تنمية شاملة بعد عقود من الإهمال| مشروعات زراعية وصناعية وبنى تحتية فى كل شبر من أرض الفيروز    تحرير سيناء.. «قصة كفاح نحو البناء والتنمية» ندوة بمجمع إعلام قنا    سيناء من التحرير للتعمير    البورصة المصرية.. أسعار الأسهم الأكثر ارتفاعًا وانخفاضًا اليوم الأربعاء 24-4-2024    بتخفيضات 30%.. الكاتدرائية المرقسية تستضيف مبادرة «خير مزارعنا لأهالينا»    عاجل.. تنبيه مهم من البنوك لملايين العملاء بشأن الخدمات المصرفية    وزير الاتصالات: مصر تطرح رؤيتها المرتبطة بالذكاء الاصطناعي في المحافل الدولية    «شهادات الموت والرعب والأمل».. أهل غزة يصفون 200 يوم من الحرب | خاص    جمعة فى مؤتمر رابطة العالم الإسلامى بالرياض: نرفض أى محاولة لتهجير الشعب الفلسطينى وتصفية قضيته    السيسى يحذر من أى عمليات عسكرية فى رفح الفلسطينية    سفير الصين: العلاقات مع مصر في أفضل حالاتها.. وتجمعنا طموحات مشتركة    تعرف علي عدد الأندية المصرية الموقوف قيدها حاليًا بفرمان من «فيفا».. مستند    تشكيل البنك الأهلى لمواجهة بيراميدز    رياضة الوادى الجديد تختتم فعاليات الحوار المجتمعي «دوي» وإعلان المبادرات الفائزة ببرنامج نتشارك    تريزيجيه ينافس مبابي ووالكر في قائمة مميزة حول العالم    بالصور| السيطرة على حريق اندلع داخل مصنع للمسبوكات بالوراق    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم الناقد العراقي مهدي عباس    تعرف على إجمالي إيرادات فيلم "شقو"    عناوين مكاتب تطعيمات الحج والعمرة بمحافظة كفر الشيخ ومواعيد العمل    عاجل من الصحة بشأن منع هذه الفئات من الخروج في الموجة الحارة (فيديو)    فوز مصر بعضوية مجلس إدارة وكالة الدواء الأفريقية    رغم توافر السيولة الدولارية.. لماذا يرفض التجار استلام بضائعهم من الموانئ؟| تفاصيل    قريبا.. مباريات الدوري الإسباني ستقام في أمريكا    زيادة وتيرة حرب أسعار السيارات الكهربائية في الصين    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    حجز قضية مصرع شاب على يد 6 أشخاص في المنصورة للنطق بالحكم (فيديو)    العروسة في العناية بفستان الفرح وصاحبتها ماتت.. ماذا جرى في زفة ديبي بكفر الشيخ؟    طلاب كولومبيا: لن ندخل في مفاوضات مع إدارة الجامعة    هيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية: تلقينا بلاغ عن وقوع انفجار جنوب شرق جيبوتي    الصحفيين والمهن التمثيلية تعقدان اجتماعا مشتركا لوضع ضوابط تغطية جنازات الفنانين    عيد الربيع .. هاني شاكر يحيى حفلا غنائيا في الأوبرا    توقعات برج الثور في الأسبوع الأخير من إبريل: «مصدر دخل جديد و ارتباط بشخص يُكمل شخصيتك»    عزف على أوتار الفقد    حكم الاحتفال بشم النسيم.. الإفتاء تجيب    هل هناك أذكار وأدعية تقال في الحر الشديد؟.. رد واضح من الإفتاء    أوراسكوم للتنمية تطلق تقرير الاستدامة البيئية والمجتمعية وحوكمة الشركات    إجازة شم النسيم 2024.. موعدها وعدد أيامها بعد قرار مجلس الوزراء بترحيل الإجازات    رئيس جامعة جنوب الوادي يكرم الوفود المشاركة بالملتقى الفني 21 لشباب الجامعات    محافظ المنيا: تقديم كافة الدعم للأشقاء الفلسطينيين بالمستشفى الجامعي لحين تماثلهم للشفاء    خدماتها مجانية.. تدشين عيادات تحضيرية لزراعة الكبد ب«المستشفيات التعليمية»    حزب الحركة الوطنية يناقش خطة عمل المرحلة المقبلة والاستعداد لانتخابات المحليات    مديريات تعليمية تعلن ضوابط تأمين امتحانات نهاية العام    روسيا تبحث إنشاء موانئ في مصر والجزائر ودول إفريقية أخرى    تأجيل محاكمة 4 متهمين بقتل طبيب التجمع الخامس لسرقته    تفاصيل مؤتمر بصيرة حول الأعراف الاجتماعية المؤثرة على التمكين الاقتصادي للمرأة (صور)    حقيقة حديث "الجنة تحت أقدام الأمهات" في الإسلام    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم العراقي مهدي عباس    دماء على «فرشة خضار».. طعنة في القلب تطيح بعشرة السنين في شبين القناطر    وكالة الفضاء المأهول الصينية تحدد يوم غد موعدا لاطلاق سفينة الفضاء المأهولة شنتشو-18    هل يجوز أداء صلاة الحاجة لقضاء أكثر من مصلحة؟ تعرف على الدعاء الصحيح    نقيب «أسنان القاهرة» : تقديم خدمات نوعية لأعضاء النقابة تيسيرا لهم    الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق مستقل بشأن المقابر الجماعية في غزة    عمرو الحلواني: مانويل جوزيه أكثر مدرب مؤثر في حياتي    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    اسكواش - فرج: اسألوا كريم درويش عن سر التأهل ل 10 نهائيات.. ومواجهة الشوربجي كابوس    الحج في الإسلام: شروطه وحكمه ومقاصده    بشير التابعي: أتوقع تواجد شيكابالا وزيزو في التشكيل الأساسي للزمالك أمام دريمز    دعاء العواصف والرياح.. الأزهر الشريف ينشر الكلمات المستحبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرسم مع الشعب
نشر في أخبار الأدب يوم 29 - 10 - 2011

حجازي الفنان الذي غادرنا الأسبوع الماضي بعد أن رسم البهجة علي وجوه المصريين لسنوات، مات وحيدا في طنطا التي لجأ إليها، متفرغاً لرسوم الأطفال بعيداً عن ضوضاء العاصمة.
حياة حجازي (1936 2011) هي الفن والاستغناء. منذ عقد، ترك شقته في القاهرة مغادراً إلي مسقط رأسه طنطا. وهي المدينة التي تركها أيضاً عام 1954 متخلياً عن امتحان البكالوريا، ومتمرداً علي رغبة والده في إكمال دراسته من أجل الفن والصحافة. وخلال اقامته القاهرية، ترك »فرصاً وأموالاً وامتيازات وجوائز وأصدقاء وزملاء ونساء وكتباً وكراسي وملابس ومكاتب وثلاجات ومواقد...» حسب تعبير صديقه الفنان الراحل محيي الدين اللباد.هكذا كان يفر من »الشهرة«. والنجومية.
مع حجازي ومجموعة قليلة من صحبه تطور فن الكاريكاتير المصري. قبلهما كان مجرد أنماط وشخصيات، كان الفنان مجرد معبر عن وجهة نظر الجريدة التي يعمل بها، ولكن مع ثورة يوليو أحدثت الثورة «زلزالا في المجتمع» وقلبت التربة الاجتماعية وكان لابد أن ينشأ جيل مواكب لها في كل الفنون. وهذا ما حدث في روزاليوسف. وكانت ميزة حجازي أنه لم يأت من الطبقة الوسطي التي جاء منها كل فناني الكاريكاتير الذين سبقوه، عبر عن الطبقات المنسحقة والهامشية، كان يرسم باختصار ما شاهد في حياته.
الحرية كانت كلمة السر لدي حجازي، رفض ان يتزوج ويكون أسرة حتي لا يفقد حريته او يشعر أنه في حاجة إلي شئ يمكن ان يحد من هذه الحرية ...لذا بعد أن شعر ان حريته مهددة اعتزل الكاريكاتير ...وبعد سنوات عندما شعر أنه لن يضيف جديدا قرر ان يعود في رحلة عكسية إلي طنطا وحيدا. هنا محاولة للاقتراب مع عالم الفنان الراحل الذي اعتبر أن الكاريكاتير فنا شيطانيا، لا يمكن تعلمه.لم يتقمص حجازي دور الرسام إلا عندما يجلس أمام لوحاته، مع فرشاته، يتذكر فقط أنه رسام حينما يرسم. يفرح بوحدته ويعتبرها أكبر نعم الحياة، ويكره المسئولية لدرجة عندما تتوالي عليه ردود الأفعال علي رسوماته يتوقف عن الرسم. يكره التصوير وعندما يظهر فلاش يرتبك ويفزع.
جري هذا الحوار معه عام 2003، بعد أن قرر العودة إلي طنطا، تاركا شقته إلي صاحبها بدون أن يحصل منه علي أي مقابل..كان هذا الموقف يثير دهشة المثقفين:هل هو جنون العبقرية أم بساطة انسان مبدع حقيقي لا تعنيه الشهرة ولا الأضواء ولا المال؟
فكرت كثيرا قبل أن اتصل به ولكنني في النهاية فعلتها واتصلت به وعرفته بنفسي محررة مبتدئة تريد إجراء حوار معه. كنت أتوقع الرفض، وخاصة أن كثيرين نصحوني بعدم المغامرة لأنه قطعا سيرفض. ولكني فؤجئت به يقول لي مباشرة معك ورقة اكتبي عنوان المنزل في طنطا، هكذا بكل بساطة، دون إملاءات؟
عندما وصلت إلي طنطا، وجدته يرتدي جلبابا أبيض وفي يده سيجارة. في مدخل البيت البسيط جدا لوحتان لنذير نبعة وشلبية إبراهيم. ويقف استاند الرسم في الواجهة.
وبدأت الحديث، ووجهت إليه أسئلتي دفعة واحدة، وكانت غالبيتها أسئلة تقليدية عن الكاريكاتير في شكليه الاجتماعي والسياسي ومستقبله هذا الفن، وكان السؤال الأهم لماذا هجر القاهرة بعد أن لجأ إليها في بداية حياته المهنية؟.
وطوال الحوار الذي استمر أكثر من 4 ساعات، كانت ساعات الصمت أكثر من لحظات الكلام حتي أنني بدأت اتململ من صمته وبدأت أرواغ لأحصل منه علي إجابات شافية لأسئلتي لكن مع حجازي تشعر انه الصامت الأبدي، يدير هو دفة الحوار وقتما أراد وكيفما أراد بخفة دم وطيبة شديدة. وعندما قلت له أنني علي وشك الرحيل، أهداني كتاب محمد بغدادي » كاريكاتير حجازي.. فنان الحارة المصري» وعندما طلبت منه كتابة إهداء، كتب ثلاثة حروف، وعاد وشطب عليها، معللا ذلك أنه لا يجبد كتابة الإهداءات.
سر الهروب العظيم من القاهرة كان محور الزيارة: »انا بطلت عشان ما أكررش نفسي، مبقاش ممل، كل حاجة طرحت في الكاريكاتير النهاردة، ومن يرسمون الآن مثل جمعة ورؤوف عياد كنا نقول عليهم الفنانين الشبان، ولو أنا شاتغلت دالوقت هاعمل نفس الشيء. المجتمع انخفضت روحه المعنوية. مفيش البراح وفكرة قبول الأخر والأفكار الجديدة. الإبداع فيه مناخ حرية حتي لو كان معاكسا لتفكير الأخرين لكن لابد من تقبله».
ويؤكد حجازي انه انقطع فعليا عن رسم الكاريكاتير من الناحية العملية قبل عشرين عاما من رحلة العودة العكسية. كانت أزمته الحقيقية أن »كل القضايا طرحت في الكاريكاتير، ويري أنه في حدود نفسه عندما كان يرسم كاريكاتيرا يشعر أنه يكرر، فجوهر القضايا مازال قائما وواحد والمفردات لم تتغير، البطالة والفقر والعلاقة بين الرجل والمرأة. وفي الحقيقة أنه يمكن أن يرتدي الأغنياء والفقراء الملابس ذاتها ولا يمكن التفرقة ولا تحديد الوسط الاجتماعي. كما أن الكاريكاتير لم يحل مشكلة، فحسيت أن ما أفعله تكرار».
الكاريكاتير يطرح القضايا نفسها والمشكلة الجوهرية أن المناخ اختلف، ففي الزمن الجميل، كان هناك احتياج للكاريكاتير وتقديرا لقيمته، الجرائد كانت تعلي من قيمة الكاريكاتير ويتذكر حادثة غضب الفنان رجائي بسبب الفلوس، فيذهب إليه مصطفي محمود علي سبيل المثال ويسترضيه ليعود إلي رسم البورتريهات. أما الآن فيمكن أن لايرسم أي حد.
يفضل حياة العزلة ويقول :»مشاكلي قليلة، ليس لدي ميل للحياة العائلية بدليل وأنا صغير عندي 12 سنة كانت السينما بثلاثة تعريفة والكتاب كان فيه دكة ونور قليل تقرأ ست ساعات بتعريفة وكنت اختار كتابا كبيرا وما ألحقش أقرأها، وحصلي اضطراب وانشغلت بعوالم غريبة، المهم كنت أذهب إلي البيت شارد الذهن، فسألني أبي» أنت عايز تعيش لوحدك، فقلت له ياريت». وتحقق له ما أراد.
بدأ حجازي عمله الإبداعي وهو في طنطا برسم بورتريهات للزعماء الوطنيين من أمثال مصطفي كامل وأحمد عرابي. كيف بدأت إذن رحلته القاهرية يجيب: »كان بيتنا صغيرا مكون من أوضة صغيرة،ط وعشت بمفردي حتي سن 18 عاما كنت أتابع مجلة روزاليوسف بالإضافة إلي قراءاتي الأدبية. وقتها شعرت إني لابد أن أترك طنطا وأذهب إلي القاهرة. وظللت أدخر حتي أشتري أدوات وقبل امتحان الثقافة العامة قبل التوجيهية كان لي صديق اسمه اسحاق قلادة قلت له انا مسافر وجاء معي ووجدنا أوضة في بولاق كان إيجارها جنيه في الشهر ورتبنا الميزانية بحيث يفيض منها قرشين صاغ وظللنا نلف علي مجلات فنية اختفت من الحياة الثقافية وبعد ثلاثة أشهر، نفد ما معنا وأصبحنا ننام في الحدائق العامة.
يضيف: أخذت معي رسومات ساذجة كانت عن الفوارق الاجتماعية لأننا كنا نسكن في حي فقير وكان لي أصدقاء يعيشون في أحياء راقية، وغير فكرتي عن الكاريكاتير وقتها المخرج الفني لمجلة روزاليوسف الأستاذ عبدالغني أبوالعينين. ويومها ذهبت إلي الأوضة التي أسكن بها وكانت دون أي أثاث وكنت أنام علي الارض وبدأت أتفحص الجرائد والصور. بدأت العمل في مجلة »التحرير» التي كانت أول مجلة للثورة وكان يرأس تحريرها في ذلك الوقت سامي داوود الذي عندما رأي شغلي أرسلني إلي حسن فؤاد الذي أصبح رئيسا لتحرير مجلة »صباح الخير» فيما بعد وحتي بعد ان انتقل فؤاد إلي روزاليوسف وأصبح صلاح جاهين رئيس تحرير »صباح الخير» كان الجو حميم. كانت ميزة روزاليوسف أن رئيس التحرير لا يفرض رؤيته علي أحد ويقول »شوف أنت عايز ترسم إيه» وكان هناك تنوعا في الاتجاهات الفكرية».
وكان السر في تميز حجازي يكمن في أن: »معظم رسامي هذه الفترة من الطبقة المتوسطة، وكنت الوحيد الذي أنتمي للطبقة الفقيرة وهو ما صنع الاختلاف، وكنت أرسم موضوعات لأول مرة نتناولها في الصحافة». ناس يأكلون علي طبلية، لمبة جاز، الأطفال الكثيرين، السيدة المضطهدة كانت الموضوعات المتفردة التي يرسمها حجازي، أشياء رأها في حياته، بينما يعبر باقي رسامي الكاريكاتير عن وسط مختلف.
عمل حجازي في روزاليوسف ودار الهلال وفي أخبار اليوم لمدة شهرين التي ليس بها »بهوات»، ناس أبسط في سلوكهم، وليس بها رسميات مثل »الأهرام» التي كان يخشاها حيث يشاهد أعماله يوميا الملايين، بينما المجلات »حتة مدرية».
»كان يكفي أن تستمع لنقاشات أحمد عباس صالح وكامل زهيري ورجاء النقاش وأنور عبدالملك وصلاح عبدالصبور، أفكار جديدة. الآن المؤسسات الصحفية »مقفلة» علي نفسها ومفيش حد بيعلم حد. المجتمع الصحفي أصبح به جفاف وليس الحيوية التي رأيتها، وهذا رأيته يتجلي في روزاليوسف ولعل هذا أحد أسباب انزعاجي وخروجي».
كان حجازي يضع أمامه ورقة فارغة ويفكر في الفكرة ويرسمها في نفس الوقت، لم يكن هناك انفصال أو فجوة زمنية بين التفكير والرسم، لم يكن يهتم بالشكل بل بالتعبير عن الفكرة. كان يرسم بأبسط طريقة ممكنة دون تعقيدات. يسخر حجازي من هذا ويقول» بسبب طريقتي هذه في الرسم أصبحت »ملطشة» وقلدني الكثير من الرسامين.
أما عن أسلوبه الفني يقول حجازي إن »قبل ثورة 1952، كان رخا يرسم »أنماط» رفيعة هانم وزوجها السبع أفندي وسكران أفندي طينة، لم يكن يرصد مشاكل اجتماعية بل يرصد المفارقات أو يطرح قضايا إجتماعية بشكل منفصل، وهذا خطأ لأن كل شخص له ملامح نفسية وعقلية مختلفة. وهؤلاء أولاد عهد فاروق رغم أنهم حصلوا الثورة. الثورة أحدثت زلزالا وقلبت التربة الاجتماعية وهو ما واكبه الجيل التالي من رسامي الكاريكاتير. المجتمع كان يتهيأ للتغيير، وأصبح الكاريكاتير من مساهمات فكر التغيير وبدأ الرسم عن الأحوال الاجتماعية بشكل أكثر تفصيلا.
وعن نكسة 67 يقول :» النكسة عملت شرخ في جيلي مازال موجودا»، لكني اشتغلت كثيرا جدا علي أساس أن الواحد اتهزم وأن مازال لديه رغبة في المقاومة، اشتغلت كثير جدا لدرجة إحساسي أن ما أعيده أزيده. مثلا قضية فلسطين، أنا عاصرت حرب 48 ومن يومها وحتي الآن، الغضب يبقي بعديه خطوة فمن غير الممكن أن أغضب واصمت والعرب لم يفعلوا غير ذلك. حتي القضايا الاجتماعية مثل البطالة وتفاقمها وزواج الشباب في سن الأربعين. شعرت أن الجزء الجميل والطائش وما فيه من نزق بيضيع هدر وان المجتمع فيه درجة من الركود والثبات غريب جدا، فأنواع السيارات تتطور والفضائيات تظهر وجوهر المجتمع لا يتقدم.
حجازي.. اسم كبير وحضور أكبر في عالم الكاريكاتير.. ولأنه معني بالإنسان كونه إنساناً.. أضحكنا، ولكن بمغزي.. فعندما نقرأ ونشاهد كاريكاتيرا له، قد تستلقي علي قفاك من فرط الضحك، وقد تدمع عيناك، ولكن وبعد برهة ستجد نفسك متألماً ومتأملاً لما يود قوله، ومتألماً علي حالك كمواطن فرد، قد استلبت منك كل أحلامك فتشعر بالقنوط والخزي لما آلت إليه أحوالنا، وهنا يأتي دور الفلسفة علي الكاريكاتير، ومع أنه ابن حارة كما يطلقون عليه، ولكنه علم نفسه بنفسه، قرأ كثيراً وتأمل أكثر.. وهذا ما لم يفعله أحد سوي قلة من جيله، وإن كان الصمت ديدنهم فإنه كصمت النساك، والذي إن تكلم فما عليك إلا أن تصمت وتنصت جيداً لأنه قول بالضرورة مهم.. وممن يتميزون بتلك الخاصة فناننا الكبير وعمنا اللباد والقدير إيهاب شاكر أطال الله في عمره.
فقالوا عنه نجيب محفوظ الكاريكاتير، وفنان الحارة.. وقالوا أيضاً إنه لو سلك طريق المعرفة الكلية عن متصوف، لأصبح قطباً كبيراً، فهو ناسك حقيقي نموذج للإنسان المتعالي عن صغار الأشياء وديدنه الغني في الاستغناء هو كمحمود سعيد ومختار وأم كلثوم.. لكن في الكاريكاتير قد يبدو كلامي مستغرباً، ولكن كل من اقترب منه لن يجد فيما أقوله أية مبالغة.
زمان.. أيام الستينيات الجميلة أو منتصفها بقليل، أيام كنت أوفر من مصروفي قروشاً قليلة أظنها ثلاثة كي أشتري مجلة سمير الشهيرة في تلك الأيام، قبل انتكاستها كبقية كل شيء جميل في حياتنا.. كنت شغوفاً بحجازي الذي كان يرسم تنابلة السلطان.
كنت أراه متميزاً برغم تواجد الأجنبي المترجم للعربية بخطوطهم القوية، ولكن لم يدخل قلبي إلا حجازي لبساطة خطوطه وخفة ظل السيناريو الذي كان يكتبه هو حينها.
بعدها بسنوات تعرفت علي مجلة صباح الخير والتي كانت متألقة أيضاً كحياتنا في الستينيات بدليل أنه لم تعد توجد قلوب شابة ولا عقول متفتحة.. أصبح لوجود العقول المنغلقة الكثرة العديدة بيننا، فقد هبت علي مصر رياح السموم من الخليج فاقتلعت معها الأخضر واليابس.
فصباح الخير ما فتئت إلا وتجود علينا بأشياء هي كالذهب بين صفيح صدئ يملأ علينا جنباتنا الآن.
لأن صباح الخير كانت للقلوب الشابة والعقول المتحررة.. فقد جادت علينا بكوكبة جميلة من الرسامين والذين اكتشفنا بالفعل أنهم كبار عندما نأتي علي ذكر أحدهم الآن.
ولأنني امتهنت نفس المهنة فعرفت وصادقت بعضهم ممن كانوا أثيرين لديّ، ولأن عيني تري بشكل جيد كما وصفني حجازي يوماً ما، فلم أصادق سوي من رأيت فيهم أشياء قد لا تجدها في آخرين، وكان ترتيب حجازي الأول والذي كان اكتشافاً بالنسبة لي عندما اقتربت منه أكثر في أبوظبي عندما استقبلناه في مجلة ماجد الإماراتية ليعمل معنا طيلة ثلاث سنوات ممتعة تعلمت منه فيها الكثير.
وكنت أظن في وقت ما أن الكاريكاتير وقصص الأطفال المصورة بالسهولة بحيث أن الرسام يأتي عليها في ساعات قليلة.. إلي أن رأيت حجازي عن كثب وهو يرسم.
وكنت أذهب للمجلة في الحادية عشرة صباحاً لأجد حجازي وقد غادر المجلة بعدما أنهي كل عمله تقريباً، وعندما سألته عما إذا كان ينهي عمله في ساعتين.. علمت منه أنه يأتي في الخامسة فجراً ويظل يعمل حتي العاشرة صباحاً، وكمنت له كي أشاهده وهو يعمل ، فرأيت ناسكاً حقيقياً يرسم بعشق ومحبة كبيرين تجاه المهنة، وإن بدأ في التنقيط بالقلم Rabido رقم 2، عرفت أنه غاضب من شيء ما.. ومن الممكن أن يظل هكذا لمدة يومين إلي أن ينتهي من رسم موتيفة مثلاً، وهو الأحرص علي الرسم بمساحات كبيرة، حتي لو تم تصغيرها لأتت بنتائج جميلة تشكيلياً، وكنت أتعجب من أن بعض الرسوم بعدما ينتهي منها، وكأن كمبيوتر هو الذي أنهاها علي هذا الشكل الجميل، علماً بأن الكمبيوتر وقتها لم يكن له وجود فعلي في الصحافة بشكل عام.
وترك وراءه كمية رسومات وكأنه رسمها في عشر سنوات لدرجة أن المجلة استعانت برسومه طيلة عشرين سنة تقريباً.
وغادرنا حجازي واستمرت صداقتنا مستمرة، وكان كلما حانت فرصة يتحفني برسالة جميلة تشتم من خلال كلماتها كاتباً ساخراً كبيراً.. نكتشف من خلالها كم هو كاتب ساخر.. إلي أن جاء يوم قيل فيه إن حجازي قد غادر القاهرة مكتئباً ومغتماً مما آلت إليه الأمور في مصر، وهاتفته من أبوظبي مستفسراً فقال لي عندما تأتي في زياتي ببلدتي طنطا سوف أشرح لك كل شيء.
وبالفعل قمت بزيارته بأول اجازة لي، فأوضح لي أنه ليس في الأمر اكتئاب كما أسهبت صحف وحكي كثيرون قصصاً بها بعض الشطح ممن كانوا يطمحون في معرفته، وقال لي إنه ترك القاهرة بعدما داهمته أزمة صحية وكان وحده بالبيت، وكاد أن يفارق الحياة لولا أنه كان علي موعد مع صديقه الحميم فؤاد قاعود، الذي ما فتئ مغادرة باب الشقة التي اضطر مع البواب لكسر الباب ليجد حجازي ملقي علي الأرض.. بعدها قرر حجازي مغادرة بيته بالمنيل كي يكون في رعاية اخوته ببلدته طنطا.
كذلك تركه لمؤسسة روزاليوسف والتي كان للغط المساحة الأكبر وإن كانت تتلخص في أنه ترك المؤسسة بعد مجيء مرسي الشافعي الذي أشار علي حجازي بتغيير الكاريكاتير بقلم أحمر مما كان من حجازي الوديع إلا أن ينكر عليه ذلك الفعل بل وأسمعه ما لم يجب أن تسمعه أذناه.
كذلك تركه لمجلة ماجد.. ففي صباح أحد الأيام لم يأت حجازي وانتظرناه طيلة ثلاثة أيام تقريباً.. إلي أن علمنا أنه غادر أبوظبي متوجهاً للقاهرة دون أن يفصح عما بداخله، وبعدما مرت عدة سنوات أظنها عشرين سنة، قال لي إنه ترك المجلة بعدما طلب منه مدير التحرير تغيير الغلاف بغلاف آخر.. بعدها قرر ترك المجلة.
ولا يفوتني أن أذكر أن حجازي مقلق رؤساء التحرير وأصحاب الصحف بكاريكاتيره الجريء.. فنال كل منهم غضب وتأفف كل من الرئيسين جمال عبدالناصر وأنور السادات، وكلنا يعرف الكاريكاتير الذي أغضب جمال عبدالناصر والذي رسم فيه دولاباً به عدة رجال وامرأة تقول لأخري »أخرج بمين فيهم النهارده» فأخذته العزة علي نسائنا، فوبخ الشرقاوي علي الكاريكاتير!
كذلك الكاريكاتير الذي أغضب أنور السادات عندما رسمه وهو أنيق للغاية وفي فمه البايب الشهير كذلك بدلته والتي يتقن رسمها حجازي بنمنماته، وهو ينزل من الطائرة في الصين الشعبية والتي ينتظره وفد كبير كلهم يلبسون بدلاً شعبية، وجمال الكاريكاتير يتأتي في أن السادات ذاهب للصين لطلب معونة لمصر.. والحكايات هنا رواها صلاح حافظ للصحفي القدير محمد بغدادي بتصرف منذ وطأت قدمه القاهرة لم تكن غريبة عليه، لأنه وبالصدفة قام بعمل أو بالأحري قام والده بعمل أثر في حجازي كثيراً وكانت الأرضية أو التكئة التي بني عليها حجازي فلسفته في الحياة.. فوالده كان سائق قطار يأخذه معه أحياناً، فرأي كل مصر تقريباً من شرفات القطار، فكان لذلك تأثير كبير عليه وأسهم بشكل كبير علي تشكيل وعيه الفني.. لذا لزم التنويه عن أنه نشأ في الحارة المصرية بالفعل، وقد كانت لأستاذ الصحافة أحمد بهاء الدين نظرة ثاقبة فيمن كانوا أساتذة كل في تخصصه، وتفرد حجازي وصلاح جاهين باهتمام أحمد بهاء الدين الذي كان تأثيره عليهم كبيراً كما لتأثير محمد حسنين هيكل علي صلاح جاهين من بعد، بعدما نقله أحمد بهاء الدين.
وكان لرؤساء ومديري التحرير وقتها فعل السحر في إبراز وفهم دور رسام الكاريكاتير، وكذلك الرسام الصحفي.. فلا يخفي علي أحد دور عبدالفتاح الجمل وحسن فؤاد وإحسان عبدالقدوس وعبدالسلام الشريف وأبوالعينين وفتحي غانم وصلاح حافظ وحتي مصطفي وعلي أمين في إبراز الكثير من فناني مصر، ولن تتسع المساحة لذكرهم لأنهم كثيرون، ولكن اللافت هنا أن رؤساء تحرير صحف اليوم أبعد ما يكونوا عن الفن التشكيلي بكل أشكاله كذلك رجال الأعمال أصحاب الصحف الكثيرة العدد دونما وجود لمواهب حقيقية كالتي شاهدناها وقرأنا لها في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرف.
الصديق العزيز مصطفي رحمة:
تحياتي لك وللأسرة وكل عام وأنتم بخير.
آسف علي رسالتي المستعجلة من الرسالة السابقة. ولكنك تقول يا مصطفي انك زهقان. رغم أنك ترسم في ماجد وترسم كاريكاتير في جريدة الاتحاد. ولكن طبعا انت حر في قراراتك لكن المشكلة أن أحوال الصحافة في مصر لا تسر فمثلا مؤسسة روز اليوسف لم تعد تعرف كيف تستفيد من الصحفيين أو الرسامين الموجودين بها. ولم يعد المسئولون فيها يهتمون بالرسم أو الرسامين أو العمل الصحفي بشكل عام. وهكذا أحوال الصحافة بشكل عام.
لكن طبعا لو انت زهقان فعلا اترك أبوظبي وتعال الي القاهرة. لكن قبل ذلك اتفق مع الأستاذ أحمد عمر أن ترسم لماجد من القاهرة وبجانب ذلك تحاول أن ترسم الكاريكاتير في القاهرة في أي صحيفة. وعلي أي حال يا مصطفي القرارات الهامة في حياة الانسان محتاجة الي تفكير طويل.. وربنا معاك ومعانا.
وإلي اللقاء.
الأخ الصغير والفنان الكبير مصطفي رحمة:
تحياتي وأشواقي لك. وتحياتي وتحيات سلوي للسيدة زوجتك ولك.
وصلتني رسالتك الجميلة وأشكرك علي اهتمامك. وآسف أيضا لأن فكرة التماثيل انضربت في السوق بعد تهديدك لي بارسال »اسمه ايه« تماثيل من اللحم.
أرجو أن تكون سعيدا في عملك وبيتك. وأرجو ألا تحقد علي بيتهوفن لأنه صار تماثيلا نصفية فوق كل بيانو.. ويكفيك فخرا انه رغم عظمته تستطيع أن تشتري موسيقاه علي كاسيتات بدراهم معدودة. وتستطيع بعد أن يفسد الشريط أن ترميه في صندوق الزبالة.
المهم يا سيدي. عندما تحضر الي مصر ان شاء الله. سوف تجدني في انتظارك في أي يوم (أحد) في العنوان التالي:
(المنيل - محطة الباشا - شارع سعيد ذو الفقار نمرة 4 الدور الثالث شقة 21).
ففي كل أحد أقابل الأصدقاء في هذه الشقة. ورغم أن يوم الأحد يكون غالبا زحمة وفيه أصدقاء كثير. لكن المهم انك بعد ما توصل مصر تيجي في هذا العنوان في أي يوم أحد. لنتفق بعد ذلك علي ميعاد آخر.
تحياتي لك. وتحياتي لكل الأصدقاء الأحباب العاملين في ماجد الذين أحببتهم من قلبي. وللأسف لم أتمكن من التعبير لهم عن ذلك، لأنني انسان خايب وفاشل في التعبير عن عواطفي.
وإلي اللقاء يا مصطلي وسلم لي علي بيتهوفن.الصديق العزيز مصطفي رحمة:
تحياتي لك ولكل من حولك
قرأت خطابك وفهمت منه أن تفكيرك قد هداك الي هدية متواضعة، نظرت الي العلبة وقلت ربما أرسل داخلها »بوي هندي صغير« يملا عليا البيت، لكن فوجئت داخلها بهذه الكمية الكثيرة من الولاعات، ولما كانت عواصف الشك قد ثارت في المنطقة العربية بعد ما حدث، والنفس أمارة بالسوء، فكرت أنك ربما أرسلت لي هذه الكمية من الولاعات تكتيكا لاستراتيجية تريد تحقيقها وهي القضاء علي الرسامين والاستيلاء علي مجلات الأطفال بالمنطقة، فهذه الكمية من الولاعات الهدية سوف تحقق أحد هذه الاحتمالات الثلاثة:
1 - أن أظل أدخن سجاير بقدر طاقة هذه الولاعات حتي أموت مختنقا بالدخان وهذه حرب كيماوية محظورة دوليا.
2 - أن تراودني فكرة التجارة والبزنس فأستقل القطار لأبيع الولاعات علي محطة المنصورة وبالمكسب اشتري أمشاط وبنس شعر لأبيعها وأكسب وهكذا حتي أفتح كشك جرايد في الميدان وأصبح أحد مندوبي ماجد في المنصورة وأهجر الرسم.
3 - أن تنفجر هذه العبوة من الولاعات في الشقة ويشاء السميع العليم أن أنجو بأعجوبة، لكن هول الحادث يصيبني بالتخلف العقلي فأنسي الرسم والقراءة والكتابة وارتد للطفولة البعيدة وأصبح من هواة التلوين وهكذا تبدأ خطتك بالتخلص من وجودي في ماجد ثم بقية الرسامين واحدا واحدا.
وبالطبع اضطربت أعصابي من هذه الأفكار وبدأت أفكر كيف أرد علي هذا المخطط العدواني.
فكرت أن أنزل الي الشارع يوم الأربعاء صباحا واختطف بعض الأطفال من قراء ماجد وأقوم باحتجازهم عندي كرهائن ودروع بشرية حتي ترسل أحد مساعديك ليسحب الولاعات من الشقة.
لكني عدلت عن هذه الفكرة عندما أدركت أن احتجاز الرهائن مسألة غير انسانية. وفكرت بدلا من ذلك في مبادرة من عدة نقاط أتقدم بها اليك راجيا قبولها حقنا لدماء الرسامين العرب.
نقاط المبادرة:
يسمح للرسامين بالرسم في ماجد لمدة عام يتم خلاله تحويل كل المكافآت باسمك، كما يتم خلاله تأهيلهم لأعمال أخري مثل النقاشة أو الديكور أو تركيب قيشاني وسيراميك الحمامات.
يقوم الرسامون بتسليمك في نهاية العام كل ما يملكونه من أدوات الرسم تحت اشراف هيئة دولية ليتوجهوا بعد ذلك الي أعمالهم الجديدة.
أن يوافق الأستاذ مدير التحرير علي ارسال مكافأة نهاية خدمة عبارة عن »تي شيرت ماجد« لكل رسام، وأن يسمح لهم بالاجتماع مساء كل أربعاء في أحد مقاهي القاهرة ليقرأوا مجلة ماجد وهم يرتدون ال»تي شيرت«، وأن يسمح لهم بحرية الكلام وحرية تذكر الماضي ليقول أحدهم مثلا:
- فاكر الأيام الجميلة لما كنا بنشتغل في ماجد؟
فيرد آخر:
- كانت أيام.
أعتقد كفاية هزار لغاية كدة يا مصطفي تحياتي وشكري لك وتحياتي لأسرتك وأسرة ماجد.
وإلي اللقاء
الأخ الصديق الفنان مصطفي رحمة:
تحياتي وأشواقي لك وللأسرة وتحياتي لأسرة ماجد وكل عام أنت وأسرتك وأسرة ماجد بخير وسنة جديدة سعيدة ان شاء الله.
ومبروك دخول ماجد عامه الثامن.
ومبروك عليك تقدمك الفني الدائم، وأرجو أن تكون قد بدأت في تعليم أولادك رسم كسلان ونشيط وسماع بيتهوفن وعوض الدوخي حتي يلتحقوا بمؤسسة الاتحاد بعقد عمل خارجي وهم في سن السادسة. وذلك بدلا من دخولهم الحضانة.
هذا بالاضافة الي انني زرت مدينة بورسعيد قريبا فوجدت فيها قطعة واسعة من الأرض تصلح لاقامة بعض المشاريع الاستثمارية ففكرت أن يقوم أولادك بمشاركة أولاد كاليداري في بناء مدينة ملاهي باسم »نشيط لاند«. وهو مشروع غير مكلف لأنه لن يشبه بالطبع »ديزني لاند« بل ستكون ملاهي نابعة من تراثنا الأصيل. فلن يكون بها سوي المراجيح الخشبية واللب والسوداني والسميط والبيض ومشروب العرقسوس.
وسوف يكون هذا المشروع مفيدا لكل أطفال العالم الثالث لأنهم لم يتمرجحوا بما فيه الكفاية. وسوف يكون بجانب ملاهي »نشيط لاند« مدينة أخري باسم »كسلان لاند« وبالطبع سوف تكون مختلفة، فليس بها مراجيح أو أي ألعاب أخري.
بل دكك خشبية عليها شلت. لزوم الكسل والراحة. وأعتقد أنها سوف تجذب أعدادا هائلة من الزوار كل يوم. لأن العائلات التي تسافر الي بورسعيد لتشتري بعض الملابس تدوخ في اللف علي المحلات. وتصبح في حاجة الي الراحة بعض الوقت ولن تجد اذن أفضل من الراحة في كسلان لاند حيث الدكك الخشبية الرائعة والشلت المحشوة بالقطن. كما أن الأطفال الذين سيدخلوا نشيط لاند سوف يخرجوا دايخين من المراجيح. فيدخلوا كسلان لاند ليستريحوا علي الدكك. وطبعا لن ننسي موزة لانها سوف تدير البوفيه. وسيكون عملك بالطبع زق المراجيح لأنك شاب وصحتك كويسة.. أما أنا فسني لا يسمح إلا بالجلوس علي الكيس وجمع الفلوس وأنا قاعد.
إلي اللقاءالأخ الصديق الفنان مصطفي رحمة.
تحياتي لك وللأسرة الجميلة وتمنياتي لكم بالسعادة. وتحياتي الي كل الأصدقاء حولك. وأشكرك جدا علي شرائط عبدالوهاب، لقد ذكرني صوته الجميل بصوت بتهوفن عندما كان يغني زمان مع العوالم في شارع محمد علي. حتي نضج صوت وذاعت شهرته فانتقل ليغني في كباريهات شارع عماد الدين وأذكر أيامها انه كان في كل ليلة وبعد انتهاء وصلته الغنائية يركب الحنطور مرتديا طربوشه الأحمر الجميل ليتمشي في شوارع القاهرة والفتيات والشبان يتدافعون حول الحنطور هاتفين بص شوف بيتهوفن بيعمل ايه. فكان يلقي عليهم جنيهات من الذهب. ولم يكن الناس يعرفون وقتها انه أطرش ولا يسمع هتافاتهم، لكن مصر فقدته عندما استطاع الحصول علي عقد عمل خارجي ليغني علي مسارح ألمانيا. ويكسب آلاف الفرنكات كل ليلة. لكن الحمدلله أن عوضنا الله عنه بفريد الأطرش الذي لم يكن أطرش مثله. ثم محمد عبدالوهاب الذي استطاع أن يملأ الفراغ الذي تركه بيتهوفن.
أشكرك يا مصطفي وتحياتي وحبي لك وتمنياتي لك بمزيد من التقدم الفني.
المدهش ان صوت حجازي راح من ذاكرتي تماما ، وبقت صورته ، عندما اختفي في الرحلة الاخيرة ، تلاحقت الصور ، اختلطت بين ملامحه ، ونظرته المسافرة ، و شخصياته المرسومة بعناية رسام يستعير من الطفولة ارتباكها ، وعنادها معا.
اين ذهب صوت حجازي؟ كلماته ؟ نبرته؟
الذاكرة خائنة، اعرف لكن لماذا هرب الصوت وحده؟
يبدو لي حجازي هاويا للسير علي اطراف المدينة ، بينما يرسل من هذه الاطراف رسائل الي قلبها الفعال ، الفوار. رسائل عاشق صامت ، او متمرد يستخدم جسمه كله لا حنجرته فقط في اعلان التمرد.
ربما ستصبح حياته اشهر من اعماله لاجيال قادمة ، او ربما لا تكتمل حياة اعماله الا بسيرته التي يرفعها المريدون و العشاق الي مصاف الاساطير المعاصرة. للعزلة سحرها ، تبدو احتجاجا علي التورط في واقع لا يرضي المعتزل، لكن هذا ليس كل شيء عند حجازي ، الذي رأي عزلته ببساطة اكثر من المحيطين به.
ضحك حجازي نصف ضحكة وهو يحكي رحلة عودته من القاهرة الي طنطا ..»في سيارة النقل التي تحمل كل متعلقاتي الباقية. سألت نفسي: هل فشلت؟ استرجعت شريطاً عمره 50 سنة تقريباً.. وقلت: لا أنا خلصت«. 1
المعارك انتهت.
ولم يعد للمحارب مكان هنا في قلب القاهرة.
نعم رسام الكاريكاتير محارب ، وحجازي لم يكن رساما عاديا ، كانت رسوماته البسيطة حكاية شعبية ضد السلطة ، ليست سياسية تماما مثل بهجت عثمان ، ولا فلسفية تماما مثل اللباد ، لكنها كانت حكمة من نوع متوارث،تري العالم الحديث بحس نقدي يرتب العالم فيه من زاوية لاتري الزعيم بطلا ، ولا مخلصا ، ولا الها، ولا تري الفرد العادي موديل سابق التجهيز ، غواية حجازي هي الحكي ، بدرامية ، اكثر منها رمزية.
شخصياته ، بارتباكها العادي، وبوقوعها اسيرة الهة الاستهلاك ، اشرس الهة بعد الطغاة.
ابطاله تنبلة ، وازواج شرسون في سذاجتهم ،وخطوطه دائرية ، كأنها كرات بشرية ، ستتحول بعد لحظات الي جزء من الفراغ الشغوف بالحداثة ، ويعاديها في نفس الوقت ، يغواها و يشيطنها في ذات اللحظة .
مازلت احاول تذكر صوته : هل كان صوت محارب من زمن قديم؟
هل التقيته في استراحته؟
ماذا كان يمكن ان اسمع من رسام تنابلة الصبيان؟ هل توقعت ان يستعير صوتهم فجأة و اتعرف معه علي عالم الكسل اللذيذ؟
عملت في روزاليوسف ، مكانه الاليف، وهناك كانت حكاياته عن نشيط ينهي عمله قبل حضور الموظفين ، في الثامنة او التاسعة ينتهي ليبدأحياة جديدة ، اعجبتني طريقة الحياة لكنني لم انجح في تطبيقها.
اعجبتني ربما طريقته في الاستغناء ، مع تورطه في الحياة ، يحب الحياة ولا يلهث خلفها ، وهذا اعجبني ، وربما عقدت بيني وبينه محبة سعيت فيها الي ان اسافر اليه.
وكانت رحلتي اليه لا تخلو من شغف الي اقتحام العزلة.
2
نحن الآن في المسافة من طنطا الي القاهرة.. عم فؤاد معوض صاحب الكتابة الساخرة عن حياة نجوم السينما وراء الكواليس والشهير منذ السبعينات باسم»فرفور».. ومحمد جمعة.. صديقي الفنان والمصمم ...وأنا.. ثلاثة أجيال مختلفة في رحلة الي عالم حجازي.
فرفور كان الوسيط الذي أقنع حجازي باستقبالنا.. كانت له مصلحة في الوساطة.. تلبية لنداء الحنين الذي يلعب بقلبه وعقله كثيراً .. حنين الي أيام زمان.. وفن زمان.. ويحكي عن حجازي متبوعا بكلمة واحدة.. »..ياسلام....«... وحركة من الشفاة تعني التلذذ باسترجاع الصورة الهاربة.
أما جمعة فهو الجيل الاحدث حركته غواية تصوير فنان يري لوحاته في البيت منذ أن كان في الثامنة.
ثلاث رغبات في رحلة واحدة كنا نبحث فيها عن متعة كاملة.. زيارة حجازي.. والسفر.. وربما قليل من الفطير والعسل والجبنة في الطريق.
هناك قابلنا حجازي بملذات أكثر.. اقلها الفستق.. والبطارخ (قال لي: ».. كل منها إنها مقويات صحافة..«..). وأكثرها حكاياته.. هو الرجل الذي استقبلنا بجلباب رمادي وسيجارة في منتصفها.. وأحضان وقبلات.. رغم انها اول مرة بالنسبة لي أنا وجمعة.
رغم هذه الحميمية شعرت بسور شفاف يحمي به حجازي نفسه.. يختفي خلفه حتي عن أعز الأصدقاء من أيام القاهرة وحتي الآن.. حماية لنفس خجولة.. تخاف من اللمس القاسي.
هذا رغم أنه »مقاتل» في الرسم يستيقظ في السادسة ويذهب الي المجلة قبل السعاة.. ويرسم كأنه في مهمة حربية.. ثم يغادر المجلة قبل أن يأتي أحد من المحررين.. ليبدأ حياته علي هواه.
مقاتل.
ترك القاهرة. وعاد الي طنطا. تبدو بدانته ملحوظة. لكن نظرته الحادة تعيدك الي رشاقته الدائمة.. وخفة روحه.. وأولاً وقبل كل شيء الي غرام قبل النظر.
3
عندما قرر حجازي العودة ...حمل متعلقاته و اغلق الباب وسلم مفاتيح شقته (بالمنيل...) الي البواب ...ولم يطلب »خلو رجل«.
الاستغناء هنا يبدو اسطوريا في حكايات كان حجازي يتابعها عندما يسمعها وكأنه ليس بطلها.
يبدو حجازي خفيفا في رحلة العودة ، لا عائلة ، ولا زوجة ، ولا التزامات تجاه حياة تثقل كلما اجتهدت في اقتناء او امتلاك ملذاتها.
يحب حجازي مثلا النساء. ولا يخلو حديثه من قفشة هنا أو إشارة الي فتنة امراة أو المتعة المختفية في ثناياها.
لكنه يحب حريته.يتحرر حتي من الرسم. لا يترك الرسمة معه أكثر من الفترة اللازمة لإرسالها الي المطبعة أو الي البريد.. لا يتحمل لوحاته معلقة علي الحائط.. وفي بيته بطنطا لم تكن سوي أعمال علي الحرير للفنانة شلبية ابراهيم.. ولوحة لفنان سوري رسم فيها أبو زيد الهلالي.. وصورته عندما كان طفلاً...: »..شفتوا الصورة عاملة إزاي.. شفتوا أنا مخضوض قد إيه.. القميص ده كان بتاع أبويا ودابت ياقته.. ولم يكن هناك أفضل منه لاتصور صورة شهادة الثقافة..«.
سخرية.. من نوع خاص.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.