يكفي أن تقرأ قصة واحدة لحسونة المصباحي, لكي تعرف كيف يعيش الانسان التونسي, وكيف يفكر, وما هي حكاياته وأساطيره الخاصة, كما لو أنك عشت في تونس عشرات السنين. بهذه الكلمات عبر أمير القصة القصيرة د. يوسف إدريس. عن إعجابه بكتابات حسونة المصباحي الروائي والقاص التونسي الكبير الذي عاش جزءا كبيرا من حياته في العواصم الكبري لكن اصوله البدوية ظلت صامدة في وجدانه وكتاباته. كلمات يوسف إدريس دفعتني الي لقاء هذا الأديب التونسي الذي عاد الي بلاده بعد غربة دامت عقدين قضاهما في ألمانيا, وتواكب اللقاء مع صدور طبعة جديدة لروايته هلوسات ترشيش في القاهرة, ورفضه للمركز الثاني لجائزة كومار أشهر جوائز تونس الأدبية. وفي أصيلة بالمغرب, حيث كان موسمها الثقافي ينبض بالحياة ووسط تجمع بشري من46 دولة, التقيت المصباحي في حوار تناول رواياته وقصصه وأشياء أخري. * حدثنا عن بداياتك.. وهل تأثرت بفترة الاعتقال؟ ** بدأت الكتابة قبل تجربة السجن بسنوات طويلة. وكان ذلك في نهاية الستينيات في القرن الماضي, اي عندما كنت في السابعة عشرة من عمري. وقد حصلت قصة لي بعنوان: صورة ابي علي جائزة القصة القصيرة في برنامج هواة الأدب بالإذاعة التونسية. ونشرت بعض القصص في ملحق العمل الثقافي الذي كان يستقطب المواهب الجديدة في جميع مجالات الكتابة. وفي تلك الفترة تأثرت كثيرا بالأدب الفرنسي الحديث متمثلا في كل من سارتر وكامو وجيد, وأيضا بالأدب الأمريكي متمثلا في همنغواي ومارك توين وفوكنر, أما في الأدب العربي, فكنت ألتهم بمتعة كبيرة روايات نجيب محفوظ وقصص يوسف إدريس وأذكر أن رواية الطيب صالح موسم الهجرة الي الشمال أحدثت رجة كبيرة في نفسي. فلما دخلت الجامعة مطلع السبعينات, انجذبت الي الحركات الماركسية واليسارية وانقطعت عن الكتابة متوهما أن السياسة قادرة علي حل كل المشاكل, وأصبحت اقرأ الكتب من الزاوية الأيديولوجية الخالصة. وفي عام1974, اعتقلت وأنا أتهيأ لتوزيع منشور سري. غير أني لم أمض في السجن غير اربعة أشهر اذ صدر في حقي عفو رئاسي. مع ذلك كانت تجربة السجن رغم قصرها, هامة للغاية إذ إنها سمحت لي بأن اكتشف نفسي, وأن اتأكد اني لست صالحا للعمل السياسي, وان السياسة مفسدة للأدب, وأن القراءة من الزاوية الأيديولوجية ليست نافعة. وعندما عدت الي الكتابة, حضرت في ذهني تجربة جيلي الذي عاش الأحلام والأوهام ودفع الثمن غاليا. واذكر ان البعض من الذين عرفتهم في سنوات الجامعة أمضوا سنوات طويلة في السجن رغم انهم لم يقوموا بأي عمل مسلح, بل أقتصر نشاطهم علي كتابة منشورات دعائية وتحريضية تتحدث عن الاشتراكية وعن الثورة. واظن أني رسمت صورة لخيبات أبناء جيلي في بعض من قصصي ورواياتي مثل هلوسات ترشيش والآخرون ووداعا روزالي * يصنفك البعض في زمرة الأدباء الصعاليك فهل تعتقد أن ميلك الي الكتابة الثورية سبب في ذلك؟ ** لعل تصنيفي ضمن الأدباء الصعاليك عائد إلي انني أرفض التخفي وراء الأقنعة, وأحب أن أقول بصوت عال ما أفكر فيه. كما أني أكره المجاملات والجدية المفتعلة, وأميل الي السخرية, والعبث, واللهو الجميل. غير أن هذا لا يعني أني متساهل مع نفسي. فأنا أحب الانضباط في العمل, واحترم المواعيد, ولا أتحمل الفوضي والكسل.إلا أن لساني السليط تسبب ويتسبب لي مشاكل كثيرة مع الآخرين, بل أفسد علاقاتي معهم اكثر من مرة, مع ذلك أفضل أن أظل كما أنا حتي النهاية. * أعتنقت الشيوعية ثم طلقتها بالثلاثة, فهل تركت الأيديولوجيا تأثيرها فيما أبدعت من روايات؟ ** في الروايات التي ذكرت مثل هلوسات ترشيش والآخرون ووداعا روزالي والتي تحدثت فيها عن خيبات أبناء جيلي, هناك إدانة واضحة وجلية للايديولوجيات اليسارية ولكل الأيديولوجيات التي تقسم العالم الي أبيض واسود. فالحياة متنوعة ومتعددة. وعلي الأدب الحقيقي أن يعكس هذا التنوع وهذا التعدد, وإلا فإنه لن يكون أدبا, بل تقريرا بوليسيا.. * في وداعا روزالي يجد القارئ كثيرا من ملامح سيرتكم الذاتية, فهل نعتبرها رواية أم سيرة؟ ** من المؤكد أن هناك ملامح من سيرتي الذاتية, لا في وداعا روزالي وحدها, بل في العديد من رواياتي. ففي النهاية يفضل المبدع الاستفادة من تجاربه, أو من التجارب التي عاشها من عاشرهم عن قرب أو عن بعد وأنا شديد الإعجاب بكتاب عرفوا كيف يضعون ملامح من سيرهم الذاتية في مجمل ما كتبوا مثل جيمس جويس وهمنجواي ومالرو ومالكوم لاوري صاحب رائعة فوق البركان. * أخترت المانيا لاغترابك علي عكس ما يفعل المثقفون المغاربة الذين يفضلون فرنسا فلماذا؟ المثقفون المغاربة يفضلون دائما التوجه الي فرنسا لمعرفتهم بثقافتها وبلغتها وبتاريخها. وأنا اخترت المانيا لكي أعيش تجربة أخري لم يعشها مثقفو بلادي, وقبل أن أذهب الي هناك, كنت قد قرأت الكثير عن المانيا, وعن الألمان, وعن التاريخ الألماني وعن الفلسفة الألمانية, وهناك تعرفت علي أدباء وشعراء ألمان لم أكن أعرفهم من قبل, كما تعمقت في قراءة أعمال من كنت أعرفهم مثل توماس مان الذي أعتبره واحدا من أعظم كتاب القرن العشرين, كما أني توصلت الي النفاذ الي خفايا الموسيقي الكلاسيكية, والفنون التشكيلية. وزرت العديد من المتاحف الكبيرة التي تحتوي علي كنوز فنية عظيمة. وتعرفت علي نساء ورجال رائعين, ومعهم تقاسمت الحلو والمر, وأدركت من خلالهم المعني الحقيقي للحب والصداقة, * رفضكم للمركز الثاني لجائزة كومار2010, و صف بأنه يدل علي غرور وتضخم الذات فما ردكم. ** أن يكون هناك جائزة أدبية مثل جائزة كومار فهذا شي جيد لكن اللجنة التي تشرف علي هذه الجائزة تحولت الي عصابة تحكم علي الناس من خلال المصالح, والعلاقات ولجنة سنة2010 كانت أسوأ اللجان وجميع أفرادها حاقدون وسيئون انسانيا, وأدبيا. لذلك رفضت جائزة لجنة التحكيم. وقد ساند رفضي كثيرون لأنهم أعتبروه صفعة قوية لاناس وأبوا علي ترسيخ الزيف في الأدب والحياة. * قسم كبير من حياتك عشته في عواصم ومدن كوزموبوليتانية, ومع ذلك ركزت علي البدو في أدبك؟ ** مجموعتي الأولي حكاية جنون ابنة عمي هنية والثانية السلحفاه تتضمنان قصصا تعكس حياة نساء ورجال عاشرتهم عن كثب في بادية القيروان حيث ولدت ونشأت وخطوت خطواتي الأولي في الحياة, وكنت أول كاتب تونسي يهتم بالريف في قصصه إذ أن أغلب الكتاب الأخرين اهتموا بالمدينة وكان جل ابطال قصصهم في البرجوازية الصغيرة, أما أبطال قصصي فمزارعون وبدو وبدويات فقراء, يواجهون محن الحياة بصبر وجلد, ولهم مفاهيم الخاصة للحب والموت وغير ذلك, وأردت أن أكتب تاريخهم المنسي والمهمل. وقد حازت القصص التي كتبتها عن حياة البدو في حياتهم وترحالهم اعجاب الكثيرين من القراء في تونس وخارجها وحتي في المانيا.. وهذا يدل علي أنني كشفت في تلك القصص عن عالم مجهول وتعرفت بأناس لم يعرف بهم أحد قبلي. * قال الكاتب الجزائري الطاهر وطار في حوار مع صحيفة لبنانية إن تونس ليس بها روائيون فما تعليقك؟ ** يستطيع الطاهر وطار أن يقول ما يشاء لأني أعرف جيدا أنه لا يقرأ إلا نفسه ولا يملك اي إطلاع علي الثقافة التونسية الراهنة ولعله يعرف شيئا عن الثقافة التونسية ايام كان طالبا في جامعة الزيتونة في الخمسينيات في القرن الماضي أما الآن فهو لا يكاد يعرف شيئا عنها. * في هلوسات ترشيش تتمازج الغربة مع المنفي, ويختلط الحلم بالواقع, ونلمح خيبات الحياة تصور في رؤية ضبابية عالما مضطربا فما سر هذا الاكتئاب والحزن الذي يغلف الرواية؟ ** لقد سبق وأن ذكرت أن هلوسات ترشيش تعكس خيبة جيل, جيلي الذي انجذب الي الأحلام والحلم بالثورة, ليجد نفسه في نهاية المطاف سابحا في الفراغ, من هنا القتامة التي تلف الرواية من البداية الي النهاية * في روايتك الآخرون نجد مجموعة رواة لا سارد واحد فلماذا تعدد الرواة؟ ** روايتي الآخرون كتبتها في المانيا نهاية التسعينيات من القرن الماضي, وكانت ثمرة تجارب عديدة لي ولآخرين عاشرتهم من بلدان اوروبية مختلفة من هنا الحضور للعديد من الشخصيات والأماكن. ومن هذا التنقل بين الحاضر والمستقبل, ومن هنا ايضا غياب البطل الواحد, لكن هذا الحال في العديد من الروايات العربية والشخصيات كلها متساوية.. وهذا ما جعل هذه الرواية متعددة الأصوات* كنتم أول من اذاع حوارا مع أمير الرواية الراحل نجيب محفوظ عقب إعلان فوزه بجائزة نوبل فما قصة الحوار وانطباعكم عن محفوظ؟ ** في خريف عام1988, ذهبت الي القاهرة بصحبه فريق من التليفزيون الألماني لإنجاز فيلم وثائقي عن الكاتب الكبير نجيب محفوظ وكان لقائي به للمرة الأولي في مدينة الاسكندرية حيث كان يقضي عطلته الصيفية. وجدته في مقهي علي الكورنيش, يشرب قهوته السادة بتأن وكان أنيقا ودودا وبشوشا للغاية, بعدها صرت التقي به يوميا في القاهرة سواء في مقهي علي بابا أو في أماكن اخري واذكر أني أجريت معه حوارا مطولا أجاب فيه عن كل الأسئلة من دون أن يعترض علي أي واحد منها, وعندما طرحت عليه السؤال التالي: انت لم تسافر ولا مرة واحدة خارج مصر؟ كيف تتخيل المدن التالية: روما, باريس, لندن, برلين.... ابتسم وقال لي: هذا سؤال يعجبني كثيرا, ما اتذكره ايضا هو أنه كان هادئا طوال الوقت ولا مرة واحدة تكلم عن الآخرين, أو أظهر ما يدل علي الكبرياء أو الاعجاب بالنفس كان رجلا عظيما بمعني الكلمة وكنا قد انتهينا من انجاز الفيلم لما اعلنت وكالات الانباء ان جائزة نوبل للآداب منحت لنجيب محفوظ وصلني الخبر وأنا تحت الدش في فندق هيلتون النيل فرحت ارقص من الفرح كالمجنون. * كيف ترون مستقبل الرواية العربية بعد غياب جيل العمالقة مثل محفوظ, الطيب صالح, وأميل حبيبي؟ من المؤكد ان غياب العمالقة خلف فراغا كبيرا لكن هناك تجارب جديدة تبشر بأن الرواية العربية سوف تشهد تحولات مهمة في السنوات القليلة المقبلة