خلص الناقد د.مجدي توفيق إلى أن الرواية المصرية في العقد الأخير تسعى في عدد منها إلى البحث أو البناء من خلال الذاكرة، فتأمل عددا منها، وانتهى إلى دراسة مطولة نشرها في كتابه الأخير "الذاكرة الجديدة.. مفهوم الذاكرة في روايات معاصرة في مصر". قد يحتاج الإنسان إلى أن يتجرد من ذاكرته، كي يتحرر من أوهامها، وينشئ ذاكرة جديدة. كما قد يستجيب لشعوره بأن كله يهرب منه، ويفقد الشعور بالأمان، وقت أن تسقط ذاكرته، فيسعى لإنشاء ذاكرة جديدة وبديلة. ينشىء عالمه الجديد البديل القائم على صور الإعلام المعاصر أو الصور المصنوعة، التي تطغى حتى على معرفتنا بالواقع. أما النص الأدبي فله ذاكرته التي وصفها الناقد بالذاكرة الأفقية والرأسية. الذاكرة الأفقية فهي المتولدة من تتابع النص، حيث كل جزء فيه يدخل في الجزء الذي يليه، مشكلا علاقة تعليقية وعلاقة استعادة..حيث تمضى الأولى ولا تعود، لتترك الساحة خالية للصور التالية دون أن تدخل أرض النسيان. اما الثانية فهي التي تلح صورة ما فتستعاد مرة أو مرات..وهو ما يعنى التكرار. ثم الذاكرة الراسية الذي يتولد عن التناص بين النص ونصوص أخرى تعيش في الذاكرة(من التراث أو غيره). كما للأدب ذاكرة متميزة هي ذاكرة الواقع وذاكرة الخيال. الأولى تتكون من صور شوهدت، مع صور أخرى مصنوعة تماثل الصور المشاهدة. لذا تعد صور الخيال طرفا من ذاكرة الواقع. والروايات التي عولت على ذاكرة الواقع، اتجهت إلى ما يسمى بالبيئات المهمشة أو العشوائية.فيها تبدو اللغة والبلاغة مختلفة..حيث الألفاظ المستبشعة أحيانا، استخدام العامية بكثرة، مع سيادة الحكاية اليومية الحياتية وكذا تعدد السارد، كما أن الوصف المتأني يبدو محدودا مع تشكيلات الفصحة المصكوكة. ثم الروايات التي عولت على الذاكرة الخيالية، تتجه نحو إنشاء عالم من الصور التخيلية، ولا تترك مساحة لانطبع الأشياء على الوعي..وهى غالبا تبدو متوافقة مع منطق الحلم، أو حلم اليقظة مع صناعة الصور البصرية التي تتجاوز صور البلاغة القديمة. هناك مقولة تؤكد أن "الذاكرة" ليست أرشيفا، لكنها طاقة للابتكار والخيال في ضوء تأويل جديد تجعل الخيال نفسه قوة ذهنية. كما تجل موقفين إزاء الذاكرة..الأول يراهن على مساحات جديدة للذاكرة، مصدرها البيئات الشعبية.. أي يعول على توسيع ذاكرة الواقع. والموقف الثاني يعول على ذاكرة الخيال، حيث تنشئ الذات عوالمها التي تحب أن تعيشيها. حدد الكاتب موقفين تجاه الذاكرة.. الأول ارتبط بالأدب الواقعي، حيث ظل الأدب العربي لفترة طويلة مشغول بربط الأدب بالمجتمع. فقد دارت المعارك الأدبية حولها، منها ما كان بين عبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم، كما ثارت بين طه حسين وعباس محمود العقاد. قال عبدالعظيم أنيس: "إن هناك مصرا أخرى، مصر التي يعيش فيها ملايين العمال والفلاحين والطلبة والموظفين، يعملون..."، ذلك عند تحليله لشخصيات روايات إحسان عبدالقدوس. كما بدت البيئات المتنوعة، مع كتابات أدباء النوبة، وإبراهيم أصلان، ويوسف السباعي، وقبله "طه حسين" في دعاء الكروان. في المقابل قدمت الأجيال الجديدة طرقا أخرى للحكى في مقابل البيئات والشخصيات التي يتعاملون معها. وان كانت البيئات الهامشية تعبيرا سياسيا بمعنى ما، ومع اعتبار الأدب الواقعي ركز على مفهوم الطبقية معتمدا على مبادىء أيديولوجية.. فان التناول للرواية الجديدة يبدو وكأنه يخلو من السياسة بالشكل المباشر. إذن هي المعالجة التي اختلفت. أما الموقف الآخر الذي يعول على ذاكرة الخيال، وهى بداية تختلف عن "تيار الوعي"، ذلك التناول الذي يتميز بميزتين تحدده وتعينه بعيدا عن الاعتماد على ذاكرة الخيال. أهم سمات تيار الوعي..أنه تقنية تختص بفيضان من صور، وأفكار، وانطباعات، متدفقة. وأيضا ربط تيار الوعي بالعادي والمألوف والبسيط، في مقابل البطولي والاستثنائي والعارض (وهو ما تبدى واضحا في روايات جيمس جويس. بينما الذاكرة الخيالية تتسع لتعبر عن شخصية مأزومة، مع بقاء السرد الخارجي متوازن. وقد تدفع بالنص إلى عالم من الصور المتخيلة، تفصله عن العالم المعاش. كما قد يستفيد الكاتب /الروائي بثقافاته هو وخبراته كإضافة موظفة إلى عالم الرواية. مع توظيف التأمل بوصفه تقنية سردية (روايات ميلان كونديرا ) . حدد الكاتب أن الفروق بين الكتاب أو النصوص، تلك التي وظفت ذاكرة الخيال، هو صورة الخيال الفاعل. وفى ختام الدراسة (الفصل الخامس)، خلص الكاتب إلى أن ذاكرة الواقع هي الذاكرة السائدة في الأدب العربي..قديمه وحديثه، أي ليس في النثر وحده بل في التراث الشعري العربي أيضا. لكن لم تغب ذاكرة الخيال (مع ذلك)، لكن بقيت مطوقة بمنطق الواقع. فالأدب الصوفي (مثلا)، ظاهره واقعي وباطنه خيال موار مستقل.. ظاهره لغة الناس والمألوف من الصور، وباطنه معان خفية تنتمي إلى عالم علوي لا يدرك بالحس المباشر. تلك المراوغة، علامة دالة تأطير الواقع دوما لمعطيات الخيال. انتهت الدراسة الجادة، ووعد كاتبها بمواصلتها لأعمال أخرى لم يشر إليها، صدرت خلال العقد الأخير، وهو ما قد يبشر برؤية خاصة وخصوصية الرواية العربية للاجيال الجديدة، سواء بمصر أو العالم العربي.