تأصل الإرهاب الفكري والثقافي في فلسطين عامة والقدس خاصة، منذ بداية الاحتلال اليهودي للمقدسات والأماكن التراثية بها التي تمتلك من المخطوطات ما يزيد عن سبعة عشر ألف مخطوط، حيث جاءت قوات الاحتلال الإسرائيلي ولازمها القمع، والترويج لإقامة المشروع الصهيوني، الذي ينتهج البطش والإرهاب طريقا، وتوسيع عملية الاستيطان، ولا يكون ذلك إلا من خلال هدم المعالم التراثية، وتكميم أفواه الكتاب والمؤرخين، وحرق كل ما يؤصل لتاريخ فلسطين العربي والإسلامي من مخطوطات ومعالم، بداية لخلق دولة إسرائيلية تذهب بهم إلى الفرات، فقد قامت عصابات الاحتلال بحرق غالبية مكتبات التراث، مثل المكتبة الخالدية ومكتبة الخطيب، وأطلقت على هذه السياسة اسم "تكسير العظام"، حتى تستطيع تبديل هوية وتاريخ الأرض الإسلامي والعربي. عبرت كتب وأبحاث ومقالات كثيرة ، عن كيفية استخدام الدولة الصهيونية سياسة الإرهاب الفكري، باعتباره وسيلة لإحلالها محل فلسطين، وفي سبيل ذلك قتلت قوات الاحتلال كثيرا من الكتاب أمثال غسان كنفاني، إيمانا منها بأن قتل الكاتب والأديب يعد قتلا للتراث، واستغلالا لغياب الرقابة السياسية داخل فلسطين بأكملها والقدس تحديدا، لوضع كافة المقدسات وأعلام التراث هناك بين قبضتي الاحتلال، كما أنها تخلصت من الكتابات والمخطوطات القديمة، مثل مخطوط "المستقصى في فضائل المسجد الأقصى"، الذي تناول تاريخ المسجد الأقصى، وكيف كان المسلمون يقيمون له وزنا قديما، وماذا يعني لهم حديثا. ويقول د. عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ بجامعة حلوان: استولت قوات الاحتلال الصهيوني على المكتبات داخل القدس والمخطوطات التي تضمنتها منذ سيطرتها على مدينة القدس، وبدأت في استخدام الإرهاب الفكري، حيث قامت باحتلال مكتبة يافا التي احتوت على آلاف المخطوطات، كما قامت بنهب المخطوطات التي تضمنتها مكتبة الحاج راغب، وهو أحد أعلام القدس الذين واجهوا الاحتلال بكتابات توثق انتهاكات الاحتلال، وكان مسؤولا عن الحفاظ على مخطوطات التراث في القدسالغربية، لذلك قامت بالاستيلاء على كافة المخطوطات التي احتفظ بها أفراد أسرة الحاج، بعدما داهموا منازلهم بالقدسالغربية، لافتا إلى أن المخطوطات التي تم الاستيلاء عليها دون حرقها أو تمزيقها، تم نقلها إلى بعض المكتبات الإسرائيلية، كما حدث في مكتبة "دار الكتب الوطنية" التي أخذتها قوات الاحتلال الصهيوني بأكملها إلى الجامعة العبرية، وهو ما يدل على تنوع وسائل الإرهاب الفكري الذي اتبعته إسرائيل نحو كتاب ومفكرين وموثقين التاريخ في القدس لطمس معالم الحقائق التاريخية. وأضاف الدسوقي: ساهم في فضح اتباع قوات الاحتلال للإرهاب الفكري، الأديب إسحاق موسى الحسيني، من خلال بعد الكتابات التي سبقت وفاته بعدة سنوات، حيث ذكر فيها الصهاينة يقصدون فرسان المخطوطات في فلسطين للتخلص منهم من خلال التصفية الجسدية، وسطو إسرائيل بعدها على كتب التراث، ساعد على ذلك بعض القيادات السياسية لتواطؤهم مع منهج إسرائيل في طمس المعالم التاريخية لفلسطين، وخير دليل على ذلك المخطوطات التي قاموا بتهريبها إلى ألمانيا بأثمان بخيسة، وتستقر حاليا في جامعة "هايدلبرغ" وتحمل ختم المسجد الأقصى، زاد هذا التطرف الصهيوني عندما طالب بعض الكتاب بإقامة مكتبة شاملة في القدسالشرقية، تضم ما نثر من كتب التراث والمخطوطات، فقد قامت إسرائيل بدفع بعض القيادات السياسية إلى القضاء على هذه الفكرة، وكان ذلك من خلال الحبس والاعتقال، كما قامت قوات الاحتلال بتصفية بعض المنادين بذلك، وإشعال الحرائق في مختلف المكتبات التراثية التي تحوي مخطوطات تاريخية. حماية مخطوطات التراث من ناحيته، يؤكد د. صفي الدين حامد، الخبير السياسي، أن تخاذل السلطات الفلسطينية في حماية مخطوطات التراث، وهي المنوط بها ذلك، ساعد بشكل مباشر الاحتلال في تدمير الكثير منها، حيث كان بإمكانها عقد اتفاقيات مع الجانب الصهيوني يركز فحواها على عدم الاقتراب من كتب التراث والأماكن التي شهدت تاريخ فلسطينوالقدس خاصة، وإن كان ذلك يؤصل لعملية الاعتراف الكامل بكونها دولة استيطانية وليست صاحبة حق، ولكن هذه الاتفاقيات من شأنها حماية بعض من كتب التراث التي قامت الدولة الصهيونية بحرقها وتمزيقها، خاصة أن هناك بعض الكتاب أمثال محمود درويش ربطوا في كتاباتهم بين الأدب والسياسة الصهيونية التي يعبر عنها الإرهاب الفكري المتبع، لذلك كانت تخشى إسرائيل هؤلاء وتقوم باعتقالهم أحيانا واغتيالهم أحيانا أخرى، كما حدث مع الكاتب والسياسي غسان كنفاني، اعتبارا منها أنها بذلك تقضي على التراث الفلسطيني، وتكتم أفواه معارضي الاحتلال الذين يظهرون للعالم ما تنتهجه الدولة الصهيونية نحو فلسطين. ويشير صفي الدين إلى أن قوات الاحتلال اتجهت أيضا إلى اتباع سياسة التهديد، حيث قامت بتحذير الأكاديميين الذين اطلعوا على أعمالها الإرهابية من التفوه بما يتم نحو مخطوطات التراث والكتاب والأدباء، وقد كانت تتجاوز في بعض الأحيان حد التحذير، وتقوم بإطلاق النار على بعضهم بقصد تصفيتهم جسديا، إذا لم يتم حبسهم في البداية وتعرضهم للتعذيب، كما قامت بالتخلص من أعظم مجموعة مخطوطية ترجع إلى عصر المماليك والعثمانيين، يبلغ عددها أكثر من أربعة آلاف مخطوطة، وكانت تتناول تاريخ القدس والمسجد الأقصى، وتنسب إلى العديد من الكتاب والمؤرخين، كما كانت المجموعة الوحيدة التي لا مثيل لها على مستوى العالم، حيث لم ينسخ منها مجموعات أخرى، فقد بدأت قوات الاحتلال سيطرتها على هذه المجموعة، بحملة اعتداءات ممنهجة على المركز الغربي، الذي تولى مهمة إعادة جمع وترميم تلك المخطوطات، بالإضافة إلى قيامها بتصفية القائمين على تنفيذ عملية الترميم، وهذه الممارسات كانت مناخا ملائما للقضاء على التراث العربي والإسلامي لفلسطين.