وزيرا التعليم ومحافظ القاهرة يشهدون احتفالية جامعة العاصمة باليوبيل الذهبي.. صور    الكرملين: بوتين وترامب يتبادلان التهاني بمناسبة الأعياد    كأس الأمم الأفريقية 2025.. التشكيل الرسمي لمباراة كوت ديفوار والكاميرون    عاجل- الطقس في مصر.. استقرار نسبي وتقلبات موسمية تؤثر على درجات الحرارة والأنشطة اليومية    ترامب: محادثات موسكو وكييف تقترب من الحسم واتفاق أمني جاد قريبًا    حكومة بريطانيا في خطر بسبب علاء عبد الفتاح.. أحمد موسى يكشف مفاجأة(فيديو)    تشريعية النواب: 140 ألفا من مستأجري الإيجار القديم تقدموا للحصول على سكن بديل    التشكيل الرسمى لقمة كوت ديفوار ضد الكاميرون فى بطولة كأس أمم أفريقيا    درة تنشر صورا من كواليس «علي كلاي» ل رمضان 2026    المستشار إسماعيل زناتي: الدور الأمني والتنظيمي ضَمن للمواطنين الاقتراع بشفافية    الصحة تكشف أبرز خدمات مركز طب الأسنان التخصصي بزهراء مدينة نصر    أشرف الدوكار: نقابة النقل البري تتحول إلى نموذج خدمي واستثماري متكامل    عبقرية مصر الرياضية بأفكار الوزير الاحترافية    بوليسيتش يرد على أنباء ارتباطه ب سيدني سويني    القضاء الإداري يسقِط قرار منع هيفاء وهبي من الغناء في مصر    تفاصيل وفاة مُسن بتوقف عضلة القلب بعد تعرضه لهجوم كلاب ضالة بأحد شوارع بورسعيد    أحفاد الفراعنة فى الشرقية    الأزهر للفتوي: ادعاء معرفة الغيب والتنبؤ بالمستقبل ممارسات تخالف صحيح الدين    إيمان عبد العزيز تنتهي من تسجيل أغنية "إبليس" وتستعد لتصويرها في تركيا    «مراكز الموت» في المريوطية.. هروب جماعي يفضح مصحات الإدمان المشبوهة    ترامب يعلن توقف القتال الدائر بين تايلاند وكمبوديا مؤقتا: واشنطن أصبحت الأمم المتحدة الحقيقية    جامعة بنها تراجع منظومة الجودة والسلامة والصحة المهنية لضمان بيئة عمل آمنة    سكرتير مساعد الدقهلية يتفقد المركز التكنولوجي بمدينة دكرنس    تراجع أسواق الخليج وسط تداولات محدودة في موسم العطلات    شوط سلبي أول بين غينيا الاستوائية والسودان في أمم أفريقيا 2025    هذا هو سبب وفاة مطرب المهرجانات دق دق صاحب أغنية إخواتي    نائب محافظ الجيزة يتفقد عددا من المشروعات الخدمية بمركز منشأة القناطر    الاحتلال الإسرائيلي يغلق بوابة "عطارة" وينصب حاجزا قرب قرية "النبي صالح"    نجاح أول عملية قلب مفتوح بمستشفى طنطا العام في الغربية    محافظ الجيزة يشارك في الاجتماع الشهري لمجلس جامعة القاهرة    سقوط عنصرين جنائيين لغسل 100 مليون جنيه من تجارة المخدرات    «اليوم السابع» نصيب الأسد.. تغطية خاصة لاحتفالية جوائز الصحافة المصرية 2025    وزير الإسكان: مخطط شامل لتطوير وسط القاهرة والمنطقة المحيطة بالأهرامات    نقابة المهندسين تحتفي بالمهندس طارق النبراوي وسط نخبة من الشخصيات العامة    إسكان الشيوخ توجه اتهامات للوزارة بشأن ملف التصالح في مخالفات البناء    محمود عاشور حكمًا لل "VAR" بمواجهة مالي وجزر القمر في كأس الأمم الأفريقية    "القاهرة الإخبارية": خلافات عميقة تسبق زيلينسكي إلى واشنطن    هيئة سلامة الغذاء: 6425 رسالة غذائية مصدرة خلال الأسبوع الماضي    وزارة الداخلية تضبط 4 أشخاص جمعوا بطاقات الناخبين    قضية تهز الرأي العام في أمريكا.. أسرة مراهق تتهم الذكاء الاصطناعي بالتورط في وفاته    رسالة من اللواء عادل عزب مسئول ملف الإخوان الأسبق في الأمن الوطني ل عبد الرحيم علي    صاحب الفضيلة الشيخ / سعد الفقي يكتب عن : شخصية العام!    " نحنُ بالانتظار " ..قصيدة لأميرة الشعر العربى أ.د.أحلام الحسن    الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية تحتفل بيوبيلها الفضي.. 25 عامًا من العطاء الثقافي وصون التراث    من مخزن المصادرات إلى قفص الاتهام.. المؤبد لعامل جمارك بقليوب    قيادات الأزهر يتفقدون انطلاق اختبارات المرحلة الثالثة والأخيرة للابتعاث العام 2026م    لتخفيف التشنج والإجهاد اليومي، وصفات طبيعية لعلاج آلام الرقبة والكتفين    أبرز مخرجات الابتكار والتطبيقات التكنولوجية خلال عام 2025    أزمة السويحلي الليبي تتصاعد.. ثنائي منتخب مصر للطائرة يلجأ للاتحاد الدولي    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة في صورة بطاطين    بدون حبوب| أطعمة طبيعية تمد جسمك بالمغنيسيوم يوميا    ولادة عسيرة للاستحقاقات الدستورية العراقية قبيل عقد أولى جلسات البرلمان الجديد    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم فى سوهاج    هيئة الرعاية الصحية تستعرض إنجازات التأمين الصحي الشامل بمحافظات إقليم القناة    الناخبون يتوافدون للتصويت بجولة الإعادة في 19 دائرة ب7 محافظات    أول تعليق من حمو بيكا بعد انتهاء عقوبته في قضية حيازة سلاح أبيض    الزمالك يخشى مفاجآت كأس مصر في اختبار أمام بلدية المحلة    واتكينز بعدما سجل ثنائية في تشيلسي: لم ألعب بأفضل شكل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فاروق جويدة يكتب : السودان.. وغياب الدور المصرى
نشر في الشروق الجديد يوم 07 - 03 - 2010

لا أتصور غياب مصر عن شىء يخص السودان.. قد تغيب مصر الدور والموقف فى قضايا كثيرة وقد غابت بالفعل عن أحداث مهمة ولكن غيابها فى هموم السودان شىء آخر.. وقد نختلف حول أولويات كثيرة فى قائمة العلاقات المصرية الخارجية.. قد نختلف حول العلاقات المصرية العربية.. وقد تسبق بعض الدول من حيث الأهمية والتأثير دولا أخرى.. وقد تتداخل لغة المصالح أحيانا فتبعد هذا وتقرب ذاك وقد تتداخل أطراف خارجية لتقيم محاور هنا أو تكتلات هناك.. ولكن المؤكد أن للسودان مكانا ومكانة خاصة جدا فى تاريخ العلاقات الخارجية المصرية..
من هنا كان حزنى شديدا أن تغيب مصر عن توقيع اتفاق للسلام بين الحكومة السودانية وحركة العدل والمساواة فى دارفور بعد معارك دامية وصراع طويل وأن يتم الاتفاق تحت رعاية قطر وتشاد.. لا أحد يستطيع أن ينكر الجهد والدور اللذين قامت بهما حكومة قطر أو المهمة الصعبة التى قامت بها حكومة تشاد.. ومهما كانت الظروف فإن غياب مصر فى هذا الاتفاق سواء فى الدوحة أو تشاد كان شيئا يدعو للحزن والأسى..
أمامى عشرات الأسباب التى تجعل غياب مصر عن الشأن السودانى فى أدق تفاصيله شيئا غير منطقى وغير مقبول بل إنه ضد مصالح مصر على كل الاتجاهات..
إذا وقفنا أمام الأسباب الجغرافية فنحن أمام سجل حافل من الخرائط والمواقع والروابط التى تضع العلاقات بين مصر والسودان فى مكان خاص جدا.. هل هو الامتداد الجغرافى والعمق الإستراتيجى بين دولتين قريبتين لا تفصل بينهما أنهار أو جبال أو موانع طبيعية؟.. هل هو العمق الإنسانى الذى وحد الشعبين وجعل صعيد مصر جزءا من شمال السودان أو جعل وادى حلفا والجزيرة جزءا من جنوب مصر.. هل هو التداخل السكانى الذى جعل القبائل السودانية جزءا متوحدا مع القبائل المصرية فى الجنوب أم هو تداخل الأنساب بين مصر والسودان وأكثر من أربعة ملايين سودانى يعيشون بيننا كأننا أسرة واحدة؟.. هل هو النيل، هذا الشامخ العملاق الذى امتد فى شرايين أبناء وادى النيل فوحد بينهم زمانا طويلا فى الهموم والأفراح والمحن والانتصارات والانكسارات ووقف متحديا الزمن والظروف والأحداث؟..
أسباب أخرى كثيرة غير الجغرافيا والتاريخ والنهر العريق وحدت مصر والسودان.. ولهذا لم يكن غريبا أن يقف النحاس باشا زعيم الوفد قبل قيام ثورة يوليو ويقول: تقطع يدى ولا يفصل السودان عن مصر.. نحن جميعا نؤمن بمبدأ استقلال الشعوب وحرية الأوطان، ولكن مصر والسودان لم يكونا وطنين لكى يتحرر أحدهما من الآخر ولم تكن مصر تحتل أرض السودان حتى يعلن استقلاله عنها، ولهذا فإن البعض يرى وأنا منهم أن انفصال السودان عن مصر بعد ثورة يوليو كان من أكبر خطايا الثورة.. كان ينبغى أن تبقى وحدة البلدين فوق كل الحسابات وأكبر من كل التحديات.. لقد هلل العالم كله لقيام الوحدة بين مصر وسوريا وكان الانفصال درسا مؤلما.. ولكن السودان، المصير والمستقبل والحماية كان ينبغى أن يبقى جزءا من مصر وتبقى مصر جزءا من السودان فقد وحدهما النيل، ومن يوحده هذا العملاق لا ينبغى أن يفرقه أحد.. كان من الضرورى فى ذلك الوقت أن تبحث ثورة يوليو عن صيغة تضمن بها على الأقل علاقات خاصة جدا بين مصر والسودان..
كان لى صديق سودانى عزيز يعمل أستاذا فى جامعة الخرطوم وكنا نتحدث عن علاقات مصر والسودان وضحك كثيرا عندما قلت له أريد أن أتولى سلطة القرار يوما واحدا فقط أعيد فيه السودان إلى مصر وأعيد مصر للسودان وأترك الحكم بعد ذلك..
أسباب كثيرة عندى تجعلنى أطرح هذه الأفكار التى تبدو فى نظر البعض خواطر شاعر، ولكن من يراجع سجل العلاقات المصرية السودانية لابد أن يشعر بالأسى أمام متغيرات شديدة القسوة تركت آثارها السيئة على تاريخ هذه العلاقات..
لا أنكر أن السودان يمثل فى أعماقى حالة خاصة فأنا عاشق قديم للسودان الشعب والأرض والحياة وكنت دائما أرى مصالح مصر فى الجنوب وليست فى أى مكان آخر..
منذ خمس سنوات وربما أكثر ذهبت فى رحلة قصيرة للسودان وبين الأمسيات والمناقشات والأحاديث مع الإخوة سواء كانوا من المثقفين أو رجال السلطة كان هناك عتاب صامت، أن مصر الدولة والشعب والمؤسسات هم الذين تخلوا عن السودان.. وفى سجلات التاريخ والأيام تستطيع أن تضع يديك على أشياء كثيرة توارت وغابت فى سلسلة العلاقات بين الشعبين الشقيقين:
كانت الأسواق السودانية تعتمد تماما فى كل شىء تقريبا على السلع المصرية التى تملأ الأسواق ابتداء بالأدوية المصرية وانتهاء بالملابس والأزياء.. كان الدواء المصرى معروفا فى أسواق السودان كما يستخدمه المصريون تماما فى القرى والنجوع فى مصر.. وكانت المنسوجات المصرية تتصدر كل شىء ولا يوجد ما ينافسها فى الأذواق والألوان والأسعار..
والآن لا تجد سلعة واحدة مصرية فى أسواق السودان.. لقد بقى الإخوة فى السودان ينتظرون سنوات طويلة عودة الإنتاج المصرى الذى يعرفونه جيدا فى كل السلع والخدمات ولكن مصر غابت.. ثم غابت.. ثم غابت.. وتدفقت سلع أخرى من أسواق أخرى وملأت الشوارع والأرصفة، ابتداء بالإنتاج التركى وانتهاء بالمعجزة الصينية التى تصدر التكنولوجيا وعمال النظافة وكل أنواع الملابس..
امتلأت أسواق السودان بالسلع الأجنبية من كل لون وغابت صناعة مصر التى أنشأها طلعت حرب فى المحلة الكبرى وكفرالدوار والقاهرة وأسيوط غاب الوجود المصرى ممثلا فى صادرات مصر التى عرفها الشعب السودانى وحفظها عشرات السنين..
بعد أن غاب الإنتاج المصرى انسحب رجال الأعمال الذين كانوا يستوردون الجمال الحية وأنواع الماشية والحبوب وكثير من المنتجات السودانية التى كانت توفر عشرات السلع للمصريين بأسعار رخيصة.. كان النيل يحمل هذه السلع ويتجه بها حتى يصل إلى مشارف الإسكندرية وفى كل مدينة تقع على النهر العظيم كان التجار السودانيون يهبطون بما لديهم.. يبيعون الجمال والصمغ والحبوب والصناعات اليدوية والجلود والماشية ويعودون بالملابس والأدوية والسكر والأسمدة والأسمنت والحديد وكانت سفن البضائع النهرية تحمل كل هذا من أقصى نقطة فى شمال مصر إلى أبعد نقطة فى جنوب السودان..
غاب الفن المصرى والثقافة المصرية العريقة.. غاب الفنانون المصريون ولم يعد الأشقاء فى السودان يذكرون آخر فنان مصرى زار السودان أو آخر كاتب حضر إلى الخرطوم.. غاب طيف أم كلثوم وهى تشدو هناك وغابت صورة العقاد وطه حسين وشوقى وحافظ.. غاب الكتاب المصرى الذى تعلم منه الطيب صالح والفيتورى.. كل شىء فى السودان يحمل ملامح الثقافة المصرية.. فهناك فرع جامعة القاهرة فى الخرطوم بكل أساتذته ومعلميه.. وهناك عشرات المئات من المدرسين فى المدارس السودانية.. وهناك الأطباء والمهندسون والعمال الذين عاشوا بين أشقائهم فى السودان وحملوا أجمل الذكريات هناك وعندما عدنا أخيرا فى مباراة الجزائر كادت تحدث كارثة إعلامية بين البلدين لولا تدخل الرئيس مبارك شخصيا فى اللحظات الأخيرة لإنقاذ الموقف وتجاوز الأزمة..
غاب الدور السياسى المصرى عن السودان وهو يواجه أزماته ومشكلاته ومعاركه فى الجنوب طوال ربع قرن من الزمان تمزقت فيها أوصال الشمال والجنوب معا.. تحمل السودان كارثة الحرب الأهلية فى أكثر من مكان وأكثر من زمان وما بين حرب الجنوب وحرب دارفور عاش الشعب السودانى مجموعة من الأزمات المتلاحقة التى كانت سببا فى تأخر مشروعات التنمية فى جميع المناطق..
إن الحروب الأهلية التى ضاع فيها مئات الآلاف ما بين الشمال والجنوب وما بين الفاشر والخرطوم كانت من أهم الأسباب التى وضعت السودان فى قائمة الدول الأكثر فقرا رغم موارده التى لا حدود لها.. فى السودان أكبر مساحة من الأراضى الزراعية الخصبة وأكبر عدد من الثروة الحيوانية وأكبر موارد المياه نيلا وأمطارا.. وفى السودان الأرض تجمع كل المناطق الجغرافية الاستوائية والصحراوية والزراعية فهو أكبر بلاد أفريقيا فى المساحة وأكثرها تعددا فى ظروف المناخ..
كانت الحرب فى جنوب السودان واحده من أكبر كوارث الحرب الأهلية فى العالم كله.. ترك الإنجليز قبل أن يرحلوا بذور هذه الفتنة بين أبناء الشمال المسلمين العرب وأبناء الجنوب المسيحيين الزنوج، ورغم أن الوطن واحد والنيل واحد والمعاناة واحدة فإن الإنجليز زرعوا بذور الكراهية التى تحولت إلى معارك وحروب ودماء.. إن مساحة الجنوب تعادل ربع مساحة السودان وفيه عدد من القبائل منها الدنيكا والنوير والشلك والبارى والأنواك والأزاندى وهذه القبائل لها ثقافتها التى تختلف عن ثقافة أهل الشمال من العرب.. ومع إهمال التنمية فى الجنوب ومع المؤامرات التى تركها الاستعمار الإنجليزى انقسم الشعب السودانى على نفسه وتحولت المواجهة إلى حرب دامية.. تدخلت القوى الغربية فى الحرب وأصبح جنوب السودان قضية دولية تلعب فيها كل القوى حتى كان اتفاق السلام الذى انتهى إلى مشروع للاستقلال أو الانفصال أو الوحدة مع الشمال.. وهذا كله سيتقرر فى استفتاء شعبى فى العام القادم..
على الجانب الآخر كانت أزمة دارفور التى اشتعلت منذ أكثر من خمسة أعوام.. وحين هدأت المعارك فى الجنوب كانت تشتعل فى دارفور العربية المسلمة.. كل سكان دارفور من القبائل جاءت من أصول عربية وتدين بالإسلام.. وكانت هناك علاقات تاريخية بين مصر ودارفور، حيث طريق الأربعين للتجارة..
وكان طلاب العلم المسلمين فى دارفور يتوافدون على الأزهر الشريف يدرسون أسس الشريعة الإسلامية فى الفقه واللغة وقراءات القرآن الكريم.. ولكن مصر الثقافة والعقيدة غابت عن دارفور.. كما غابت مصر التنمية والاقتصاد عن الجنوب وأمام الحروب الأهلية ضاعت على السودان فرصا كثيرة للتنمية الاقتصادية، حيث تتوافر كل العناصر من الأرض والماء والموارد والبشر.. ويغيب التخطيط والاستقرار والأمن وتتراجع حركة البناء..
لا شك أن السياسة المصرية لعبت دورا خطيرا أمام حكومات متعاقبة تولت السلطة فى السودان ما بين حكم عسكرى شمولى متسلط أو حكم مدنى جامح وتعرضت السودان لمحاولات انقلاب كثيرة وكانت مصر تقدم الدعم حينا أو ترفض البعض فى أحيان أخرى.. وكانت فترة حكم الرئيس نميرى من أكثر فترات التقارب بين مصر والسودان رغم كل التحفظات الداخلية على حكم نميرى بصفة عامة..
تدخلت مصر فى الشأن السودانى لصالح أطراف ضد أطراف أخرى بل إنها لم تتردد فى استخدام القوة العسكرية كما حدث فى جزيرة «آبا»، وكان هذا تجاوزا مرفوضا أساء للعلاقات التاريخية بين البلدين الشقيقين..
كان من أهم الأخطاء التى وقعت فيها الإدارة المصرية أنها اعتبرت السودان جزءا من منظومة علاقاتها الخارجية مع دول حوض النيل وقد يكون لهذا الاعتبار ما يبرره من حيث البعد الجغرافى ومنابع النيل وقضايا توزيع المياه، ولكن موقع السودان وأهميته ودوره فى منظومة الأمن القومى المصرى يضعه فى سياق آخر يتجاوز كل حسابات دول حوض النيل.. صحيح أن للسودان أهمية خاصة فى حسابات مياه النيل، خاصة أن مصر والسودان هما دولتا المصب ولكن السودان العربى الذى تربطه علاقات تاريخية وإنسانية خاصة مع مصر له موقعه فى قائمة العلاقات المصرية الخارجية، بحيث يأتى فى مقدمة هذه القائمة وكان من الخطأ الجسيم أن أصبح السودان فى نظر السياسة الخارجية المصرية جزءا من دول حوض النيل رغم أنه أكبر من ذلك بكثير..
كان إهمال السودان جزءا من إهمال دول حوض النيل.. لقد اتجهت مصر شمالا وتصورت أن المستقبل يفتح لها أفاقا أوسع مع البحر المتوسط ورياح الغرب الشاردة.. وكان هذا اعتقادا قديما تصوره بعض الساسة عندنا وبعض الكتاب فى هذه النظرية الغريبة التى تقول إن مصر جزء من حضارة البحر المتوسط، بعيدا عن عمقها العربى الإسلامى.. وبعد كامب ديفيد تشجع هذا الاتجاه مطالبا باتفاقيات خاصة مع الكويز أو الشراكة الأوربية أو الثقافة الغربية، وكان ذلك من أهم وأخطر الأزمات التى عاشتها مصر خارج نطاقها العربى أمام حسابات خاطئة وافتراضات لا تستند إلى تاريخ أو ثقافة..
تركت مصر السودان يواجه مصيرا غامضا بين القوى الكبرى.. لقد تسللت الصين واستطاعت أن تقيم علاقات قوية مع السودان خاصة فى منطقة الجنوب، حيث الاكتشافات البترولية وحيث الأسواق الواسعة للإنتاج الصينى.. واتجهت فرنسا إلى دارفور من خلال تشاد ودول وسط أفريقيا وتاريخ فرنسا فى شمال أفريقيا العربى.. وأصبحت هناك أطماع كثيرة فى المنطقتين.. إن الجنوب تحاصره كينيا وأوغندا وإثيوبيا والكونغو وأفريقيا الوسطى وفيه مناطق كثيرة للزراعة والرعى بجانب احتمالات مؤكدة عن البترول وكانت أمريكا اللاعب الرئيسى فى شئون السودان طوال السنوات الماضية سواء كان ذلك فى أزمة الجنوب أو مأساة دارفور..
والآن بقى عام واحد ويجرى الاستفتاء على انفصال الجنوب أو بقاء السودان موحدا.. ولا أحد يعلم المصير الذى ينتظر الجنوب حتى الآن.. فى الأسبوع الماضى كانت هناك مبادرة طيبة من السيد عمرو موسى أمين عام جامعة الدول العربية عندما ذهب على رأس وفد كبير من رجال الأعمال العرب والمصريين إلى جنوب السودان وكانت زيارة ناجحة بكل المقاييس وربما كانت سببا فى تغيير حسابات كثيرة فى المستقبل القريب..
على جانب آخر، ذهب الرئيس البشير إلى دارفور واستقبله سكان دارفور استقبالا حافلا بعد توقيع اتفاق السلام فى الدوحة.. وقد بقيت أسابيع قليلة على الانتخابات الرئاسية فى السودان، فهل يبدأ السودان صفحة جديدة فى العام القادم وبعد الاستفتاء لتحديد مستقبل دارفور؟..
نحن أمام صورة جديدة للسودان مع مسلسل الأحداث القادمة ولا أحد يستطيع أن يتنبأ من الآن بهذا المستقبل..
هل ينفصل الجنوب عن الشمال.. أم تنفصل دارفور عن الاثنين معا؟.. وهل يحمل العام القادم فى ظل الانتخابات والاستفتاءات ملامح دولة جديدة فى السودان تنقسم ما بين الجنوب والشمال ودولة دارفور؟.. وهل من الممكن أن ينجح الرئيس السودانى القادم سواء كان الرئيس البشير أو غيره فى مواجهة محاولات التقسيم التى تهدد الكيان السودانى بقوة؟..
نحن أمام أكثر من صورة للسودان القادم سواء كان موحدا أم مقسما بين ثلاث دول جديدة فى دارفور والجنوب والشمال..
إن تقسيم السودان خسارة كبيرة لمصر أولا.. وللعرب ثانيا وقبل هذا هو خسارة فادحة للشعب السودانى الشقيق ولنا أن نتصور مستقبل مياه النيل فى ظل دول ثلاث على أرض السودان وكل دولة تطالب بحقها وحصتها فى مياه النيل..
ما أحوج السودان الآن لمصر الموقف والقوة والدعم وفى ظل هذه الفترة القصيرة المتبقية من الوقت قبل انتخابات الجنوب واستفتاء دارفور.. إن السودان يحتاج للدعم المصرى على كل المستويات الاقتصادية والسياسية.. وفى ظل ضغوط شديدة تمارسها أمريكا على السودان وفى ظل مؤامرات مكشوفة للوبى الصهيونى وإسرائيل، يحتاج السودان حكومة وشعبا لدعم مصرى واضح..
قد يرى البعض أن تقسيم السودان أصبح حقيقة لا مفر منها لأن الأمور جميعها تسير فى هذا الاتجاه وحتى لو كان ذلك صحيحا فينبغى أن نسعى إلى وقف هذه المؤامرة أو على الأقل الحد من آثارها الخطيرة على مستقبل السودان كله، حتى فى حالة التقسيم يمكن أن يحصل الشمال على شروط وظروف أفضل من خلال الدعم المصرى..
تستطيع مصر أن تعيد الكرة إلى ملاعبها مرة أخرى من خلال دبلوماسية نشيطه ودعم صريح للحكومة السودانية وأن تستثمر تاريخا طويلا من العلاقات مع الجنوب وتاريخ أطول مع أهالى دارفور الذين يحملون لمصر التاريخ والثقافة والدور تراثا كبيرا..
كان شيئا مؤلما أن تغيب مصر عن اتفاق الدوحة وألا يكون هذا الاتفاق فى القاهرة ولكن يبدو أن هناك حسابات وأوضاع كثيرة تتغير ونحن عنها غافلون..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.