عندما ألف جيمس برستيد مؤلفه العظيم (فجر الضمير).. وهو المؤرخ والأثرى الأمريكى الشهير فى القرن الماضى.. كان يقصد بالدرجة الأولى أن مصر هى فجر الضمير وبداية الحضارة وخرج من قلبها إلى كل العالم ما يسمى الوعى الإنسانى الذى صنع كل حضارة والديانات والعقائد وكل خطوة على طريق التقدم وقيادة العالم إلى الرقى والمبادئ والأسس والإنسانيات من أول الحبة التى تنبت فى الأرض إلى الإنسان الفانى فى التوابيت فى الأهرامات. إلى الطب والعلوم والفلك وحتى الفن والرقص والموسيقى.. جيمس برستيد ولد فى ولاية إلينوى الأمريكية عام 1835 وتعلم فى كلية سنترال كوليج عام 1888 وحصل على الماجستير فى اللاهوت بشيكاغو من جامعة ييل ثم الدكتوراة عام 1894 من جامعة برلين.. ويعتبر أول مواطن أمريكى يخترق مجال علم المصريات ويتخصص فيه وهو من علماء الآثار الذين أفسحوا المجال إلى فهم فكرة الحضارة الغربية التى غدت بعدا جديدا لتشمل الشرق الأدنى والذى تتوغل جذوره ضاربة فى الحضارة الغربية.. وهو يرى أن الحضارة المصرية لها الدور الكبير والمؤثر فى صقل الوعى الإنسانى بمفهومه الكونى قاطبة.. وإذا كنا نرى أن مصر الأستاذ والمعلم والقائد والملهم لكل الحضارات فى الشرق والغرب وأنها كانت منارة الإشعاع الإنسانى والضوء الأول الذى ألهم العالم شرقه وغربه بكل ما هو جدير بالاحترام والدهشة والفخر.. فإننا نتساءل لماذا مانحن فيه الآن وبعد كل هذه الأزمان؟!نحن المصريين غير قادرين على أن نصنع فى بلدنا حتى ابسط الأشياء. ولماذا لم تستمر النهضة كما كان مقدرا لها؟ ماذا فعلنا ببلدنا نحن أبناء مصر الحضارة والإشعاع الذى غزا العالم يوما؟.. لماذا تركنا أقل البلاد حظا فى كل شىء تسبقنا وتعلو علينا؟.. وألف لماذا؟. إن المؤرخ الأمريكى جيمس برستيد عندما يشهد شهادة حق ويقول لنا إيه انتم صناع حضارات العالم وغيرها الكثير، ماذا نقول نحن غير التشدق بما فعله أجدادنا، لكن أين نحن من كل ذلك؟. ما من مجيب!. فى الحقيقة وببساطة أن أقدار المصريين دائما فى أيدى من لا يستحقون قيادة هذه الأمة.. ومعظم من حكموا مصر حكموا هذا البلد بعنترية ولتحقيق أمجاد شخصية ولم يفكروا أن هذا الشعب يستحق الأفضل ويستحق أن يحافظ على كونه بلدا قائدا وصاحب تاريخ عريق، والمتابع والقارئ الجيد للتاريخ يدرك ذلك ببساطة.. متى يأتينا قائد أو زعيم ينسى نفسه ويدوب فى أحلام هذا الشعب ويقوده على درب البناء والتقدم؟. إن دولة مثل أمريكا بدأت كوطن منذ مائتين أو مائتين وبضع سنين. أين هى من مصر؟. هذا البلد الذى يقود العالم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا. ويعد البلد رقم واحد بين دول العالم.. فيه إيه؟..هذا البلد الذى يفرض على كل العالم سيطرته ويحمر عينيه لكل من عصى ويتدخل بالقوة واللين والدهاء فى كل صغيرة وكبيرة فى أمور الشعوب. لأنه بالفعل استطاع أن يفعل ما لا نستطيع فعله عبر تاريخنا الطويل وكان الأجدى أن نكون نحن من نقود العالم كما كنا نقوده فى أزمنة سالفة.. بكل بساطة حكمونا ناس لم يدركوا أهمية مصر الحقيقية. كل ما فعلوه.. تقدم زائف ومشروعات تنفق عليها المليارات تسرق نصفها.. وضيقوا الخناق على الكفاءات وكمموا الأفواه التى تقول لا. لا. واهتموا بالتشوهات الإعلامية وقدموا للشعب الأكاذيب.. وكل بناء أو محاولة للتقدم فى العلم الجاد أو أى رأى يفيد هنا أو هناك صادروه.. وأبعدوا كل الشرفاء الذين يبغون فعلا الخير لهذه الأمة. وأنا أستطيع ان اقدم المئات الذين هاجروا برغبتهم أو على غير رغبتهم إلى الخارج فى كل بلاد الدنيا لأنهم رفضوا ما يحدث حولهم من فساد سياسى أو اجتماعى أو اقتصادى أو علمى.. وبعضهم مات كمدا من الحسرة أو تحول إلى شبح يسير على قدمين وبعضهم سجن وعذب حتى الموت أو حتى سجن فى منزله والمثل الحى الذى أمامى هو الدكتور جمال حمدان الذى كان يذوب عشقا فى مصر وتراب مصر وفى النهاية لقى حتفه فى حادث مأساوى . إن من حكموا مصر على طول تاريخها سواء من الوافدين والغزاة أومن أبناء هذا الوطن اعتبروها ملكا شخصيا أو وسية أو عزبة أو هبة نزلت عليهم من السماء، وصدروا هذا الإحساس لكل من ترأس قطاعا أو هيئة يفعلون فيه ما يريدون.. ينهبون يسرقون يستغلون خيراته لهم ولمحاسيبهم وأذلوا الشعب الذى بأعماقه الإشعاع وضمير الحضارة منذ فجر الضمير.. الشعب المصرى الصبور صبر الجبال الذى رأى أمواله تنهب وثرواته تسرق وأبناءه يموتون فى عرض البحر هربا بحثا عن الرزق ولقمة العيش، وأحلامه تموت وآماله ترحل.. والثورة التى قامت يوم 25 يناير مع بداية هذا العام بعد الصبر الطويل.. ثورة الشعب المصرى كله الذى اتفق على أن يقول لا لا وبلدنا غنى بأبنائه وغنى بثرواته.. ثرواته التى لا تعد ولا تحصى وتحسدنا كل الأمم عليها أفقروه من أجل أن تمتلئ خزائنهم وجوعوه من أجل أن تأتى لهم الطائرات بالطعام الساخن من باريس وروما ولندن. ما كم هذا الجبروت الذى تمتع به حكامنا العظماء الذين هتف لهم الشعب بالروح والدم نفديكم والله كذبا وخوفا من السجون والمعتقلات والتعذيب ولقمة العيش التى لم تعد تسد الرمق. وليس حبا ولا كرامة لأنهم أهدروا كرامة أبناء هذا الوطن الذى تلفح فى الفقر والجوع والجهل والمرض والنوم فى المقابر والعشش الصفيح مع الثعابين والفئران والحشرات.. بلا آدميه الإنسان المصرى الذى كان يوما ضميرا لحضارة هذا العالم ورقيه.. من مصر خرجت كل الأديان السماوية بداية بديانة إخناتون أول دعاة التوحيد فى العالم القديم.. من مصر انطلق فجر الضمير متسربلا بالحضارة التى تفرزه لينطلق فى شكل تشريعات وثقافات الى كل الأمم اللاحقة. انطلق الضمير الإنسانى المصرى ليشكل الوعى الإنسانى بأسره عبر نصوص مقدسة وأمور محفورة فى الوعى الباطنى الجماعى.. هكذا هى مصر.. مصر بلدنا الكبير العظيم وهكذا هذا الشعب الذى صبر طويلا.. طويلا فهل ستحقق ثورة 25 يناير وثوارها من الشباب الواعى المثقف العودة بمصر إلى فجرها.. فجرها وضميرها الإنسانى الذى كان يوما شعاعا ومنارة أضاءت العالم بأسره.