فتحت الدراسات العرفانية أبوابا جديدة لمقاربة النص الشعري وضخت في مبحث الاستعارة روحا جديدة تكشف عمق الصنعة الشعرية وتكشف عوالم الكتابة الشعرية ومراميها. فدراسة الاستعارة تجاوزت طالعها التقليدي البلاغي واتسعت و«لم تعد ظاهرة لغوية ناتجة عن عملية استبدال أو عدول عن معنى حرفي إلى معنى مجازي، بل هي عملية إدراكية كامنة في الذهن تؤسس أنظمتنا التصورية وتحكم تجربتنا الحياتية» على حد تعبير محمد الصالح بوعمراني في كتابه «دراسات نظرية وتطبيقية في علم الدلالة العرفاني» الذي يعد من أهم المراجع العربية في هذا المجال. فالاستعارة لم تعد تجري في لفظة أو صفة أو مشهد، ولكنها أصبحت نوعا من المزج بين عالمين مختلفين وإسقاط أحدهما إسقاطا غائيا على الآخر، فالمعنى لا يرد من خلال معجمه وأدواته المتداولة، بل من خلال لغة وأشياء ومعنى أو صورة أخرى. فالنص الشعري يقوم على بنية استعارية تتوزع في مختلف مفاصله. من هذا المنطلق نقارب ديوان «الرائعون مروا من هنا» للشاعر الحسين الجبيلي، باحثين في بعض مظاهر الاستعارات التصويرية التي اشتغل عليها الشاعر، ونهل منها وتكرر حضورها، آملين التطرق إلى دلالاتها ومعانيها. وسنقصر بحثنا على ثلاث استعارات رئيسية بثها الشاعر وبدت مرجعا لتصويره وتخييله الشعري، ولاحت مظاهرها في مختلف القصائد. فنتابع الشاعر ممتزجا بالنبي والرحالة والبحار وهي صور تتداخل بدورها. الشاعر النبي: لقد نهل الشعر العربي قديما وحديثا من صورة النبي وتقاطع معها. وليس الأمر من باب المجاز اللغوي، أو من باب ادعاء النبوة مثلما يشيع ذلك المناوئون لهذا التوجه، وهو ما أنتج صداما بين الشعر العربي والسلطة الدينية وتنكيلا لحق عشرات الشعراء العرب القدماء والحديثين (المعري/المتنبي/درويش إلخ)، بل هو محاولة لتوظيف ما تتيحه شخصية النبي وسيرتها من مجاز، وما تحمله من إيحاء. فالشعراء يغمسون ذواتهم بملامح من سير الأنبياء لما توفره من خوارق ومعجزات، وهو ما تورده قصص الأنبياء في القرآن وفي النصوص الدينية الأخرى، فمنهم من أسرى إلى السماء ومنهم من شق الصعاب، ومنهم من اخترق البحار، ومنهم من كلم الطير إلى غير ذلك من القصص الديني. هذا الاشتغال على مزج شخصية الشاعر بشخصية النبي يتردد في ديوان حسين الجبيلي فتتقاطع ذات الشاعر مع سيرة النبي، وينسب لنفسه فعل النبوءة وما يرافقها من مكابدة لصعوبة حمل الرسالة والمعاناة الشديدة من المناوئين وما يظهر فيها من رؤى ومعجزات: وحدي أكابد ما يسوء نبوءتي وتجيء من صدق الرؤى أسبابها فالشاعر يلتقط في هذا البيت على سبيل المثال صورة النبي في صراعه مع قومه وفي رؤاه الاستثنائية وما كشفه له الإله وهو ما تردد في بيت آخر: سرا أكاشف ما تقول نبوءتي ما أفلح العراف وهو يهابها ومن مظاهر استعارة صورة النبي توظيف المعجزات النبوية مثل عصا موسى: «هذي عصاك تديرها متوثبا» ونذكر في هذا المجال قيام بعض الأبيات على الطابع الإعجازي وحضور الفعل الخارق: «الريح تحملني غربا وتزرعني في سهل أندلس جرحا له صنم « ومجمل الحديث في هذا العنصر أن الشاعر يوظف صورة النبوة، أملا في أن ترسم ذاته ومعاناته وطموحاته البعيدة من جهة، وأن تبث حركية في شعره. والحقيقة أن استعارة صورة النبوة تتقاطع بدورها وتتكامل مع استعارة أخرى وهي استعارة صورة الرحالة، وهي استعارة واسعة في هذا العمل وتتفرع عنها صور كثيرة. الشاعر الرحالة: تتواتر قي الديوان مفردات معجم السفر والرحيل محيلة إلى حضور صور الرحالة والمسافرين في ذهنية الشاعر واتخاذها بؤرة تصاغ بواسطتها الصور. فالشاعر يمزج صورته بصورة الرحالة المسافر في البر، وهو يشق الصحارى والمساحات الشاسعة، وحينا يستعيد صورة المبحر في البحر. فيبدو الشاعر مسافرا في الصحارى والبيد: «وتمردت سفن الهزائم فجأة وعوت بأصقاع الفلاة ذئابها» وتحضر الخيول: لا الحب يخبو كي تريح خيولنا عبثا أعاتبه فيهزم سؤددي فالشاعر يستعير صورة الرحالة العربي فارسا يشق البيد وهو بذلك يؤصل هذا الرحيل في الفضاء العربي التقليدي، فيغدو رحيلا في مساحات حضارية عربية متنوعة، ورحيلا في الذاكرة العربية فيستعيد بلقيس والزهراء والأندلس والخنساء. ويتصل الرحيل بأسئلة الراهن والوطن فيغدو رحيلا ومكابدة وعشقا للوطن: مازلت في سفر أعانق وجهتي هذي البلاد لكم يعز ترابها وحينا يتصل الترحال بخطاب غزلي ويرتبط بعوالم الحب والعشق: تلك القلوب على ترحالها رقدت هل عاد وجهك من بيداء غربتنا ويصير بذلك ترحالا عاطفيا وجدانيا وضياعا وجدانيا: كالطفل يحتضن النهد ويبتسم أم تاه دأبك في أوصال عاشقة في كحلها يثب الخسران والندم فيبدو الرحيل حضاريا وشعريا وإنسانيا ولعل هذا دفع الناقد منصور الشتيوي إلى القول بأن هذه النصوص «تأخذك أيها القارئ في رحلة متعددة الأبعاد رحلة في الزمن، فتجدك إزاء شاعر منغرس في تربته العربية أصيل بمعنى الانتماء الأدبي الحضاري، ورحلة في المكان فتكون إزاء مسافر يعشق البلاد ووطنه ووطن القصيد متيما بالرحيل». هذه الاستعارة تلتقي بدورها مع استعارة أخرى وظفها الشاعر وهي استعارة البحار فيصبح رحيل الشاعر ممتدا في التاريخ وفي البر وفي البحر. الشاعر البحار: تحضر صورة البحار والبحر بكثافة، فيجعل الشاعر من نفسه بحارا يخوض عباب البحر ويقود السفن ويخوض في البحر: ما ضر لو رقصت للريح أشرعتي دهرا وتنطلق الأشعار والنغم وتصبح حكمة الشاعر حكمة بحار عارف بالبحر: فليس يعلم جوف البحر سابحه تغدو النجاة إذا ما تاه تخمينا وليس يركب فلك فوق طاقته ولا تكابر الشجار بوادينا ولكن هذه الحكمة تستحيل خطاب فخر وشجاعة مثلما يضيء ذلك سطرها الأخير. وتمزج هذه الاستعارة بدورها بين صورة البحار والعاشق فتصبح خطابا غزليا فيمتزج البحر والعشق ويصبح الإبحار تأملا عاطفيا في الجمال وفعلا غزليا: أبحرت في عينيك افترش الهوى فأضعت قلبي في دروب مقفرة نخلص في الختام إلى أن التخييل الشعري عند حسين الجبيلي يقوم على إخراج الشاعر من فضاء اللغة إلى فضاءات أخرى، فتتقاذفه فضاءات مختلفة فهو يجول في فضاء الذاكرة والتاريخ وفضاء القداسة، ويشق البر والبحر لينسج رحلة في عالم الكلمة، وليؤثث نصا شعريا غنيا بالصور والمعاني الشعرية، وينهل بالقدر الأكبر من الشعر العربي القديم في لغته وبناه التركيبية والإيقاعية وفي نصوصه الغائبة.