«نحن نعلم أن بعض دول حوض النيل تقذف بمياهه فى المحيط وأنها ليست فى حاجة إلى هذه المياه الحيوية.. فالمسألة ليست أزمة مياه؛ بل استغلال هذه القضية لتحقيق أهداف سياسية» بهذه الكلمات الصريحة تحدث لى دبلوماسى سودانى شقيق عن جانب استراتيجى فى العلاقة المصرية السودانية التى توارت كثيرًا رغم عمق الأواصر والروابط التى لا توجد مثلها بين شعبين على وجه الأرض! خلال لقاء فى منزل السفير السودانى بالقاهرة.. تحدثت إلى كوكبة من المشاهير والنخبة المصرية السودانية (ضمت دبلوماسيين وإعلاميين وأكاديميين) فقلت إننى سودانى المولد.. مصرى الهوية؛ وهذا الإحساس الحقيقى نابع من القلب. ومغلف بكل الحب والهوى للسودان وأهل السودان شماله وجنوبه. فأنا ما زلت أتألم فى قرارة نفسى لانفصال جزء غال عن وطنى فى الجنوب. وإذا عدنا إلى أصول العلاقة التاريخية يجب أن نتذكر أن الهدف الاستراتيجى الأول لأعداء الأمة العربية والإسلامية كان فصل السودان عن مصر سياسياً وجغرافياً، ومع الاحترام للأشقاء السودانيين فى الحق الكامل فى الاستقلال.. فإن الأعداء كانت لهم مآرب أخرى من تقسيم الجسد الواحد (مصر والسودان) ألا وهى إضعاف الجسد العربى والإسلامى.. بل وضرب قاعدة الوحدة العربية الإسلامية فى الأساس؛ وفى العمق. فلا يمكن أن يتحقق تكامل أو تقوم وحدة فى هذا الاتجاه دون أن تكون مصر والسودان معا نواتها وأساسها. الهدف الاستراتيجى الثانى فى المشروع التآمرى الغربى كانت هى التركيز على تقسيم السودان من خلال إثارة النزاعات فى أقاليمه المختلفة، خاصة الجنوب الذى شهد أطول صراع داخل السودان الشقيق.. وللأسف الشديد انتهى بفصله بكل السبل الملتوية والضغوط الهائلة والمؤامرات الماكرة. الهدف الاستراتيجى الثالث.. تمثل فى تحويل وجهة الصراع المصرى الإسرائيلى نحو الجنوب بدلاً من الشمال الشرقى! لذا خططت إسرائيل -ودول غربية وعربية أيضاً- لتحقيق هذا المخطط الخبيث من خلال اللعب فى دول حوض النيل.. واللعب بالماء إكسير الحياة وسر النماء. لذا تغلغلت إسرائيل ودول غربية فى حوض النيل وحرضت على توقيع اتفاقية إطارية دون مصر والسودان.. وأقامت علاقات ومشاريع. هذه الدول تلاقت بل وساعدت بعضها على إقامة السدود والمشاريع المائية التى تهدد شريان الحياة الرئيسى لأرض الكنانة. والنيل كما يعلم الخبراء لا يعانى أزمة مياه فى حد ذاته بل ما يتم استهلاكه من إنتاجه لا يتجاوز 15% من إيرادات النهر، ولو تم استثماره بصورة مثلى لما كانت هناك أزمة.. بل ستكون هناك وفرة هائلة من المياه تكفى وتفيض مثل الفيضان العارم الذى تشهده دول كثيرة ومنها السودان الشقيق. أى أن اختلاق أزمة مياه النيل جاء لتحقيق أهداف سياسية وأيديولجية واقتصادية للضغط على مصر والسودان معاً وليس مصر وحدها.. فأى أزمة أو ألم فى الشمال.. سوف ينعكس على باقى الجسد فى الجنوب بكل تأكيد ونحن لا نذيع سراً عندما نعلم مدى تطور العلاقة بين جنوب السودان وإسرائيل.. بل إننا نحذر من استغلال هذه العلاقة للتلاعب بمياه النيل.. ليصبح جزء من الجسد - الذى كان واحداً- خنجراً فى خاصرة الشمال؛ خنجراً ساماً قاتلاً لا قدر الله. وحتى نكون أكثر صراحة وموضوعية يجب أن نعترف بأخطائنا فى مصر والسودان. فنحن بشر نخطىء ونصيب، ولكننا فى مصر ارتكبنا خطأ استراتيجياً فادحاً بكل المقاييس عندما انعزلنا أو عُزلنا عن محيطنا العربى ومحيطنا الأفريقى.. بل وعمقنا السودانى الأصيل. لقد ارتكب النظام البائد أخطاء تاريخية جسيمة من ضمنها تهميش وتجاهل العلاقة مع السودان الشقيق.. بل لا نبالغ إذا قلنا إنه أدار علاقات البلدين فى إطار الاستراتيجية الغربية المضادة لمصالح الأمة العربية والإسلامية. ولم يحدث هذا مع السودان الشقيق فقط.. بل فى كافة القضايا التى تناولها النظام السابق بدءا من العراق ومرورا بفلسطين، وانتهاءً بالسودان الشقيق الذى يمثل ركيزة كبرى للأمة المصرية. نعم لقد كان السودان ومازال وسيظل هو الركيزة الأساسية التى يهفو إليها القلب قبل العقل، والروح قبل الجسد. لقد سافرت ِإلى السودان الشقيق مرتين فى الثمانينات، وكنت أشعر أننى أنام قرير العين فى بيتى فى الخرطوم لم أشعر بغربة أو بوحشة.. بل عشت تلك الأيام القلائل بكل الحب والعشق لوطنى السودان. يكفى أن مصر نقلت الكلية الحربية إلى السودان الشقيق فى مرحلة تاريخية حاسمة تأكيداً لهذه العلاقة المشهودة والتى سوف تعود بمشيئة الله أقوى مما كانت، ومثلما ننتقد أنفسنا فى مصر يجب أن نشرح بعض أخطاء الأشقاء فى الجنوب، وكما يقول الحديث «خير الخطائين التوابون». ففى ذاك الزمن الذى تراجع فيه الدور المصرى فى السودان سمح الأشقاء فى الجنوب بتقدم أدوار أخرى بسرعة فائقة.. ومنها الأدوار الإيرانية والصينية ..إلخ. بصورة تكاد تهدد العلاقة المصرية السودانية. ويجب أن نعترف أيضاً بأن هذه القوى الإقليمية والدولية استغلت غياب مصر عن عمقها الاستراتيجى وتقدمت بسرعة لملء الفراغ وتثبيت الأقدام. وليس من السهل نزع هذه القوى.. ولكن يمكن استعادة الدور المصرى المفقود فى السودان بسرعة هائلة أيضاً.. لماذا؟ لأن كل هذه القوى لا تملك رصيد الحب وأواصرالعلاقة التى يحظى بها الشعبان.. قبل الحكومتين والقيادتين، وكل هذه القوى لا تمتلك ميزة التواصل الجغرافى الأرضى والقلبى والروحى والعقائدى.. كما هو قائم بين القاهرةوالخرطوم وأيضاً لأن الظروف السياسية الحالية تمثل فرصة تاريخية ذهبية لاستعادة العلاقة وبنائها على أسس قوية وراسخة. مصر الثورة يملك شعبها إرادته.. ومصر الديموقراطية لن يفرض عليها قائد أهواءه وأجندته، ولن تفرض عليها أية قوة على وجه الأرض توجهها وسياستها الاستراتيجية كما أن قياده البلدين حريصة كل الحرص على استثمار هذا الظرف التاريخى المواتى لمصلحة البلدين والشعبين، ونحن نريد بناءً راسخاً قوياً لا يرتبط بنظام حكم أو بتيار سياسى.. لأن العلاقة المصرية السودانية أسمى من كل التطورات السياسية العابرة. نحن متفائلون بمستقبل علاقة البلدين، لأن مصر على أبواب نهضه اقتصادية كبرى.. رغم كل بوادر الرصد الطارىء، وكلها أعراض هامشية، سوف تزول بمشيئة الله، وكذلك السودان الشقيق يحظى بثروات هائلة وبدأ يحقق اكتفاءً ذاتياً من البترول، واكتشف الذهب على سطح الأرض.. هدية من رب السماء والأرض إلى شعب أصيل طيب القلب، وحتى نكون واقعيين فإن تقارب البلدين لن يتحقق بسلام وسهولة ويسر فى ظل مؤامرات الأعداء ومكانه بعض الأشقاء!! وهذه ملاحظة محورية أعتقد أن قياده ونخب البلدين تدركان أبعادها وأعماقها. ولقد سعدت أيما سعادة بالإنجازات التى بدأت تتحقق على أرض الواقع من خلال فتح الطرق البرية بين البلدين خلال الأسابيع القادمة ومن خلال العمل الدؤوب الذى يشمل 24 لجنة تعمل دون كلل فى كل المجالات). ولكننا نناشد إعلام البلدين أن يقوم بدوره التاريخى الحاسم لتحقيق التقارب والتواصل بين الشعبين وأن يستثمر الظروف المواتية لانطلاقة كبرى للقاهرة والخرطوم.. وهذه مهمة الإعلام الذى يتحمل جانباً من صناعة الأزمات والصور النمطية السلبية التى تعمد البعض إثارتها وتأجيجها لأتفه الأسباب. وكما أن للإعلام دوراً فى هذه القضية .. فإن للثقافة مهمة أسمى وأشمل تتمثل فى تعميق اللحمة القائمة وتنوير العقول المصرية السودانية بحقائق التاريخ والجغرافيا.. لذا تحدثت مع السفير السودانى والمستشار الإعلامى السودانى بالقاهرة - وهما من الأشقاء الأعزاء - عن توقيع بروتوكول شامل للتعاون بين مؤسسة دار المعارف ومجلة أكتوبر والسودان الشقيق.. هذا الشعب المثقف الرقيق!