إن الناظر في الأدب التونسي المعاصر يلاحظ أنه قد تجاوز مرحلة التحسس وأصبح علي حال من النمو يمكننا معها أن نؤكد أن بعض النماذج فيه تضاهي مثيلاتها في الأدبين العربي والعالمي وتتفوق عليها. ومما يختص به المشهد الأدبي المعاصر في تونس: ازدهار الرواية: فقد أخذت الرواية تتربع علي عرش الإبداع الأدبي، ولنا أن نذكر هنا «حروف الرمل» لمحمد آيت ميهوب والدراويش يعودون من المنفي وشبابيك منتصف الليل لإبراهيم الدرعوثي والمؤامرة لفرج الحوار ودار الباشا لحسن نصر والنخاس لصلاح الدين بوجاه وهلوسات ترشيش لحسونة المصباحي ومتاهة الرمل للحبيب السالمي. ازدهار قصيدة النثر: والحق أن الشعر العمودي وإن وجد في محمد الغزي وجمال الصليعي خير مدافع حتي عاد إليه من كان متمردا عليه مناصبا إياه أشد العداء وأعني الطاهر الهمامي فإن المقبلين عليه قد قل عددهم في حين ظل للشعر الحر عشاقه من قبيل الميداني بن صالح ومحمد الغزي والمنصف الوهايبي وأولاد أحمد ومحيي الدين خريف، علي أن الظاهرة التي تسترعي الانتباه الإقبال علي قصيدة النثر علي نحو يظهر في كتابات سوف عبيد وحسين القهواجي والطيب شلبي، وفي هذا النوع من الكتابة سعي إلي خرق المألوف وكسر العادات القرائية التي تأسس عليها عمود الشعر وشعر التفعيلة. ازدهار الأدب النسائي: إذ أكدت بعض الأديبات قدراتهن من قبيل عروسية النالوتي ونافلة ذهب وبنت البحر وفضيلة الشابي وفاطمة سليم في حين ظهرت أسماء جديدة منها آمال مختار وعلياء التابعي ونجاة الورغي، وما هذه الحركة التي شهدتها الكتابة الإبداعية النسائية بتونس إلا صدي للمنزلة التي أصبحت تحتلها المرأة في المجتمع منذ الاستقلال والدور الذي أصبحت راغبة في الاضطلاع به في مجتمعها. صورة الوطن إن التحولات التي شهدها الأدب العربي الحديث والمعاصر قد انعكست علي الأدب التونسي وبخاصة الشعر التونسي، فمر من طور الكلاسيكية الجديدة إلي طور الرومانسية إلي طور الواقعية إلي طور الواقعية الاشتراكية. وبرصد صورة الوطن في الشعر التونسي الحديث نجد أنها مجال خصيب لدراسة هذا التطور، ورأينا أن النصوص الإحيائية أخرجت الوطن في صورة مثالية استخدمت لأدائها البلاغة القديمة المتوسلة بالتشبيه والازدواج والمحسنات البديعية والبيانية، ومن ثم كان الوطن بمثابة المثل الأعلي، فهو خارق للزمان والأحوال ولا يتغير وليس علي محبيه إلا أن يعيدوا إليه صورته الأصلية التي دنستها الأعراض الزائفة والذي ينبغي أن نزيل عنه الغبار لتعود إليه صورته الأزلية، ومن هنا فإن مستقبل الوطن ينبغي أن يكون نسخة من ماضيه، يقول الهادي المدني: أتري يعود المجد مجد بلادي/أم هكذا تبقي علي استعباد أما مع الحركة الطليعة تحولت صورة الوطن، فقد رفض أصحابها الشعرية القديمة المتوارثة والمضامين الجاهزة، ودعوا إلي أن ينفتح الشعر علي الحياة وأن يرصد أصوات الشارع، وبالتالي نزلت صورة الوطن عندهم من علياء الجمال التجريدي المطلق إلي حيز التجسيد، ومن ثم فإن وطنية شعراء الطليعة تتبع من ملاحظة الجوانب السلبية التي كانت يسكت عنها، وحب الوطن عندهم لا يعني تمجيده، بل يعني إخراج حقيقته وإن كانت بشعة من الكمون إلي الظهور، ويري بعض النقاد أن غياب الوزن والقافية وحضور العامة في هذا الشعر دليل علي انكسار التناغم في صورة الوطن القديمة. ولما كان الشعر تراكما فإن هذه الصور الثلاث قد اجتمعت في نص واحد هو آخر ما كتبه الميداني بن صالح وهو «الملحمة التونسية» وفيها تنوع بين الشعر العمودي والشعر الحر، وإبراز لماضي الوطن من خلال المراحل التاريخية الكبري التي مر بها. أما عن الكتابة السردية فإن الكتابة القصصية في تونس لم تكن حديثة العهد، بل تمتد جذورها إلي بداية هذا القرن، وهي بذلك تنخرط في المسار التاريخي العام الذي مرت به التجربة الإبداعية السردية المعاصرة عند العرب، فمنذ العشرية الأولي من القرن الماضي، نشر محمد صالح السويسي نصه القصصي الأول علي أعمدة الصحف السيارة شأنه في ذلك شأن كتاب روايات البدايات في المشرق العربي، ولذلك يميل بعض التونسيين المهتمين بفن القص إلي اعتبار «الهيفاء وسراج الليل» التي صدرت عام 1906 النص التأسيسي الأول رغم وقوعه فيما وقعت فيه روايات البدايات عند العرب من خروج عن الأهداف الفنية للكتابة القصصية، إذ تميز الخطاب القصصي في هذه المرحلة بنزعة أخلاقية إصلاحية، إذ تغلب الوعي الاجتماعي بضرورة الاستفادة من بعض أشكال الأدب لمواصلة الرسالة الاجتماعية المتمثلة في الإصلاح والدعوة إلي التنوير علي الوعي الفني بالمقومات الأساسية للنص القصصي ولذلك غير بعض النقاد نقطة الارتكاز هذه ليعتبروا كاتبا مارس الصحافة وكان أحد أبرز جماعة (تحت السور) وهو (علي الدوعاجي)،أبو القصة التونسية المعاصرة، وهو في الحقيقة لم تصدر له إلا مجموعة قصصية واحدة نشرت بعد وفاته بعنوان «سهرت منه الليالي». اتجاهات الكتابة القصصية ثمة اتجاهان عامان يتنازعان الكتابة القصصية في تونس وهما الاتجاه الواقعي والاتجاه التجريبي، أما عن الاتجاه الواقعي فيحتضن مجموعة من التيارات منها: الواقعية التسجيلية: ويطمح هذا التيار في الكتابة القصصية والروائية إلي أن يكون وفيا للواقع التونسي ويسعي إلي تحويل النص الأدبي إلي ما يشبه الوثيقة الاجتماعية والتاريخية، فهناك عادات وتقاليد يحرص الكتاب علي توثيقها خاصة في السنوات الأولي من الاستقلال والانخراط في مشروع تحديث المجتمع وأساليب حياته فكأن القاص التونسي يخشي أن تنمحي صورة لتونس القديمة عزيزة عليه فجاء القص لإعادة بناء الذاكرة الاجتماعية ومساعدتها علي التمسك بعادات وتقاليدها، ولئن تغلغل هذا التيار في القصة من خلال كل المجموعات القصصية التي نشرها (محمد الخموسي الحناشي) وهو أحد كتاب مجلة «قصص»، ونشرها حسن نصر، إذ اعتنت هذه القصص بتصوير عادات الزواج والمناسبات الشعبية وتصوير مظاهر الحياة التونسية في المدينة والريف وهذا قد يتجلي بصفة أوضح في الكتابة الروائية، إذ جاءت الروايات الأولي التي كتبها (محمد العروس المطوي): «حليمة» و«التوت المر» وثلاثية (محمد المختار جنات) كل هذا جاء ليؤرخ لأبرز الأحداث الوطنية التي عاشها الشعب التونسي في مرحلة التحرر الوطني، وقد تمادي هذا التيار في الأعمال الأولي التي أصدرها محمد صالح الجابري (يوم من أيام زمرا) وعمر بن سالم «واحة بلا ظل» فقد كانت الحركة النقابية وأوضاع العمال في منطقة المناجم كما كانت أوضاع الفلاحين، موضوعا رئيسيا في روية «واحة بلا ظل». الواقعية النقدية والواقعية الجديدة بيد أن هذا التيار سرعان ما تقلص حضوره بحكم تطور الكتابة القصصية في تونس، وتقلص عقلية المبدع الذي يريد أن يؤدي دور المؤرخ أو يشكك في الرواية الرسمية للأحداث التاريخية والاجتماعية، فظهر تيار جديد بلور شخصية قصصية وروائية جديدة، فقدت وفاقها الاجتماعي وتصالحها مع الواقع إذ وجدت نفسها أمام تناقضات الواقع وهي تسعي إلي فهمه وتحليله ونقده، ولعل أبرز من يمثل هذا التيار هو القصاص والروائي «حسن نصر» في أقاصيصه خاصة في روايتيه «دهاليز الليل» و«دار الباشا» ففي روايته الأولي يصف وضع المثقف في بيئة ريفية في مجابهة مجموعة من التناقضات الاجتماعية، وفي الرواية الثانية التي تبدو أقرب إلي السيرة الذاتية، يراجع البطل حياته ليجد نفسه في مواجهة الزمان والمكان اللذين يخضعان إلي تغيرات كثيرة فلا يستطيع فهمها، كما تعد أعمال محمود طرشونة سواء كانت القصصية «نوافذ الزمن» أو الروائية (دنيا -المعجزة) خير ما يجسد هذه الواقعية الجديدة في تونس ففي «دنيا» سعي المؤلف إلي فضح الواقع الاجتماعي من خلال العلاقة المتوترة بين رأس المال الجديد وعمال البناء ومن خلال حكاية شبه بوليسية لشاب يسعي إلي كشف الحقيقة والثأر لأبيه الذي قتل في حضيرة بناء، وفي «المعجزة» يقدس المؤلف قيمة الحب من خلال علاقة عجيبة بين رجل وامرأة، وقد ظهرت في السنوات الأخيرة روايات تنحو المنحي ذاته وأهمها رواية «رأس الدرب» لرضوان الكوفي، ففيها يتعرض الكاتب لنقد الأوضاع الاجتماعية في بعض قري الجنوب التونسي من خلال تحليل شخصية أحد النازحين إلي العاصمة يعود إلي أسرته ومن خلال رحلة العودة يصف السارد حياته العائلية والإطار الاجتماعي المحيط بها ناقدا حينا ومحتجا حينا آخر. الواقعية الاشتراكية: قليلة هي النصوص القصصية التي تنتمي إلي هذا التيار فلئن كان عمر بن سالم قد تعرض إلي أوضاع الفلاحين وأوضاع العمال في بعض أعماله الروائية، فإن شخصيته الروائية لا علاقة لها بالبطل الواقعي الاشتراكي. إذ هيمن لا شك النقد في هذه الأعمال ولكن التحليل الأيديولوجي لا يبدو واضحا، ولابد من ثلاثة شروط لتحقيق الواقعية الاشتراكية وهي: نقد الواقع، والتحليل الايدبولوجي لفهم الواقع والتبشير بالمستقبل، وهذه الشروط لا تتوفر مجتمعة في روايات عمر بن سالم ولعل أفضل ما يمثل هذا التيار الرواية التونسية «قمح افريقيا» لمحمد الباردي. الاتجاه الثاني هو الاتجاه التجريبي وهناك الاتجاه التجريبي في القصة القصيرة ويتميز هذا الاتجاه بكسر النمط الذي يحافظ علي المقومات الأساسية التي تتبني عليها الحبكة التقليدية، فقد أوغل الكتاب في التجديد والبحث عن أشكال جديدة غير متشابهة، وقد تميزت أقاصيص (عز الدين المدني) منذ بداية تجربته في الكتابة بالنزوع نحو التجريب فمجموعته «خرافات» عادت إلي التراث السردي العربي من خلال حكايات ألف ليلة وليلة لتقتبس أسلوبا في الحكي جديدا ولكنه اتسم بنزعة واضحة نحو تحطيم الحبكة التقليدية في القصة القصيرة وتجاوز الصورة التقليدية للشخصية القصصية لتمنح الراوي دورا بارزا في صناعة الأحداث، لكن يظل «محمود بلعيد» أبرز قصاص تجريبي ولعل أهم تجاربه هي «القط جوهر» ففي إحدي قصص المجموعة يصور العالم الذي تعيش فيه عائلة برجوازية من خلال عين قط. أما عن الرواية التجريبية: فتعد رواية «حدث أبوهريرة قال» لمحمود المسعدي هي الرواية التجريبية الأولي في الأدب التونسي الحديث لكنها صدرت متأخرة علي الرغم من أن أغلب فصولها قد نشرت منذ نهاية الأربعينات، والرواية اعتمدت أمرين أساسيين فهي أولا وظفت أسلوب الخبر كما عرفه العرب القدامي وجعلت من الوسيلة الأسلوبية الأساسية هي الحكي وثانيا اعتمدت تقنية تعدد الرواة، وفي نهاية الستينات كتب عز الدين المدني نصا روائيا ظل مفتوحا وأثار ضجة كبري وهو رواية «الإنسان صفر» وقد تعامل فيه كذلك مع اللغة تعاملا مغايرا عارض فيه القرآن ومستويات لغوية أخري مما يجعلنا نستنتج أن التجريب الروائي في تونس كان بالدرجة الأولي تجريبا لغويا ولئن ظل تأثير «الإنسان صفر» محدودا فإن تأثير «حدث أبوهريرة قال» أصبحت نواة لمدرسة في كتابة الرواية هي مدرسة محمود المسعدي. وبهذا يمكننا الوقوف علي المسار الذي مر به الأدب التونسي حتي تتشكل ملامحه الأساسية ونلاحظ منه ملاحظتين: أولا: إذ هذا الأدب يواكب التحولات ويستبقها في أغلب الأحيان وهذا مثال واضح علي الثقافة التي يظل الإبداع الأدبي دعامتها الأساسية ليس نشاطا هامشيا بل إسهاما فنياً في نشر القيم التي ينبغي أن يقوم عليها المجتمع. ثانيا: إن هذا الأدب من خلال انفتاحه علي تجارب الغير قد استوعب أهم مكتسبات الإبداع الأدبي.