في فيلمه الروائي الأول، الذي ينافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي في دورته الثانية والسبعين (14 إلى 25 مايو/أيار الجاري) يتناول المخرج الفرنسي لادج لي الغضب الذي يعتمل تحت ما يبدو لنا أنه السطح الفرنسي الهادئ، يتناول حياة المهمشين في إحدى ضواحي باريس الفقيرة، وتعامل الشرطة معهم. لا يجمّل لي هؤلاء المهمشين، فمنهم المتطرف المتشدد، ومنهم اللص والمجرم، ومنهم أعين الشرطة والمتعاونون معها. كما أنه لا يجمل الشرطة، بل يظهرها تجبرها وبغيها. يبدأ الفيلم بمشهد بهيج، يحمل الكثير من الفخر والشعور بالمجد الوطني. صبي أسمر نحيل يلتف بالعلم الفرنسي، ويعدو مبتهجا لينضم إلى الجموع الغفيرة المهللة المتهللة قرب قوس النصر في باريس، بعد فوز فرنسا بكأس العالم عام 2018. هو مشهد ذابت فيه الفئات والطبقات والألوان، وسط السعادة الغامرة بفوز فرنسا بالكأس. وإن كان هذا المشهد هو الواجهة الناصعة للبنية الفرنسية، فإننا ننتقل بعده لنرى ما تخفيه هذه الواجهة من مظالم وظلم. يأتي عنوان الفيلم في إشارة لرواية «البؤساء» لفيكتور هوغو. إن كان الفيلم غير مقتبس عن الرواية، إلا أنه على صلة قوية بها، ففيلم لي تدور أحداثه في ضاحية مونتفرمي الباريسية الفقيرة، التي اتخذ منها هوغو مسرحا لأحداث روايته الملحمية. وكأن القرون لم تمر، والعصور لم تتبدل، فهذه المنطقة المهمشة الفقيرة الغاضبة، بقيت على حالها، وأصبحت موطنا للاجئين والفقراء ومن يطلبهم القانون، ومن تنساهم الدولة ومؤسساتها. «لا توجد نبتة سيئة ولا يوجد رجل سيئ، ولكن ثمة فقط زارع سيئ». بهذا الاقتباس يختتم لي فيلمه، الذي ربما يود به أن يشير إلى أن الضغوط البالغة والمظالم الفادحة التي يتعرض لها أهل هذه الضاحية الباريسية الفقيرة، هو ما يدفعهم للغضب والجريمة والكراهية. إنه فيلم يبدو متأثرا إلى حد كبير بفيلم «الكراهية» لماثيو كازوفيتس (1995)، وامتدادا له في التعبير عن هذا الاحتقان والغضب في المناطق الباريسية المهمشة. إنها محاولة من لي للسير على خطى فيلم كبير، ولتصوير تجبر الشرطة من جهة، وحنق المهمشين من جهة أخرى. يقدم لي فيلما لاهث الإيقاع متفجرا، وإن كان على إيقاعه السريع يبدو أطول مما ينبغي أحيانا، ويبدو كما لو كان يكرر ذاته أحيانا، ولكن بمزيد من العنف والحنق. خليط متفجر من الفقر والإحباط والجماعات غير المتناغمة ورغبة كل جماعة أن تفرض سطوتها على الحي، وكراهية الجميع المشتركة للشرطة، تنذر بتحويل أي خلاف إلى حمام دم. «أنا القانون»، هكذا يصيح ضابط شرطة مؤكدا سطوته على الشارع في حي مونتفرمي الذي يعج بالفئات المختلفة من الفقراء، الذين يعيشون في مساكن بائسة توفرها الدولة، ولكن القانون في نظر هذا الشرطي لا يعني العدل في أي حال من الأحوال، بل يعني فرض السطوة، وإن كان ذلك عن طريق البطش والعنف والتستر على جرائم الشرطة. إنه اليوم الأول لضابط الشرطة ستيفان (داميان بونار) في مونتفرمي، التي نُقل إليها مؤخرا. يبدو لنا ستيفان متعقلا رابط الجأش ملتزما بالإجراءات والقواعد التي يجب على الشرطة مراعاتها، كما يبدو متهيبا للعمل في هذه المنطقة الصاخبة التي تتفشى فيها الجريمة. يبدو ستيفان كما لو كان العين التي تقيم إجراءات زميليه اللذين أُلحق بالعمل معهما للتدرب على منطقة عمله الجديدة، والتعرف عليها. يشكل الثلاثة جزءا من شرطة مكافحة الجريمة في المنطقة. زميلا ستيفان هما غوادا (جبريل زونغا) الذي ينحدر من المنطقة، ويعرف أهلها وتقيم أسرته فيها، والذي رغم فهمه للتركيبة العرقية والسكانية والاجتماعية للمنطقة، إلا أنه تحت وطأة ضغط العمل يتجاوز القواعد الموضوعة لعمله، وينجرف نحو العنف. الضابط الآخر هو كريس (أليكسيس مانينتي)، الذي يفاخر بجنوحه للعنف ويباهي بعنصريته، ويسعى للتحرش بفتيات المنطقة، حين يفتشهن للاشتباه، بل إنه قد يفتش بعض الفتيات لمجرد التحرش بهن. تبدو رحلة ستيفان في سيارة الشرطة مع زميليه للتعرف على عمله الجديد، رحلتنا نحن أيضا إلى داخل هذا الحي وتركيبته الاجتماعية والعرقية المعقدة المتشابكة. مراهقون فقراء لا تستوعب الدولة طاقتهم فيعبثون في الشوارع والطرقات وسطوح البنايات، يفيض الكثير منهم إحباطا وغضبا، منتمون للجماعات الإسلامية المتطرفة ممن يطلقون لحاهم ويرتدون الجلباب، عائدون من «الجهاد» في الشرق الأوسط، لصوص ومجرمون، مهربو مخدرات، وأسر من الغجر تدير سيركا للحيوانات، وتتنمر على غيرها من الجماعات. هؤلاء بعض سكان المنطقة وأهلها. خليط متفجر من الفقر والإحباط والجماعات غير المتناغمة ورغبة كل جماعة أن تفرض سطوتها على الحي، وكراهية الجميع المشتركة للشرطة، تنذر بتحويل أي خلاف إلى حمام دم. أن تمتلك قدرا يسيرا من السلطة هو ما يمكنك من العيش في هذا الخضم من المظالم والفقر في هذه المنطقة البائسة. الكل يسعى لفرض سطوته على الحي، فالإسلاميون يحاولون فرض سطوتهم الدينية والاستقواء بقوتهم العددية، وغجر روما يحتمون بقوتهم الجسدية وعضلاتهم، والمراهقون يعتمدون على التكنولوجيا التي تمكنهم من الاحتفاظ بمعلومات قد تدين الشرطة. إنها شريعة الغاب التي تعم وسط تجبر الشرطة وتعاظم الشعور بالغبن الاجتماعي. الضغط يولد الانفجار وهذا ما تتصاعد إليه أحداث الفيلم. بطش الشرطة لا محالة من أن يؤدي إلى عنف مضاد. تتبدل الدفة، وبعد أن كانت الشرطة صاحبة السطوة والسيطرة، نرى اليد العليا للغضب العارم من مراهقي الحي. لا يحسم لي الصراع ويترك النزاع بين الجانبين، ونتيجته مفتوحين للتأويل. ولكن الحقيقة المؤكدة هي أن الصراع مستمر وأن المواجهات بين الجانبين لن تنتهي سريعا.