، وعاد الأمان النسبي، فقمت بإخراج سيارتي والاعتناء بها جيداً وتأهيلها للسفر إلي القاهرة للانضمام للمعتصمين في ميدان التحرير والعودة، وقد سمعت خبر تنحي مبارك داخل سيارتي من خلال الراديو وذلك أثناء عودتي للإسكندرية بمصاحبة بعض المناضلين السكندريين الأصدقاء الذين قرروا العودة معي للإسكندرية لمواصلة النضال بها وقمت من جديد يوم 12 فبراير بكتابة شعار علي الزجاج الخلفي لسيارتي المناضلة "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر". كان أيضا من ضمن الفنانين الذي شاركوا في ثورة يناير النحات صلاح حماد، الذي أكد أن مشاركته للثورة كانت لإيمانه بها، كما أنه كان من الضروري أن يشارك الشعب المصري بأكمله في هذه الثورة لإسقاط النظام، فحاليا نشاهد في كل يوم فضائح عديدة تخللت هذا النظام؛ لذلك كان لابد أن يخرج لها كل مصري. أضاف حماد: أما عن مشاركتي في الثورة فلم تكن لأسباب فنية نهائيا، بل لأسباب وطنية؛ لأن المشاركة بالنسبة لي كانت واجباً أساسياً، أما عن تأثري بها فيما بعد في أعمالي فأنا أتوقع تأثري الفترة القادمة بالثورة؛ لأن الفنان لم يكن منعزلا عن المجتمع بل يتأثر دائما بما حوله؛ ولذلك تضامن جميع الفنانين التشكيليين مع الثورة، وكانوا متواجدين بشكل دائم كل يوم في ميدان التحرير؛ ليطالبوا جميعا برحيل النظام، وكانت مشاركتهم وطنية، ومن المؤكد أنهم لديهم أفكارا كثيرة سوف تظهر في أعمالهم الفنية فيما بعد. وأكد حماد: رأينا في الميدان شباباً صغيراً يقوم بتنظيف الميدان، وانتظرت مع مجموعة من الفنانين في الميدان طوال يوم المظاهرة المليونية الأولي، ولم نشهد أي مشاكل، كما كان الجيش محايدا، وطلب منا مشاهدة البطاقة الشخصية فقط عند دخولنا للميدان، وأنا كنت أتوقع هذه التظاهرة بل وأكثر منها شدة؛ لأن الناس كانت تعيش في كبت؛ فجهاز الشرطة لم يكن محبوبا في مصر لعنفه مع المصريين، وتكبره في التعامل مع الشعب بشكل مهين للإنسانية، كما أنه من الغريب جدا أن وزير الداخلية السابق يعطي أوامره بسحب جميع قوات الشرطة من البلد!!!، بهدف أن يحدث تخريب في البلد وأن يري المواطنون المصريون العنف الذي حدث من قبل بعض البلطجية، وتهجمهم علي منازلهم في الأيام السابقة؛ ولذلك الشعب أصبح في ضغوط لم يكن مسئولا عنها، بالإضافة إلي من خرجوا بالجمال والحصنة في المظاهرات، ولايزال السؤال يبحث عن إجابة: كيف حدث ذلك؟!! ومن كان وراءه؟!! وكذلك كان المصور الفوتوغرافي حسين عبد الواحد، أحد الفنانين المشاركين في الثورة، وعن ذكرياته يقول: بدأت مشاركتي منذ "جمعة الغضب" عندما رأيت الناس الأبرياء وهم يموتون في هذه الثورة السلمية، لحظتها قررت أن أكون ضمن هؤلاء موجودا ومشاركا بالحدث، معبرا عن حقي في الحرية وإنهاء الفساد، بالفعل ذهبت مباشرة إلي هناك كمواطن مصري متناسيا المصور بداخلي. كانت أول ليلة قضيتها هناك بالميدان هي ليلة ثلاثاء "المليونية"، وقتها وأنا بين الجموع شعرت بأن شيئا سيحدث وآمنت بأن النظام سيسقط، فالجميع يد واحدة، ومن أبرز المشاهد الراسخة بذهني مشهد غريب لمجموعة من الإخوان تتوسطهم نوال السعداوي يتناقشون في الدستور! يواصل: من أصعب الأيام التي مرت علينا كان يوم الأربعاء يوم "موقعة الخيول والجمال"، كان أول يوم أعود للمنزل وإذ بي أفاجأ بتليفون من أحد الزملاء ليحكي عن هذه الموقعة المذهلة، فذهبت سريعا عائدا للميدان لأجد "البلطجية" وقد بدأوا مهاجمتهم لنا، ووابل من الطوب ينزل علينا، وقتها لم أشعر بنفسي وأخذت أرمي الطوب في محاولة للدفاع عنا جميعا، وبدأت جموعنا تنقسم لمجموعات عمل، مجموعة تمسك بالسياج الصاجي وأخري ترمي الطوب، والثانية تأخذ المصابين للعلاج وهكذا، كل هذا كان دون ترتيب أو سابق اتفاق بيننا. يكمل: بدأت اصطحب الكاميرا معي منذ يوم "المظاهرة المليونية" لأصور، بعدها توقفت خمسة أيام عن التصوير، ثم بدأت مرة أخري التصوير ويومها قررت التصوير من فوق أعلي مبني بالتحرير، وبالفعل توجهت له لأصعد أعلاه لكنني فوجئت برجل يمنعني وغيري من الصعود، وجدت نفسي مصرا علي الصعود للتصوير وظللت قابعا في صمت تام بمدخل المبني 4 ساعات متصلة من الواحدة ظهرا حتي الخامسة مساء، فاقتنع الرجل برغبتي وإصراري علي التصوير وسمح لي بالصعود إلي سطح المبني لأقابل آخر ليسألني بدوره عن سبب رغبتي في التصوير فأكدت له أنني مصور حر، أصور بغرض عمل أرشيف لنفسي وليس النشر، لهذا لم أهتم بالنواحي الفنية في التصوير إنما بالناحية التسجيلية للأحداث والمتظاهرين لإعطاء كل منهم حقه الذي يستحقه، ربما يوما ما أقيم معرضا بهذه الصور إنما لن يكون للبيع. أما الفنانة التشكيلية هيام عبدالباقي فتقول عن ذكرياتها مع الثورة: ربما كانت ثورة تونس حافزا لنا، خرجنا يوم 25 يناير واتجهنا إلي ميدان التحرير، رأيت ما لم نتوقعه، الشرطة ترمي مياهاً من سياراتها علي المصلين في مشهد غير إنساني، أحبطنا كثيرا وزاد من غضبنا، مما جعلنا نصر علي استكمال المظاهرة، بدأت الشرطة تجمعنا بالقوة، رمونا بقنابل مسيلة للدموع اكتشفنا فينا بعد أنها منتهية الصلاحية، أصابتنا بحالة إغماء وانعدام رؤية لفترة طويلة، واحتفظت ب"فارغ" بواحدة من هذه القنابل حتي لا أنسي ما تعرضت له. قابلت الفنانين محمد عبلة ورفقي الرزاز وأشرف رسلان وغادة عبدالملك وسيد هويدي وغيرهم، وكتبت اللافتات التي قمنا برفعها وهي"الشعب يطالب بمحاسبة النظام"، وعندي أسباب خاصة لهذا، فأنا فلاحة من كفر الشيخ ونعاني هناك من مشكلة عدم كفاية المياه، أراض كثيرة بارت ودمرت وضاعت بسبب تأخير المياه، وأبي كان من الذين يعانون من مشكلة ري الأرض، وكنت أحزن كلما سمعت معاناته، مع ما وجدته أيضا من نقص في العدالة الاجتماعية. وتكمل: أيضا الوسط التشكيلي لا يوجد به عدالة ولا تقدير لصاحب القيمة الحقيقة، والإعلام المصري سبب تباعد الجمهور عن الفنانين التشكيليين، قمنا بالنزول مرة أخري يوم 27 يناير بمشاركة الكتاب والفنانين والممثلين والشعراء وكثيرين من المثقفين المؤمنين بالثورة، كنا نساعد بعضنا دون سابق معرفة، هذا اليوم رجعت البيت للساعات محدودة لآخذ بعض الأشياء للمبيت، وأثناء عودتي لميدان التحرير مع صديقتي مني ركبنا سيارة "ميكروباص" بيضاء، فوجئنا بالسائق يقول: "مش ها تروحوا التحرير انتوا هاتيجوا معانا"، أخرج مسدس وضعه علي رأسي، والشخص الجالس بجانبه أخرج "ساطور" وضعه علي رقبة صديقتي، قاومنا وقررت في لحظة أن افتح الباب للهروب فسقطت علي رأسي مما سبب لي ارتجاج في المخ وكدمات أخري في ظهري مازلت أعاني منها، صديقتي مني تمكنت أيضا من النزول بعدما أجبرتهم علي إيقاف السيارة بصراخها بعد اقترابهم من إحدي اللجان الأمنية ليهربوا سريعاً، ورغم ذلك، فإن كل ما أصابني لا يساوي شيئا أمام ما تستحقه منا مصر.