الصورة واللوحة والرسم وقدرتها على أسر المرأة وتحريرها، يمثل جوهر ما تطرحه المخرجة الفرنسية سيلين سكياما في فيلمها «صورة لشابة تشتعل»، المنافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان في دورته الثانية والسبعين. الصورة بمقدورها أن تحول المرأة إلى سلعة، أو إلى مقتنى نفيس يعلق على الحائط فتنظر إليه الأعين، بمقدور لوحة أن تؤطر المرأة في إطار يقبله المجتمع الذكوري، وترتضيه الأعراف، بينما يجرد المرأة من ذاتيتها وإرادتها، وهذا ما يحدث للشابة الجميلة إلويز (أديل أنيل في أداء بديع) التي ترفض أن ترضخ لرغبة والدتها في أن تتجرد من ذاتها وروحها وحريتها، لتصبح مجرد لوحة تزين جدار منزل زوج لا تريده، وأن يصبح جسدها مجرد مقتنى يقتنيه زوج لا ترتضيه، ولكن محور الفيلم ليس فقط عن صاحبة الصورة، الشابة المتمردة على أعراف القرن الثامن عشر. فهو أيضا عن الفنانة الشابة التي عُهد إليها برسم الجميلة إلويز، وعن الصلة بين الفنانة وموضوع لوحتها، وعن الفن كسبيل لتحرير القوى الإبداعية للمرأة ولإطلاق العنان لروحها ولتحرير من ترسمها من قيودها. في فيلمها تسلط سكياما الأضواء على أن من يمسك الفرشاة أو أداة الإبداع أيا كانت، هو صاحب القدرة إما على خلق المزيد من القيود التي تكبل المرأة وتخضعها لقواعد المجتمع ونواهيه وأطره، أو صاحب القدرة على تحطيم هذه القيود ومساعدة المرأة في التعبير عن ذاتها وذاتيتها وجسدها. «صورة لشابة تشتعل» أيضا قصة صداقة وعشق بين امرأتين، بين فنانة وملهمتها، بين شابة وامرأة تفهمها روحا وجسدا وتصور روحها وليس جسدها فقط في لوحتها. ماريان (نيومي ميرلان) رسامة شابة، وحين تسألها إلويز عما إذا كانت قد رسمت سابقا الجسد العاري لرجل، تجيبها إنها قامت بذلك سرا، ولكنها لم تدرس النسب التشريحية لجسد الرجل بصورة علنية، لأن من يمتلك المعرفة والفرشاة معا، يمتلك القوة والسطوة والشهرة والقدرة على تشكيل رأي الجمهور ورؤيته، وهذا أمر لا يريده الرسامون الرجال، ولا يريده أصحاب السلطة. في مجتمع يتحكم في قيمه الرجال، لا محالة من أن يتحكم في فنه الرجال، وأن يخضعوا النساء لمنظورهم ونظرتهم. في فرنسا القرن الثامن عشر لم يسمح للرسامات النساء، أن يبدعن إلا في حدود ما يسمح به المجتمع، وهو إطار خانق وضيق تماما، وهكذا كُلفت ماريان برسم إلويز، حيث كانت الرسامات النساء يعتشن على رسم لوحات تصور فتيات الأسر الثرية. يصور الفيلم القيود التي يفرضها المجتمع على المرأة وقمع مجتمع الرجال والطبقات للنساء. كامرأة تنحدر من أسرة ثرية نبيلة، لا يوجد خيار أمام إلويز إلا الزواج من ثري آخر حتى يبقى ثراء الأسرة ولقبها. عندما نطالع صورة إلويز للمرة الأولى، في النسخة الأولى لصورتها التي حاول رسام رجل رسمها، نرى وجهها مطموس المعالم، ونرى ثوبا أنيقا، ويدين مضمومتين في خفر وخضوع. المرأة كما يصورها الرجل ويخضعها لرؤيته بلا وجه أو روح، فهي مجرد ثوب جميل وبشرة غضة، أما روحها وعقلها وذاتها فتختفي من اللوحة تماما. تتمرد إلويز على نظرة الرجل تلك، وترفضها، ولا تقبل أن ترسمها ماريان إلا بعد أن تتأكد أن ماريان روح حرة سترسمها جسدا وروحا بكامل ما لها بهاء. تصور سكياما نظرة الرجل على أنها قيد وأغلال وتشيؤ وانتهاك لروح المرأة، أما نظرة المرأة فهي نظرة محبة متفهمة تحرر المرأة وتنظر إلى جوهرها وما هو أبعد من جسدها. تبدأ الصلة بين إلويز وماريان متحفظة خجلة، ولكن الاثنتين تجدان الملاذ في بعضهما بعضا، تقوى الصداقة وتتوثق، ويزداد الفهم ويتعمق، وتشتعل جذوة الحب والعشق. «صورة لسيدة تشتعل» فيلم تتغلغل فينا تفاصيله الصغيرة، تفاصيل تلتقطها عين مخرجة، امرأة تفهم المرأة خير فهم. هو فيلم تتلاشى فيه الطبقة حين تتوثق الصلات بين النساء وتحل محلها مشاركة في الهموم والمباهج المشتركة التي يعيشها النساء في عالمهم. ثلاث نساء هن ابنة الطبقة النبيلة والرسامة التي ترسمها والخادمة صوفي (لوانا بوجرامي)، جميعن في أعمار متقاربة، وتجمعهن صلات تتجاوز الطبقة والمجتمع وقيوده. من متاعب الحيض، للتعاون للتخلص من هم حمل غير مرغوب فيه، للاستماع معا لغناء القرويات، للاستمتاع بالطهو معا والمشاركة في الطعام. تفاصيل صغيرة تجمع النساء وتلتقطها مخرجة ذات فهم كبير للمرأة وروحها. وحين يقوى الحب بين ماريان وإلويز، يلتحم الجسدان عشقا، ولكن سكياما لا تطلق العنان للتعبير الجسدي عن هذا الحب. في عصر كانت المرأة تعامل فيه المرأة كمقتنى ينتقل من بيت أب ثري لبيت زوج ثري، تؤكد سكياما على أن العلاقة بين ماريان وإلويز في المقام الأول علاقة روحية، علاقة اثنتين تفهمان بعضهما بعضا وتخففان عن بعضهما بعضا قسوة العالم والمجتمع الذي فرض عليهما أعرافا وقيودا يرفضانها. يصور الفيلم القيود التي يفرضها المجتمع على المرأة وقمع مجتمع الرجال والطبقات للنساء. كامرأة تنحدر من أسرة ثرية نبيلة، لا يوجد خيار أمام إلويز إلا الزواج من ثري آخر حتى يبقى ثراء الأسرة ولقبها، وإن رفصت ذلك فلا سبيل لها إلا الانتحار كما فعلت شقيقتها. يبدو لنا كما لو كانت سكياما تود أن تؤكد لنا أن الملاذ الوحيد للنساء من تسلط الرجال وقسوة القيود التي يفرضها المجتمع الذكوري هو أن يوثقن صلاتهن ببعضهن وأن يجدن العون والدعم والدفء في صحبتهن لبعضهن بعضا. «صورة لشابة تشتعل» أيضا قصة حنين وذكريات عن الحب الحقيقي حين يتحول إلى ملاذ من قيود الحاضر. يفرض المجتمع على إلويز وماريان أن يفترقا. عالم الرجال هو الذي يحول المرأة إلى ممتلك شخصي وإلى لوحة جميلة على جدار، وإلى مقتنى ثمين، أما الحب بين النساء فهو ما يمنحهن بعض الحرية، وما تمنحهن ذكراه القدرة على مواصلة حياة قاسية.