الشوارع الضيقة ببروكسل. وازقة الضواحى الفرنسية الفقيرة والأحياء الفقيرة المتاخمة للساحل فى مارسيليا وغيرها من المناطق المهمشة والمنسية بأوروبا، ظهرت عشرات بل مئات المرات فى افلام مهمة من انتاج بلجيكاوفرنسا فى السنوات العشرين الاخيرة. وكانت كفيلة بالتنبيه من المآسى التى نعانى منها الآن. للذى فى عينه نظر. اليوم مع تفجر قضايا العرب فى أوروبا، وفتح الباب أمام تحليل تفاصيل حياتهم وما يعانونه فى مجتمعات القارة العجوز، يبدو من الأهمية تذكر بعض من تلك الأفلام واظهار ما قدمته من استبصار لآلام.. يعتقد أن فيلم ( الكراهية) لماثيو كاثوفيتس على رأس قائمة الافلام التى قدمت صورة مقربة للضواحى الفرنسية التقليدية وما تعانيه من أزمات. إنها قصة عن الظلم الذى يتعرض له شباب المهاجرين مما يحولهم لطاقات سلبية ومنصات عنف متحركة. كل شىء قاس فى هذه الأماكن القاحلة التى لا تستطيع الأرواح معها الا أن تتصحر. كل الشخصيات تمارس رياضة كراهية بعضها البعض، ولا سبيل أمام اى منها الا الانفجار فى وجه بعضها البعض.. انه فيلم (ظاهرة) عن البؤس والألم والاحتكاك العنيف للشرطة مع شباب الضواحي.فيلم عن الغضب والضجر والخروج عن الصبر. الممثلون الثلاثة الرئيسيون ( سعيد تغماوي. فينسان كاسيل، هوبير كونديه) تجاوزوا التقليدية وكانوا أكثر من عظماء وأكثر من عاديين.قفزوا بأدوارهم الى آفاق الابداع الاستثنائي. ليجسدوا سينما صادمة بتلاحق لقطاتها ومونتاجها المتسارع واخراجها المركب. وبعد عشرين عاما من خروج هذا الفيلم، نستطيع ان نقول ان أحداثه مازالت تجسد الواقع الحالى فى مولينبيك البلجيكية وسان دونى الفرنسية وغيرهما. لكن هل كان الكراهية فيلما موضوعيا؟ لا بل انه ذاتى الى حد كبير، انه يحمل رؤية مخرجه أكثر مما يحاكى الموجود بنشرات الاخبار اليوم. وكاسوفيتس يؤكد الظلم الاجتماعى وأننا لا نولد بنفس الحظوظ والاقدار.أبطال الفيلم مختلفون عن الشباب بمثل عمرهم بالمجتمع الفرنسي، وكل منهم مختلف عن الآخر. وهناك من يعانى من المرض و من اليتم أو من جينات مضطربة. المهم انه لا يوجد تشابه بين أحد وجاره أو احد وشقيقه.و تلك الفروق هى التى تفجر الاحساس بالظلم. وبعد كل ذلك، يصعب على اى من الشخصيات الانعتاق من سجنهم والخروج من الضاحية بملء ارادته. انهم حقا شباب لكنهم مكبلون و مقيدون بأثقال الحياة المعقدة الصعبة بالضواحى الفرنسية. بعد عشرة أعوام من خروج ( الكراهية) ظهر لنا من بلجيكا فيلم آخر يعالج مشاكل الشباب العرب هناك بشكل كوميدي. إنه فيلم البارونات الذى أخرجه نبيل بن يادير ويحكى عن شباب يواجه صعوبات فى التواصل مع بعضه البعض ومع أهاليهم. البارون الأكثر طموحا هو (حسن)الذى يشغل وقته هو واصدقاؤه باضحاك الآخرين. لكن الضحك ليس مهنة بالنسبة لأبيه. وهو أيضا يعانى الامرين فى قصة حبه مع ماليكا منذ سنوات، وهى شقيقة صديقه منير الذى يريد ان يكمل حياته بارونا ويستمر بالحياة فى الحى لإضحاك الآخرين. ولكى تستقيم حياة حسن لابد ان يترك الحي، لكن هل يستطيع ذلك؟ مثل هذا النوع من الاحياء لا تستطيع تركه بل لابد أن تهرب منه. لا نستطيع ان نتحدث عن افلام المهاجرين والضواحى فى فرنساوبلجيكا بدون ان نتذكر فيلم (عدم الاندماج) للفرنسى فيليب فوكون الذى ولد بالمغرب.والاحداث تدور فى ضاحية ليلواز الفرنسية حيث يسيطر جمال على ثلاثة من المراهقين ويتحكم بهم لكونه أكبر منهم بعشر سنوات. وبفعل فهمه لضعفهم وقهرهم وانهزامهم أمام المجتمع يستجيبون له، ويصبحون أسراه ويطاوعونه فى كل ما يسوقهم اليه. وهو التمرد والعصيان والغضب ورفض مجتمعهم الاوروبى الذين يكتشفون فجأة انه عدوهم. ( بور) هى كلمة معروفة للمتحدثين بالفرنسية وهى الاحرف المعكوسة لكلمة عربي. واحيانا يقصد بها الاهانة والتقليل من الشأن. ومن اشهر الافلام التى استخدمت هذه الكلمة فى عنوانها الرئيسى فيلم (بور فى المدينة) الذى اخرجه جمال بن صلاح عام 2011. والاحداث ليست بعيدة عن المناطق التى نتحدث عنها فى الضاحية واخواتها. والاحداث تعالج كل الموضوعات الحساسة الموجودة بتلك المناطق: الذل الاجتماعي، الخوف من الآخر، تذبذب الشباب، والتصادمات بين الافكار والطباع. والمعالجة هى الاخرى تقف على حدود الكوميديا. على نفس المنوال، كان مخرج من اصول عربية يقدم معزوفته الانيقة ( الشاى فى حريم أرشميدس). انه مهدى شارف وفيلمه العذب الاشبه بقطعة حلوى ، انه مأخوذ عن روايته التى تحمل نفس الاسم. والحبكة تركز على قصة صداقة فى الضاحية بين شابين أحدهما من اصول جزائرية والآخر فرنسى قح. وقد استخدم شارف اسلوبا ( طبيعيا) جعل فيلمه يبدو كفيلم تسجيلى خاصة ان فيلمه خرج عام 1985 وكان من اول الافلام التى قدمت العائلة العربية المهاجرة بدون رتوش او ماكياج. صحيح ان المياودراما كانت الاسلوب المسيطر على هذا الفيلم مما جعلها تدفع المشاعر الى اقصاها، لكن هذا لم يمنع المتفاعلين مع الفيلم ان يروه واقعيا وحقيقيا ومنصفا خاصة فى تقديم الاجيال القديمة من المهاجرين العرب. الاخوان داردان هما اهم سينمائيى بلجيكا تقديما للمهاجرين والضواحى هناك. قائمة أفلامهم والتى دائما ما تتوج بالجوائز الكبرى بالمهرجانات، دائما ما تقدم تلك الموضوعات. ومن اشهرها فيلم ( الوعد) الذى تدور احداثه بضواحى مدينة لييج البلجيكية ويغوص فى موضوع الهجرة غير الشرعية الى اقصى مدي. والتركيز على شخصية ( ايجور ) الفتى فى الخامسة عشرة يقع ضحية والده المستغل للمهاجرين الاجانب. أحد هؤلاء هو مهاجر يضع ثقته فى ايجور لحماية اسرته الصغيرة لكن المهاجر يموت، ويجد ايجور نفسه فى مواجهة امر أكبر منه بكثير.ويصبح مسئولا عن ضياع الأسرة الإفريقية. لمزيد من مقالات احمد عاطف