" هناك مفكرون كان لهم فضل الريادة فى طرح القضايا والأفكار التى لانزال نحتاج إليها فى صنع التقدم الفكرى والحضارى لأنفسنا وللأجيال القادمة، ولعل من المناسب فى هذه اللحظات الفارقة من تاريخ أمتنا أن نتذكر هؤلاء الرواد ونتعرف على رؤاهم الفكرية للطريق الذى ينبغى أن نسلكه لنخرج من عباءة التقليد والجمود إلى رحابة الإبداع الحضارى المستقل استنادًا على تراثنا الحى والإمكانات الهائلة الذى يعطينا إياها التقدم العلمى المعاصر الحافل بالعقلانية والمناهج العلمية التى تتيح التقدم لكل من عمل بها وفكر من خلالها. إن تلك كانت دعوى هؤلاء الرواد وذلك ماينبغى أن نتطلع إليه الآن ونعمل من خلاله على تقدم أمتنا لنضعها فى المكانة اللائقة بها بين الأمم فى العالم المعاصر. " كان جمال الدين الأفغانى من ذلك الطراز من المفكرين الذين عاشوا فكرهم وعبروا بصدق وإخلاص عن قضايا مجتمعهم وبلوروا مواقف الناس فى عصرهم. وإذا كان قد حدث اختلاف بين الدارسين والشراح حول تفسير بعض أفكاره ومواقفه فإن ذلك قد لا يبرر ذلك التناقض التام فى تقرير قيمة الرجل بين من يعتبرونه موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام وداعية الأمة إلى النهضة الجديدة، وبين من يقللون من دوره ومن شأن حصيلته الفلسفية والعلمية ويعتبرون أن البحث عن خيط يربط بين أفكاره مضيعة للوقت. ولنتعرف بداية على بعض لمحات من حياته الفكرية ؛ إنه السيد جمال الدين السيد صفتر(أوصفدر) الذى ولد لأسرة عريقة من أقدم الأسر وأكثرها مجدا وشرفا فى بلاد الأفغان – حسب رواية السيد رشيد رضا - لأنها تنتسب إلى السيد على الترمزى المحدث المشهور ويعود فى نسبه الأقصى إلى الإمام الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما. ويبدو أنه كان لهذه الأسرة سلطة وسطوة وأملاك كثيرة فى بلاد الأفغان، ويقال إنها كانت تسيطر على جزء من الأراضى الأفغانية وكانت تحكمه ولها الولاية عليه حتى اغتصبت هذه الأراضى منهم على يد الملك محمد خان. ومن ثم انتقل السيد جمال الدين وأعمامه إلى كابل. ورغم تعدد الروايات حول أصله وجهة مولده إلا أن تلك الرواية ربما تكون الأصح بين تلك الروايات المتعددة. ولد السيد جمال الدين عام 1254ه 1839ه وقد انتقل مع والده إلى كابل، وهناك اعتنى بتربيته تربية إسلامية كاملة وقد أبدى الفتى نبوغا لامثيل له حيث تجاوز العلوم الشرعية لعلوم اللغة العربية ومنهما إلى العلوم العقلية المعروفة فى عهده وكانت تضم المنطق والفلسفة العملية أى السياسة والأخلاق بالإضافة إلى الفلسفة النظرية التى تمثلت فى الإلهيات والطبيعيات، ومن كل ذلك إلى دراسة العلوم الرياضية وبعض نظريات علم الطب والتشريح. ولما أكمل هذه الدراسات جميعا سافر إلى الهند ومكث فيها سنة وعدة شهور ودرس فيها ذات العلوم السابقة وخاصة العلوم الرياضية ولكن على النمط الغربى الأوروبى وعاد بعد ذلك إلى بلاده ومنها إلى بلاد الحجاز ليؤدى فريضة الحج ثم طال به المقام فى بلاد الحجاز لمدة عام وكان ذلك فى حوالى عام 1857م الموافق1273-1274ه. وقد عاود السفر إلى الهند للمرة الثانية عام 1285م، ومنها الى مصر فى أواخر عام 1286 ه، وكانت تلك الزيارة الأولى لمصر زيارة مفيدة استمرت نحو أربعين يوما كان أهم ما فيها أنه التقى الشيخ محمد عبده الذى تتلمذ عليه فى هذه الأثناء. وكان ما أبداه علماء الأزهر هو مادفعه دفعا إلى مغادرة القطر المصرى إلى تركيا التى لم يجد فيها أيضا الترحيب اللازم رغم محاولته التقرب إلى علية القوم هناك وعدم اكتساب عداوتهم. وقد عادالأفغانى إلى مصر مرة أخرى ولكن إقامته طالت هذه المرة حيث استمرت حوالى ثمانى سنوات من عام1871 وحتى عام 1879م. وفى هذه الزيارة رحبت به مصر حكومة وطلابا حيث خصصت له راتبا شهريا قدره ألف قرش وخصصت له مسكنا بدون مقابل. وقد كان جمال الدين فى كل رحلاته تلك ثائرا على الحكام المستبدين داعيا إلى الثورة ضدهم وكان حلمه هو التخلص من الاستعمار أيا كان لونه لبلاد الشرق. وقد شغل آنذاك بالمسألة السياسية ووحدة الشرق وكان عام 1876 هو العام الذى قرر فيه أن يعمل بالسياسة، تصور أن الالتحاق بالماسونية تساعده على تحقيق أهدافه لبلاد الشرق لكن ما حدث أنه وجدهم جماعة يعملون لمصالحهم الذاتية ولم يكن ضمن أهدافهم أبدا تخليص الشرق من الاستعمار والظلم كما كانوا يدعون أو كما كان يتصور حينما التحق فى البداية ! ويبدو أن سريان خبر انتمائه إلى الماسونية هو وتلميذه محمد عبده كان وراء خروجه مطرودا من مصر بعد ثلاثة أشهر من تولى الخديوى توفيق حكم مصر، وفى ذات الوقت نفى تلميذه إلى قريته! لكن الحقيقة أن الأفغانى ومحمد عبده كانا قد بذرا بذور الثورة فى نفوس المصريين بالفعل، ولعله - على حد تعبير محمود قاسم - هو باعث الثورة والنهضة الحقيقية ليس فى مصر وحدها بل بلاد الشرق عامة. وعلى أية حال فقد اتجه السيد جمال الدين الأفغانى من مصر إلى الهند مرة أخرى ووضع هناك تحت الإقامة الجبرية فى حيدرآبادالدكن، ولما قامت الثورة العرابية فى مصر نقلته حكومة الهند إلى كلكلتا حتى انتهت الثورة. وقد شغل فى هذه السنوات الثلاث من حياته بكتابة رسالته الشهيرة «فى الرد على الدهريين». ولما استقر الأمر للانجليز فى مصر، سمح له بمغادرة المنفى إلى أى مكان شاء بشرط عدم الذهاب إلى بلد اسلامية فى الشرق فاتجه إلى أوروبا خاصة إنجلترا لكن لم تطل إقامته فيها حيث ذهب إلى فرنسا ليواصل كفاحه ونشر أفكاره، ولما استقر فى باريس أرسل إلى تلميذه محمد عبده فى مصر حيث لحق به واشتركا معا فى تأسيس جمعيتهم الخيرية الشهيرة جمعية «العروة الوثقى» التى صدرت عنها جريدة «العروة الوثقى» التى استهدفت جمع شمل المسلمين ومحاربة الاستعمار، ومن ثم النهوض بالإسلام والمسلمين وذلك عبر المحاور الأربعة التى حددت لها وهى : الجامعة الاسلامية، الروابط الشرقية، المسألة المصرية، والمسألة السودانية. ولما حاولت انجلترا استمالته باستدعائه إلى لندن وعرضت عليه حكم السودان مقابل القضاء على الثورة المهدية فيها للتمهيد لإصلاحات بريطانية فيها رفض ذلك قائلا إن السودان ليس ملكا لإنجلترا حتى تتصرف فى عرشه ! وعلى كل حال فقد فشلت الثورة المصرية بعد ذلك وقضى عليها الانجليز مما جعل اليأس يدب فى نفوس السيد جمال الدين ومحمد عبده وتلاميذه الآخرين وقرروا حينذاك عدم الخوض مرة أخرى فى السياسة والتركيز على إصلاح التعليم. وهذا ماحدا بمحمد عبده الاتجاه إلى بيروت، ولما لم يفلح فى مهمته الإصلاحية عاد إلى مصر عام 1306 ه وفى ذات الوقت اتجه جمال الدين الافغانى إلى ايران حيث احتفى به ناصر الدين شاه ولكن هيهات أن يستقر به المقام حيث غادرها بعد ذلك متجها إلى روسيا ومنها عاد إلى ايران التى خرج منها هذه المرة مطرودا حيث استقر بعد ذلك فى البصرة بالعراق لمدة سبعة شهور، ثم غادر بعد ذلك إلى إنجلترا مرة أخرى ومنها إلى تركيا بالأستانة حيث رحبوا به أجمل ترحيب وعاش مقربا من السلطان، ومن ثم بدأ يبث آراءه الإصلاحية ويتحدث عن الشورى، وأخذت المشكلات تتصاعد بينهما على إثر ذلك وغيره حتى مرض السيد جمال الدين وأجريت له عملية جراحية وفشلت، وقد توفى اثر ذلك فى التاسع من مارس 1897م الموافق الخامس من شوال على 1314ه. وقد قيل حول وفاته الكثير وسرت شائعات عدة أنه مات مسموما.