منذ ثلاثة أسابيع كاملة ونحن نشاهد سلسلة يومية من أسوأ أفلام الرعب الحقيقية للأسف الشديد.. تفوقت هذه الصور على أى حروب سابقة حتى الحرب العالمية الثانية وحتى حكاية الهولوكوست التى من المفترض أن المدعو هتلر قد ارتكبها وتركنا نحن نسدد فواتيرها بالفوائد المتراكمة الباهظة.. ولم نر ردود أفعال سواء فى العالم العربى «لا مؤاخذة» أو العالم الغربى ومنظماته الفاشلة سوى الكلام.. الكلام.. الكلام.. ثم المساعدات الإنسانية.. ما علينا.. لن أتحدث عن أى شيء آخر فقد أصبح الحديث غير ذات موضوع والصمت التام هو البلاغة بعينها ولكن.. بين اللغو الكثير سمعت جملة لرجل أوروبى لا أعرف اسمه ولا وظيفته بالتحديد، ولكنه يتبع إحدى المنظمات الإنسانية.. قال الرجل غاضباً غضباً شديداً ومنفعلاً لدرجة الاحتقان، وهو يشير للمذيعة أن تترجم: «هؤلاء الذين يموتون كل دقيقة هم قوم متحضرون» ويقصد الأطفال والنساء والرجال فى غزة.. وبالطبع هو لا يقصد بالحضارة ركوب الشيروكى وأكل الكينتاكى وحمل اللاب توب ولكنه يقصد شيئاً آخر، وهو ما جعل هذه الجملة تدور وتلف فى رأسى مثل النحلة حتى تذكرت مدلولها البليغ فى مقدمة كتاب العالم الأثرى العظيم هنرى برستيد «فجر الضمير» الذى كتبه عام 1934 أى قبل أن يشاهد مآسى الحرب العالمية الثانية والقنبلة النووية وباقى الحروب حتى يومنا هذا وأهمها الكوارث التى فعلتها أمريكا وإسرائيل فى الشرق.. ولم تكن الحرب الأولى قد فقدت تأثيرها على الكاتب بعد.. يقول برستيد: فى تل يشرف على نهر «السوم» فى فرنسا نستطيع أن نعمل بالفأس عدة دقائق لنرى «البلطة» المصنوعة من الحجر وهى أقدم سلاح صنعه الإنسان بجوار شظايا مسننة لقذائف الفولاذ المنفجرة.. وبالأولى كان يستطيع أول أجدادنا البدائيين أن يهشم جمجمة خصمه فيودى بحياته، وبالمهلكات الثانية توصل نسله المتحضر إلى أن ينسف عدوه ويمزقه إرباً.. وفيما بين الآلتين «البلطة والشظايا» يقع تاريخ بنى الإنسان وهو لا يقل عن المليون سنة.. وقد انتقل الإنسان بالمجهود البشرى من الطرق البدائية إلى تلك الطرق البالغة حد التفنن فى السحق والتدمير، وأثبتت الحرب العالمية الأولى قدرة الإنسان على أعمال التخريب والفتك المروع المتزايد ببنى جنسه، وليست هناك إلا قوة واحدة فى استطاعتها أن تقف فى وجه التدمير.. هى «الضمير الإنسانى» كقوة اجتماعية ولكن هناك فارقاً واحداً بين القوتين أن الإنسان اجتهد فى صنع أسلحة فتاكة منذ مليون سنة فى حين أن الضمير لم يبرز كقوة اجتماعية إلا منذ فترة لا تزيد على خمسة آلاف عام.. أى أن تاريخ الفتك والتدمير عتيق، بينما تاريخ الضمير مازال وليد العهد.. أليس فى مقدورنا أن نعمل بجد لإنماء هذا الضمير الحديث الميلاد حتى يصبح من القوة بحيث يخمد أنفاس الوحشية الباقية فى نفوسنا؟ ويستطرد برستيد بعد هذا السؤال فى شرح كيف ولد الضمير الأخلاقى والإنسانى فى مصر ومنها انتشر إلى الشرق ومنه إلى باقى بقاع الأرض.. ولكن يظل سؤال برستيد يثير الإحباط، فالوحشية الباقية فى نفوس البشر تضخمت وتعالت وطغت على كل قيم الضمير والأخلاق والعدالة.. وأصبح التخلف الهمجى الوحشى هو الحضارة التى يفتخر أصحابها بنوع الصواريخ وقوة القنابل وسرعة الطائرات ونجاح الاجتياح وتفوق الهدم وشعارات الديمقراطية ودكاكين حقوق الإنسان، بينما القتلى الضحايا الذين سقطوا تحت أكوام الأحجار هم رمز الحضارة الحقيقية التى يبدو أنها تنزوى الآن فى خجل.