من جواهر المسرح المصري الضروري القديم - يعني المقامة أو (المنولوج) أو المونو - دراما - أو حكاية طويلة يحكيها شخص واحد اخترت رواية شخصية أصيلة يحكيها بذاته السيد (لقمة). لقمة: رجائي أستاذي ومعلمي نور الظلام الحالك أن أحضر مكانه في مجلس كتاب المجالس بشرط أن أكتب مكانه وأسجل بقلمه في ديوانه. ولقد مضيت للمزيد فحلقت وخففت الشارب واللحية والحاجب، حتي أصبحت مليحاً ناعماً لافتاً لأنظار أعضاء المجلس - وبريت أقلامي ولمعت ورقي وسويت أكمامي وشربت من القهوة سطلاً، واستيقظت من نومي مبكراً أو قل لم أنم ليلي، ومنذ البكور كنت أول من وصل، المجلس أول من دخل وقدمني رأس المجلس للأعضاء علي أني لقمة الرغيف أسجل حوار اللجنة وأبرز فحواه ومعناه، دون تدخل من جانبي في مبتغاه ولا منتهاه وأن أنسي ما سمعت ولا أصرح به وكأني لم أكن موجوداً ولا سامعاً ولا مسموعاً. وقد اعتراني نشاط وحماس، وبدأت أدقق في وجوه الناس وفي الأزياء واللباس، وأدركت من فوري أني أحط الجميع هيئة (وأزفتهم) خيبة، فأنا مجرد كاتب جربوع وسط كوكبة من جموع - حلوين فعلاً - وصحوت من سرحاني علي صوت رفيع الشلتة وهو يفتح الجلسة، وانبري المتحدث الأول محموقاً يخرج كلامه مدلوقاً مزقوقاً وهو يصرخ في عنف عنيف لكن بصوت ضعيف يعلن: أنا هنا يا إخوة منذ زمان طويل وأنا رجل جليل مقطوع الحيل - صبرت صبر (الجملان) وصمت صمت (الحملان)، حتي عبرني اهتمام ذوي الشأن ومرتبي مازال حقيراً، وزادي لا يزال صغيراً، ولا أملك حماراً ولا بغلة ولا طشتاً ولا قلة، فمن يرضي عن هذا الظلم؟! وانخرط في بكاء حار وقد لامسه كل جار فما سكت.. وصار ينهق كالحمار: أنا مظلوم - مظلوم - مظلوم. ولقد حال رئيس اللجنة دون أن يتعاطف معه الآخرون، فأوقف الحوار في هذا الباب وقال له: حذار يا صاحبي أن تكون ذاتياً، نحن أناس (موضوعيون) وجلستنا هذه لبحث تلميع سلم المبني التذكاري القديم للمملوك (يشمك) الذي مات في عز شبابه وبكاه كل أحبائه وخطابه.. وجدول أعمال مجلسنا محدد، فبماذا نلمع سلم مبني المرحوم - بالسلك أم بالحجر الخشن، وهل يغير هذا لون (رخامه)، وبأي نوع من الماء يتم غسل السلم؟ بماء النهر أم بماء المطر - تلك مسائل فنية لا يخرج عنها الحديث. أما فقرك ومرضك ومرتبك فهو أمر يخرج عن حدود جدول الأعمال. وهنا أثر الأموات أهم وأخطر من قرف الأحياء، وإذ بالمتحدث السابق المقهور، يصرخ في عنف: الحمد لله أن اللجة تؤمن بأن الميت أهم من الحي. ولذا (يا بك) أنا لست حياً بل أنا ميت بن ميت بن ميت - نظرة لي كما تنظرون لسلم مبني المرحوم ومعشوق صاحب الصندوق، وأنا موافق.. لمعوا سلمه بماء النهر أو بماء البحر أو بماء الورد - حكوا رخامه بالصابون أو بالدهون، أو بالكمون، لكن (بصوا) لي.. ساعدوني يا خلق فأنا ميت وأبنائي ميتون. وهنا صرخ رئيس اللجنة وهو ينظر في ساعته (الرملية) المعلقة في كيس مدلي من الجلابية: لقد انتهي الوقت المخصص للجلسة، وموعدنا الشهر القادم لبحث نفي الأمر، وهو: إذا تم غسل المبني بالماء القراح، وتم الدعك بالحجر الرحراح، فكيف يتم التجفيف - بالقطن أم بالكتان؟! وهنا لم يتمالك صاحبنا الغلبان الشاكي من قسوة الزمان نفسه، فصرخ في قوة. «أنا ميت يا ناس» وقفز من نافذة المجلس وسمعنا ارتطام جسده بحجارة ساحة المدخل، وسادنا صمت شديد. وعقب رئيس اللجنة: رحمه الله - أراحنا من مقاطعاته ومن شكاياته انتهي.. نظفوا مكانه بالزفت.. وجمعت أوراقي وأقلامي وحمدت الله أني ما شكوت.