تحتفل مصر كل عام يوم 19 مارس بذكرى عودة طابا إلى السيادة المصرية ويعتبر يوم 19 مارس 1989 أحد هذه الأيام التاريخية والاحتفال بهذه الذكرى الوطنية الغالية هو تكريم للإرادة المصرية الصلبة والصمود البطولى بل هو عيد للوفاء والاعتراف لكل من بذل دمه وروحه من أجل بلوغ هذا الهدف والوصول إلى هذه النهاية المشرفة لصراع دام طويلا وليجبر إسرائيل لأول مرة فى تاريخها على الانسحاب من كل شبر على أرض سيناء . فاسترداد طابا ملحمة وتعد بمثابة المعركة الثانية التى منيت فيها إسرائيل بهزيمة ساحقة بعد توقيع اتفاقية السلام، لذا كان من الواجب أن تعرفها كل الأجيال كنموذج للأداء المصرى المقتدر فى الساحة السياسية مثل ما كان الأداء الخالد فى الساحة العسكرية فى أكتوبر 1973 ودرس أيضًا للآخرين فى كيفية الحصول على الحقوق . لقد جاءت ملحمة استرداد طابا تأكيدا لصلابة الإرادة المصرية وقدرتها على صيانة التراب المصرى وعدم الخضوع للمزايدات التى كان يمكن الانسياق إليها الدخول فى متاهات تعرقل عودة هذا الجزء الغالى من أرض الوطن . لم يكن الطريق إلى استعادة طابا سهلا إنما كان الطريق صعبا ومحفوفا بالمخاطر وبالتالى كان لابد من تحكيم العقل والقانون لتعزيز عملية السلام وتثبيت ركائزها ، فبعد انتصار أكتوبر 1973 وفض الاشتباك الأول فى يناير 1974 ، وفض الاشتباك الثانى فى سبتمبر 1975 تلاحقت التطورات إلى أن وقعت معاهدة السلام فى 26 مارس 1979 وبعد انسحاب إسرائيل من سيناء نشأ الخلاف حول 10 كيلو مترات حاولت إسرائيل أن تظفر بها فى آخر لحظة كما هى عادتها. وأعلنت إسرائيل ضم منطقة طابا إليها بادعاء أنها داخلة فى نطاق فلسطين تحت الانتداب وكانت معاهدة السلام قد نصت على انسحاب إسرائيل من سيناء إلى ما وراء الحدود الدولية وحددت المعاهدة أن هذه الحدود الدولية هى الحدود المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب . ومع اقتراب موعد الانسحاب بدأت إسرائيل منذ بداية عام 1982 المناورات للمساومة على إتمام الانسحاب الذى يتم الاتفاق عليه مقابل تنازلات فى مسألة طابا من جانب مصر، وجاء إلكسندر هيج وزير الخارجية الأمريكى وقتها إلى القاهرة ليعرض عقد اتفاق آخر مع إسرائيل يتضمن شروطا جديدة ورفض الرئيس السابق المساومة على أى شبر من سيناء وبشكل قاطع. وأكد الرئيس السابق مبارك من ذلك الوقت أن مصر لن تفرط فى سنتيمتر واحد من الأرض المصرية ولو خاضت من أجله أعتى المعارك.. وحين سئل هل تقبل الحل الوسط فى طابا فأجاب أمام العالم كله وهل يمكنك أن تتنازل عن أحد أبنائك مقابل أى شىء، وقوله للعالم إن طابا أصبحت عاصمة مصر الأولى والأرض المقدسة. وهكذا مضت فصول الملحمة على مدى 6 سنوات بعد الانسحاب الإسرائيلى من سيناء فى 25 أبريل 1982 وخاضتها مصر بنفس الروح العظيمة التى خاضت بها حرب أكتوبر، فبعد المناورات الإسرائيلية وقعت مصر وإسرائيل اتفاقا يقضى بحل الخلاف عن طريق التفاوض فإن لم تصل إلى حل يكون عن طريق التوفيق أو التحكيم وفشلت المفاوضات وحاولت إسرائيل أن يكون الحل عن طريق التوفيق ولكن مصر رفضت بقوة؛ لأن التوفيق عادة ماينتهى بتنازل كل طرف عن بعض مطالبه وقبول حل وسط وصممت مصر على التحكيم الدولى. وحاولت إسرائيل أن تجعل مهمة هيئة التحكيم بحث الحدود بين مصر وفلسطين تحت الانتداب ،لكن مصر أصرت على أن تحصر مهمة هيئة التحكيم فى سؤال واحد محدد وهو .. أين الموقع الحقيقى لعلامات الحدود المتنازع عليها وعددها 14 علامة وأهمها العلامة 91، وهل قامت إسرائيل بتحريك هذه العلامة للتلاعب فى حقائق الأرض أم لاء، وبعد مفاوضات مضنية نجح فريق القانونيين فى وضع مشارطة التحكيم فى صياغة دقيقة لا تعطى إسرائيل فرصة للتحايل. وتشكلت اللجنة القومية العليا للدفاع عن طابا فى 13 مايو 1985 من خيرة القانونيين والدبلوماسيين المصريين والعسكريين وخبراء المساحة الذين وضعوا رصيد خبرتهم وجهدهم من أجل استرداد الجزء الغالى من أرض الوطن ، وخاض المفاوض المصرى أعنف المعارك السياسية والقانونية لإثبات الحق المصرى وتأكيد السيادة المصرية على طابا. وجرى تنسيق الأدوار بين الفريق المصرى بين مجموعة المفاوضين ومجموعة القانونيين الذين يعملون وراء المفاوضين ويقومون بوضع المذكرات والدراسات القانونية والردود على الحجج الإسرائيلية، وهناك أيضًا مجموعة الباحثين والدارسين المتخصصين الذين ينقبون عن الوثائق ويبحثون عن الخرائط بين لندن واسطنبول والخرطوم ويبحثون عن الأدلة التى تثبت موقع العلامة 91 الذى حددته مصر . وقدمت هيئة الدفاع المصرية آلاف الوثائق والمذكرات والأسانيد القانونية والجغرافية والتاريخية وزارت هيئة الدفاع المواقع على الطبيعة فى سيناء وكانت إسرائيل قد لجأت إلى إقامة فندق فى طابا ليكون عقبة ولايكون أمام مصر إلا قبول استمرار ملكية إسرائيل للفندق أو التسليم بحق الإسرائيليين فى الانتقال إلى منطقة طابا دون جوازات سفر، وكل ذلك كان موضع رفض من جانب مصر. وبشهادة الجميع كان أداء فريق الدفاع المصرى على أعلى مستوى من الكفاءة والمقدرة ، ونجح فى أن أصدرت هيئة التحكيم الدولية حكمها فى 27 سبتمبر 1988 بأحقية مصر فى ممارسة السيادة على كامل ترابها وامتد عمل هيئة الدفاع المصرية بعد صدور الحكم ومراوغة إسرائيل فى التنفيذ إلى جولات أخرى من الاجتماعات لتنفيذ حكم التحكيم وتسليم طابا بمنشآتها إلى مصر حتى وصلت الملحمة إلى المشهد الأخير بتسليم طابا فى 15 مارس 1989 ورفع العلم فى 19 مارس .