تكريم طالبين بجامعة عين شمس لحصولهما على جائزة بمسابقة عمرانية    مشروعات عملاقة تنفذ على أرض أشمون.. تعرف عليها    الملاذ الآمن يتألق من جديد.. ارتفاع ب أسعار الذهب مع تراجع الدولار وتصنيف «موديز»    فلسطين.. الطائرات الإسرائيلية تشن 10 غارات على شرق غزة وجباليا شمال القطاع    نتنياهو: الحرب يمكن أن تنتهي غدا إذا تم إطلاق سراح الرهائن المتبقين    أحدها لم يحدث منذ 2004.. أرقام من خسارة ليفربول أمام برايتون    لحل أزمة استقالة كامل أبو علي.. جلسة طارئة مع محافظ بورسعيد    صيام صلاح مرة أخرى.. ترتيب هدافي الدوري الإنجليزي الممتاز بعد خسارة ليفربول    أحمد دياب: إيقاف النشاط أمر غير وارد    عاجل| عرض خليجي خرافي لضم إمام عاشور.. وهكذا رد الأهلي    الأهلي والزمالك.. من يتأهل لنهائي دوري السوبر لكرة السلة؟    نزاع بشأن وصية.. محامي حفيد نوال الدجوى يكشف مفاجآت جديدة في واقعة السرقة    نفوق 10 آلاف دجاجة.. 7 سيارات إطفاء للسيطرة على حريق بمزرعة دواجن بالفيوم- صور    الأرصاد تُحذر: شبورة ورياح مثيرة للرمال والأتربة على هذه المناطق اليوم    حبس شاب متهم بالشروع في قتل آخر بالعياط    إصابة 3 أشخاص في مشاجرة بسبب خلافات الجيرة بسوهاج    الإفتاء: لا يجوز ترك الصلاة تحت اي ظرف    فضل حج بيت الله الحرام وما هو الحج المبرور؟.. الأزهر للفتوى يوضح    محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل ويشدد على سرعة الإنجاز (صور)    سيلان الأنف المزمن.. 5 أسباب علمية وراء المشكلة المزعجة وحلول فعالة للتخفيف    رئيس شعبة مواد البناء: لولا تدخل الحكومة لارتفع سعر طن الأسمنت إلى 5000 جنيه    وسام البحيري يعلن مفاجأة ببرنامجه "من تراثنا الإذاعي" بإذاعة القرآن الكريم    جيش الاحتلال يعلن مقتل رقيب وإصابة اثنين آخرين في عملية عربات جدعون    أحمد كمال صاحب دور المجنون ب إعلان اتصالات: مكناش نقصد نزعل الزملكاوية والأهلي عشق (فيديو)    «ليست النسخة النهائية».. أول تعليق من «الأعلى للإعلام» على إعلان الأهلي (فيديو)    سفير مصر في بروكسل يستعرض أمام البرلمان الأوروبي رؤية مصر تجاه أزمات المنطقة    منافس الزمالك في ربع نهائي كأس الكؤوس الأفريقية لليد    إغلاق 7 منشآت طبية مخالفة و7 محال تجارية فى حملة بقنا    هشام زكريا: الأهلي الأفضل في أفريقيا.. وتدريب الزمالك شرف كبير    وزير الاستثمار يتوجه للعاصمة الألمانية برلين لتعزيز العلاقات الاقتصادية المشتركة بين البلدين    4 أبراج «زي الصخر».. أقوياء لا ينكسرون ويتصرفون بحكمة في المواقف العصيبة    استشهاد 10 فلسطينيين بينهم أم وأطفالها الستة في قصف للاحتلال على قطاع غزة    ترامب يوقع مشروع قانون يجعل نشر الصور الإباحية الانتقامية جريمة اتحادية    سلطات فرنسا تعلن مصرع مهاجر وإنقاذ أكثر من 60 آخرين فى بحر المانش    توريد 178 ألف طن من القمح المحلي في كفر الشيخ    هل يوجد في مصر فقاعة عقارية؟.. أحمد صبور يُجيب    بعد نجل محمد رمضان.. مشاجرات أبناء الذوات عرض مستمر في نيو جيزة| فيديو    رسميًا بعد الانخفاض.. سعر الدولار مقابل الجنيه اليوم الثلاثاء 20 مايو 2025    عليك إعادة تقييم أسلوبك.. برج الجدي اليوم 20 مايو    تامر أمين ينتقد وزير الثقافة لإغلاق 120 وحدة ثقافية: «ده إحنا في عرض مكتبة متر وكتاب»    "يا بختك يا أبو زهرة".. الصحفي محمد العزبي يكشف تفاصيل وقف معاشه بعد بلوغه ال90 عاما    حدث بالفن | حقيقة إصابة عبدالرحمن أبو زهرة ب "الزهايمر" وموعد حفل زفاف مسلم    موعد نقل القناع الذهبي لتوت عنخ آمون إلى المتحف المصري الكبير    أستاذ علاقات دولية: الاتفاق بين الهند وباكستان محفوف بالمخاطر    ما مصير إعلان اتصالات بعد شكوى الزمالك؟.. رئيس المجلس الأعلى للإعلام يوضح    شعبة المواد الغذائية تكشف 4 أسباب لعدم انخفاض أسعار اللحوم مقارنة بالسلع التموينية (خاص)    سامي شاهين أمينا للحماية الاجتماعية بالجبهة الوطنية - (تفاصيل)    جامعة حلوان تنظم ندوة التداخل البيني لمواجهة تحديات الحياة الأسرية    وفد قبطي من الكنيسة الأرثوذكسية يلتقي بابا الڤاتيكان الجديد    سرعة الانتهاء من الأعمال.. محافظ القليوبية يتفقد أعمال تطوير مستشفى النيل    وزير العمل: قريباً توقيع اتفاقية توظيف للعمالة المصرية في صربيا    هل يجوز للمرأة أداء فريضة الحج عن زوجها أو شقيقها؟.. أمينة الفتوى: هناك شروط    «للرجال 5 أطعمة تحميك من سرطان البروستاتا».. تعرف عليهم واحرص على تناولهم    خالد الجندي: الحجاب لم يُفرض إلا لحماية المرأة وتكريمها    مزارع الدواجن آمنة إعلامى الوزراء: لم نرصد أى متحورات أو فيروسات    ما حكم صيام يوم عرفة للحاج وغير الحاج؟    رئيس جامعة دمياط يفتتح المعرض البيئي بكلية العلوم    موعد امتحانات الشهادة الإعدادية بالمنيا 2025.. جدول رسمي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصيدة مَنْ يُدَحْرِجُ ..عَنْ قَلْبِي .. الضَّجَرَ
نشر في شموس يوم 02 - 05 - 2018

الانزياحُ والصُّورُ الفنّيّةُ في قصيدة مَنْ يُدَحْرِجُ ..عَنْ قَلْبِي .. الضَّجَرَ
لآمال عوّاد رضوان
بقلم النّاقد: عبد المجيد عامر اطميزة
بوابة شموس نيوز – خاص
أوّلًا: النّصّ
مَنْ يُدَحْرِجُ.. عَنْ قَلْبِي.. الضَّجَرَ/ آمال عوّاد رضوان
هَا رُوحِي
تَغْسِلِينَهَا .. بِأَحْلَامِكِ الْوَرْدِيَّةِ
وَمَغَاوِرُ خَيْبَتِي .. تَطْفَحُ
بِغُرْبَةٍ.. بِرُعْبٍ.. بِفَرَاغٍ!
أَنَا الْمَلْهُوفُ لِرَصَاصَةِ حُبٍّ
يُشَنِّجُنِي دَوِيُّهَا
أَنَّى لِي أَتَّكِئُ.. عَلَى جَنَاحِ فَرَاشَة؟
*****
لَعْنَةٌ رَشِيقَةٌ
تُهَادِنُنِي .. تُنَاوِرُنِي
أَتَصْلِبُنِي
عَلَى شِفَاهِ سَحَابٍ دَمَوِيٍّ .. يَتَرَبَّصُ بِي؟
*****
أَيَا صُعَدَاءَ عِشْقِي
بَوْحِي.. وَرْدٌ جَرِيحٌ
عَلَى سِيَاجِ رَبِيعِكِ
لَا يَحُدُّهُ نَزْفٌ
وَلَا يَلُفُّهُ وَدْعٌ .. وَلَا حَتْفٌ!
وَأَنْتِ وَدْعِي وقَدَري!
أَنْتِ وَدَعِي وَسَكَنِي!
كَنُبُوءَةٍ وَادِعَةٍ .. فِي تَمَامِ الْأَزْمِنَةِ
تَبْعَثِينَني شَهْوَةً .. فِي لُغَتِكِ الْيَانِعَةِ!
*****
أَيَا مَعْصِيَتِي الْمُبَارَكَةُ
رُحْمَاكِ
أَطْفِئِي يَأْسِي.. بِنُورِكِ الْمُقَدَّسِ
لِأَظَلَّ أَجْمَعُ ظِلَالَكِ
أُلَمْلِمُ رَعَشَاتِ ضَوْئِكِ
لِأَسْتَظِلَّ بِقَدَرِي!
أَعِدِّي مَائِدَةَ الْحُبِّ.. لِثِمَارِ حَنَانِي
اِخْلَعِي عَنِّي مَنْفَايَ
وَأَلْبِسِينِي وَجْهَكِ
لِأَنْضُجَ .. بِحَنَانِكِ
لِمَ أَتَكَدَّسُ .. فِي مِرْآةِ جَبَرُوتِكِ
وَالْبَرْدُ يَحْطُبُ لَيْلِيَ
بِالْمَرَاثِي وعَتْمَتِكِ؟
*****
هَا صَبَاحِي ذَابِلٌ
يَهُشُّ أَنِينَ لَيْلِي .. بِزَفَرَاتِكِ
أُلَامِسُ قَلْبَ السَّمَاءِ
وحَيْثُنَا
عُيُونُ الْمَلَائِكَةِ .. تَسْتَفِيضُ رَحْمَةً
وَأَتَحَرَّقُ عَارِيًا
إلَّا .. مِنْ هُشَاشَةِ رَجَاء!
*****
بِوَحْشَةِ ضَوْئِكِ الْفَائِرِ
أَرْسمُنَا .. دَوَائِرَ تَتَحَالَقُ
وَ.. أُحَلِّقُ حُرْقَةً
أَ~ تَ~لَ~وَّ~ى
أَ ~ تَ~ لَ~ وَّ~ عُ
فِي قَفَصِ النِّسْيَانِ!
ثانيًا: التّحليلُ الأدبيُّ
"مَنْ يُدَحْرِجُ..عَنْ قَلْبِي.. الضَّجَر/ هَا رُوحِي/ تَغْسِلِينَهَا.. بِأَحْلَامِكِ الْوَرْدِيَّةِ/ وَمَغَاوِرُ خَيْبَتِي.. تَطْفَحُ/ بِغُرْبَةٍ.. بِرُعْبٍ.. بِفَرَاغٍ! /أَنَا الْمَلْهُوفُ لِرَصَاصَةِ حُبٍّ/ يُشَنِّجُنِي دَوِيُّهَا/ أَنَّى لِي أَتَّكِئُ.. عَلَى جَنَاحِ فَرَاشَة؟"
العنوان: "مَنْ يُدَحْرِجُ ..عَنْ قَلْبِي .. الضَّجَر؟"
تستهلُّ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان نصَّها بتناصٍّ دينيٍّ مأخوذٍ مِن الإنجيل، فالتّناصُ هو تشكيلُ نصٍّ جديدٍ مِن نصوصٍ سابقةٍ، وخُلاصةٌ لنصوصٍ تَماهتْ فيما بينها، فلم يَبقَ منها إلّا الأثر، ولا يمكنُ إلّا للقارئِ النّموذجيّ أن يكتشفَ الأصلَ، فهو الدّخولُ في علاقةٍ مع نصوصٍ بطُرقٍ مختلفةٍ، يَتفاعلُ بواسطتِها النّصُّ مع الماضي والحاضرِ والمستقبل، وتفاعُلُهُ معَ القرّاءِ والنّصوصِ الأخرى(1).
ففي فصلِ إقامةِ أليعازر من الموتِ، يقولُ القدّيسُ يوحنّا الإنجيليّ: "فانزعج يسوعُ أيضًا في نفسِهِ وجاءَ إلى القبرِ، وكانَ مغارةً، وقد وُضِعَ عليهِ حَجَرٌ". (يو 11: 38).
هي آيةٌ مِن إنجيل مَرقص 16:3، تتحدّثُ عن حاملاتِ الطّيب، اللّواتي ذهبْنَ في السَّحَرِ باكرًا إلى قبر السيّد المسيح ليُطيّبنَهُ بالطّيبِ بحسبِ العادةِ، وكانَ على بابِ القبرِ صخرةٌ كبيرةٌ وحُرّاسٌ، "وكُنَّ يَقُلنَ فيما بينَهنَّ: مَن يُدحرجُ لنا الحَجرَ عن باب القبر"؟
ترمزُ الآيةُ إلى القيامةِ الجديدةِ؟ الولادةِ الجديدةِ؟ الاستقلالِ؟ الانتماءِ؟ الازدهارِ وإلخ؟ لقد وظّفتْها الشّاعرةُ في قصيدتِها مُستخدِمةً الأسلوبَ الإنشائيَّ، فالاستفهامُ يُفيدُ التّمنّي، فتتمنّى الشّاعرة أن يَزولَ الاحتلالُ والموتُ والضّجرُ، ويَتحرّرَ الفلسطينيُّ ويَنعتقَ مِن مِحنتهِ، ومِن قبرِهِ الّذي دُفِنَ فيهِ وهو حيٌّ، كي يَشعرَ بروحِ الحرّيّةِ والعدالةِ والمساواةِ، تمامًا مثلما دُحرجَ عن قبرِ المسيحِ الحَجرُ، فانفتحَ بابُهُ وخرجَ منهُ، وقد نجحتْ شاعرتُنا بتوظيفِها للتّناصِ الدّينيّ، ورَبطَتْ ذلكَ بمَقصدِها، فالنّاتجُ النّصّيُّ يكونُ حصيلةً لسلسلةٍ مِنَ التّحوّلاتِ النّصّيّةِ السّابقةِ الّتي تَنصهرُ وتَتمازجُ فيما بينها، والّتي يَظنُّ المُبدعُ أنّهُ صاحبُها، لكنّها تتسلّلُ إليهِ بطُرقٍ لا شعوريّةٍ، فهي عمليّةٌ كيميائيّةٌ تتمُّ في ذهنِ المُؤلّف(2).
فالتّناص للشاعر إذن؛ بمثابةِ الهواء والماء والزمان والمكان للإنسان، فلا حياة له دونها، ولا عيشة له خارجها (3).
ويَختلفُ تداخُلُ نصٍّ مع نصوصٍ سابقةٍ، ويَتنوّعُ بحسبِ الاستفادةِ، فللتّناص أشكالٌ مُتعدّدةٌ منها:(4) التّناصّ الدّينيّ. والإبداعُ الشّعريُّ للشّاعرِ لا يكونُ أصيلًا وجديرًا بالتّقديرِ والإعجابِ، إلّا إذا كانَ بعيدًا عن المعاني الّتي سبقهُ إليهِ غيرُهُ؛ إلّا أنَّهُ يُمكنُ للشّاعرِ المُبدعِ والموهوبِ – إن أحسنَ تركيبَ المعاني السّابقةِ في قالبٍ جديدٍ- أنْ يُحقِّقَ النّاحيةَ الجماليّةَ والإبداعيّةَ لقصيدتِهِ، وذلكَ بالتّجديدِ في صياغتِها وأسلوبِها، بما يَصُبُّهُ فيها مِنْ قَوالبِ المجازِ والاستعارةِ والتّشبيهِ؛ ما يَجعلُها تبدو كأنّها جديدةٌ مُبتكَرةٌ، وجزءٌ لا يَنفصلُ عن نسيجِ البناءِ الفنّيِّ لقصيدتِهِ.
"هَا رُوحِي": ها: تَنْبِيهٌ تَفْتَتِحُ العربُ بها الكلامَ بلا معنى سوى الافتتاح، تقولُ: هذا أَخوك، ها إِنَّ ذا أَخُوكَ؛ وأَنشد النابغة: ها إِنَّ تا عِذْرةٌ إِلاَّ تَكُنْ نَفَعَتْ، فإِنَّ صاحِبَها قد تَاهَ في البَلَدِ (* قوله «سام الخسف» كذا في الأصل، والذي في المحكّ.. (5) وهنا تناصٌّ أدبيٌّ يتقاطعُ فيهِ قولُ الشاعرة مع قول النابغة السّابق.
"تَغْسِلِينَهَا.. بِأَحْلَامِكِ الْوَرْدِيَّةِ/ وَمَغَاوِرُ خَيْبَتِي.. تَطْفَحُ/ بِغُرْبَةٍ.. بِرُعْبٍ.. بِفَرَاغٍ": الشّاعرةُ آمال هنا تُخاطبُ روحَها المُثقلةَ بهمومِ الوطنِ والواقعِ الاجتماعيِّ العاصفِ، وتتمنّى مِنْ روحِها الجميلةِ الّتي تَحلمُ بكلِّ ما هو جميلٌ وورديٌّ، أنْ تُزيحَ عن نفسِ الشّاعرةِ الخيباتِ الثّقيلةَ المُتتاليةَ.
وفي عبارةِ "مَغَاوِرُ خَيْبَتِي" اختراقٌ أو انزياحٌ إضافيٌّ، فللخيباتِ مَغاورُ تَطفحُ بالغربةِ في الوطنِ الّذي لا حولَ لها فيهِ ولا قوّة، وبالرُّعبِ والخوفِ مِنَ الواقعِ المُحتلِّ، وبالفراغِ القاتلِ الّذي يَعصفُ بالرّوح، وقد شبّهت الشّاعرةُ الأحلامَ الورديّةَ بماءٍ يَغسلُ.. (استعارة مكنيّة). وشاعرتُنا تَنتقي ألفاظَها المُوحِيةَ، وتعتقدُ أنَّ الشّعرَ هو الّذي يَنطقُ عن ذاتِهِ، وعلى المُتلقّي أو النّاقدِ أنْ يَستنبِطَ المَفهومَ الشّعريَّ عندَ الشّاعرِ مِن خلالِ قراءَتِهِ، فالشّعرُ لهُ لغةٌ خاصّةٌ بهِ، ويَنبعُ خلالَهُ الإحساسُ بأهمّيّةِ اللّغةِ ودَوْرِهِ، وما فيهِ مِنَ انحرافٍ واتّساعٍ واختراقٍ، وهيَ تَتعاملُ معَ اللّغةِ تَعامُلًا جريئًا ومُثيرًا للاهتمام، وفي نفسِ الوقتِ نرى أنّها تستخدمُ المُفرداتِ، بحيث تُوظّفُها توظيفًا جديدًا..
"أَنَا الْمَلْهُوفُ لِرَصَاصَةِ حُبٍّ/ يُشَنِّجُنِي دَوِيُّهَا/ أَنَّى لِي أَتَّكِئُ.. عَلَى جَنَاحِ فَرَاشَة؟/ لَعْنَةٌ رَشِيقَةٌ/ تُهَادِنُنِي.. تُنَاوِرُنِي/ أَتَصْلِبُنِي/ عَلَى شِفَاهِ سَحَابٍ دَمَوِيٍّ.. يَتَرَبَّصُ بِي؟"
وهنا تتّكئُ الشّاعرةُ في نصِّها على الاستعاراتِ التّنافريّةِ، فاللّهفةُ عادةً لا تتأتّى مِن رصاصةٍ، والرّصاصةُ لا يَنشأُ عنها حُبٌّ، واللّعنةُ لا يكونُ شكلُها رشيقًا، واللّعنةُ لا تُهادنُ ولا تُناورُ، والسّحابُ لا يَحملُ الدّمُ بل الخيرَ، ولا يَتربّصُ بالإنسانِ.. إنّها انزياحاتٌ تَنافريّةٌ وظّفتْها الشّاعرةُ في نصِّها؛ لخلقِ لغةٍ شِعريّةٍ جميلةٍ، ولتوليدِ المفاجأةِ في روْعِ المُتلقّي، وتُثيرُ المُتلقّي في إقامةِ علاقاتٍ لا منطقيّةٍ بينَ الأشياءِ، بوساطةِ السّعيِ إلى خلخلةِ العلاقاتِ المألوفةِ بينَها، تبعًا لرؤيةِ الشّاعرةِ الّتي مِن مُهمّتِها ترتيبُ الأشياء حسب رؤيتِها الدّاخليّة، وليسَ حسب الواقع المعيش والحقيقة الثابتة، لذا خلقتْ لنا الشّاعرةُ مُفارقةً اعتمدتْ على الثّنائيّة: طبعا هذا لا يحدثُ إلّا في العلاقاتِ اللّامنطقيّةِ، وبذلك استطاعت الشاعرةُ أنْ تَخلقَ لنا فجوةً تتغيّر فيها العلاقةُ بينَ الدّالّ والمدلول، وهكذا تستمرُّ هذه التّقانةُ بخلخلةِ كلّ ما هو طبيعيٍّ ومُستنِدٍ إلى القاموسِ المُعجميِّ والمَعاني القارة فيه.
وتُعدُّ الاستعارةُ التّنافريّةُ تقانةً مِن تقاناتِ الكتابةِ الحداثيّةِ الّتي يُوظّفُها الشّعراءُ، لغرَضِ خلقِ التّوازُنِ الدّاخليِّ الّذي يَفتقدونَهُ خارجيًّا، فهي لا تُولدُ مِن فراغٍ، وإنّما هي وليدةُ موقفٍ نفسيٍّ وثقافيّ.(6) وتقومُ في جزءٍ كبيرٍ منها على المُفارقةِ، ونجدُها تُقرّبُ المُتنافِراتِ، وتُجبرُ أبعدَ الأشياءِ عن بعضِها على التّقاربِ والتّرابطِ في سياقٍ فنّيٍّ جديدٍ، يُثيرُ المُتعةَ والدّهشةَ والجَمالَ، (7) لا بل تَجاوزَ الأمرُ عندَ الشّعراءِ الحداثيّينَ إلى مَزْجِ المُتناقضاتِ في كيانٍ واحدٍ يُعانقُ في إطارِهِ الشّيءُ نقيضَهُ، ويَمتزجُ بهِ مُستمِدًّا منهُ بعضَ خصائصِهِ، ومُضيفًا إليهِ بعضَ سِماتِهِ، تعبيرًا عن الحالاتِ النّفسيّةِ والأحاسيسِ الغامضةِ المُبهمةِ، الّتي تَتعانقُ فيها المشاعرُ المُتضادّةُ وتتفاعلُ.(8)
هذهِ السّطورُ تُصوّرُ لنا ما تُكابدُهُ الشّاعرةُ في وطنِها الذّبيح، وحالَ الأهلِ وضنَكَهم والدّمَ النّازفَ، وقد راوحت الشّاعرةُ في السّطورِ السّابقةِ بينَ الأسلوبِ الخبريّ لتأكيدِ الذّات، وتصويرِ المأساةِ وهَوْلِها، وبينَ الأسلوبِ الإنشائيّ، فالاستفهامُ في (أنّى والهمزة في أتصلبُني) يُفيدانِ التّعجُّبَ والتّحسُّرَ في كلٍّ، وتستمرُّ الشّاعرةُ في قصيدتِها:
"أَيَا صُعَدَاءَ عِشْقِي/ بَوْحِي.. وَرْدٌ جَرِيحٌ/ عَلَى سِيَاجِ رَبِيعِكِ/ لَا يَحُدُّهُ نَزْفٌ/ وَلَا يَلُفُّهُ وَدْعٌ.. وَلَا حَتْفٌ!/ وَأَنْتِ وَدْعِي وقَدَري!/ أَنْتِ وَدَعِي وَسَكَنِي!/ كَنُبُوءَةٍ وَادِعَةٍ.. فِي تَمَامِ الْأَزْمِنَةِ/ تَبْعَثِينَني شَهْوَةً.. فِي لُغَتِكِ الْيَانِعَةِ!"
في السّطورِ السّابقةِ تُخاطبُ الشّاعرةُ روحَها، فتصفُها بالصّعداء، والصّعداءُ هو التّنفّسُ الطّويلُ مِن هَمٍّ وتَعبٍ، والنّداءُ ب (أيَا) يُفيدُ الالتماسَ الممزوجَ بالتّحسُّرِ والأسى، وهو حرفُ نداءٍ للبعيدِ، وظّفتْهُ الشّاعرةُ لنداءِ روحِها القريبةِ المُتّصلةِ بها، وتستمرُّ المأساةُ، فتتنفّسُ الشّاعرةُ الصّعداءَ، بسببِ ما لحقَها مِن همٍّ وتعبٍ ووجعٍ، بسبب عِشقِها وتَعلّقِها بوطنِها، وبوْحُها كالوردِ الجميلِ، لكنّهُ مجروحٌ وجُرحُهُ لا شفاءٌ منهُ، فهو مستمرٌّ في نزفِ دمِهِ رمزًا لمعاناةِ الفلسطينيّ وقتْلِ الكثيرِ مِن أبنائِهِ، وتُكرّرُ الشّاعرةُ (لا) ثلاثَ مَرّاتٍ، كما تُكرّرُ عبارةَ (وَأَنْتِ وَدْعِي) مرّتيْن، لتوليدِ الإيقاعِ في ثنايا القصيدةِ وتجسيدِ المأساةِ، مأساة الاحتلال وما يَنجمُ عن أفعالِهِ، وتأكيدِها لمعاني القلقِ ومُكابدةِ الفلسطينيّ في وطنِهِ، وتَتتابعُ الصّورُ الفنّيّةُ وتتزاحمُ، فالعشقُ يتنفّسُ الصّعداءَ كما الإنسان، وللبوحِ وردٌ، والوردُ يُجرَحُ ولهُ دمٌ يَنزفُ كما الكائن الحيّ.
وتُشبّهُ الشّاعرةُ صعداءَ العشقِ بالنّبوءةِ الوادعةِ، ولها لغةٌ يانعةٌ كما النّباتات..، فقَوامُ الصّورةِ الفنّيّةِ هو مبادئ وطرق الاستخدام التّعبيريّ للخواصّ الّتي تحوزُها الوسائلُ المادّيّة، لإعادةِ خلقِ الحياةِ في هذا النّوعِ أو ذاكَ مِن أنواعِ الفنّ، فالقوامُ في الأعمالِ الأدبيّةِ هوَ وسائلُ التّفصيلِ الأسلوبيّ. إنّهُ مِن جهةِ قوّةِ التّعبيرِ الذّاتيّةِ الّتي تحوزُها المفرداتُ، والّتي تنبثقُ مِن جِرْسِ الكلمةِ ومِنْ تَلوُّناتِ المعنى الانفعاليّ الّتي تُنشِئُها خصائصُ مَجازيّةِ المفردةِ، وهو مِن جهةٍ أخرى التّعبيريّة الّتي تنطوي عليها النّبرةُ النّغميّةُ المُتأتّيةُ عن ترتيبِ الكلماتِ في جُملٍ، وبخاصّةٍ تعبيريّة السّبكِ الإيقاعيّة، وهو في التّمثيلِ الإيمائيِّ تعبيريّةُ وضعيّاتِ الجسم، وإيماءاتِ الجوراحِ وتعبيراتِ الوجهِ، وهو في التّصويرِ مبادئُ وطُرُقُ اختيارِ الألوانِ ومَزْجِها ووضْعِها على سطحِ اللّوحة..، وهو في النّحتِ خواصُّ التّشكيلِ الفنّيّ للمادّةِ – الرّخام – والحجرِ والمَعدن..(9).
وتقول: "تَبْعَثِينَني شَهْوَةً.. فِي لُغَتِكِ الْيَانِعَةِ!": واللّغةُ اليانعةُ لغةٌ عشقيّةٌ لا تتمّ إلّا بينَ حبيبيْن تُباعدُهُما غربةٌ أبديّةٌ بفِعلِ الاحتلالِ، غربةٌ بينَ الحبيبِ الغريبِ والحبيبةِ، فرّقَتْ شمْلَهم عنِ البلدِ والوطنِ فتشتّتَ الكلّ: الأمّ والعائلة و..، وتتمنّى الشّاعرةُ أنْ يأتيَ يومٌ فيهِ يلتقي الكلُّ بالكلِّ ويَلتمَّ الشّملُ؟
وتُنشدُ الشّاعرةُ قائلةً: "أَيَا مَعْصِيَتِي الْمُبَارَكَةُ/ رُحْمَاكِ/أَطْفِئِي يَأْسِي.. بِنُورِكِ الْمُقَدَّسِ/ لِأَظَلَّ أَجْمَعُ ظِلَالَكِ/ أُلَمْلِمُ رَعَشَاتِ ضَوْئِكِ/ لِأَسْتَظِلَّ بِقَدَرِي!/ أَعِدِّي مَائِدَةَ الْحُبِّ.. لِثِمَارِ حَنَانِي/ اِخْلَعِي عَنِّي مَنْفَايَ/ وَأَلْبِسِينِي وَجْهَكِ/ لِأَنْضُجَ.. بِحَنَانِكِ/ لِمَ أَتَكَدَّسُ.. فِي مِرْآةِ جَبَرُوتِكِ/ وَالْبَرْدُ يَحْطُبُ لَيْلِيَ/ بِالْمَرَاثِي وعَتْمَتِكِ؟"
وتنتقلُ الشّاعرةُ للأسلوبِ الإنشائيّ، مُوظِّفةً النّداءَ ومُكرِّرةً نفسَ الأداةِ (أيا)، تُنادي روحَها ذاتَ المعصيةِ المُباركةِ، وهذا انزياحٌ إسناديٌّ، إنّ عدمَ المُلاءمةِ بينَ الموصوفِ وهي (معصيتي- المسند إليه) والصفة (المباركة- المسند)، هو التّنافُرُ الّذي يُخالفُ توقّعاتِ المُتلقّي، ويَرتقي باللّغةِ إلى مستوى متميّزٍ، وكلّما اتّسعتِ الفجوةُ وعدمُ الملاءمة ازدادت الدّلالةُ عُمقًا، ويكشفُ لنا بناءُ الجُملةِ الشّعريّةِ في قصائدِ شاعرتِنا آمال على توظيفِها لهذا الأسلوبِ بصورةٍ أساسيّةٍ، ويتجلّى جمالُ الانزياحِ مِنَ النّظر في العلاقةِ بينَ المُسنَدِ والمُسنَدِ إليه، فالموصوفُ وهو المُسنَدُ (معصيتي)، ينتظرُ صفةً مُلائمةً مألوفةً كما هو متوقّع، لكنّ الشّاعرةَ اختارت له مُسنَدًا غيرَ مُتوقّعٍ (المباركة)، وعندَ هذهِ الدّرجةِ يبدأُ التّوتّرُ يَفرضُ حضورَهُ، ويَجتهدُ معهُ المُتلقّي بتأويلِ العلاقةِ الإسناديّةِ بين المادّيّ وغيرِ المادّيّ، ثمّ يبدأُ بتكوينِ دلالةٍ تُلائمُ السّياقَ العامَّ للنّصِّ.
ومِنَ الانزياحاتِ المختلفةِ كما في عبارات: (مَائِدَةَ الْحُبِّ)، و(لِثِمَارِ حَنَانِي)، و(أَجْمَعُ ظِلَالَكِ)، وَ(أَلْبِسِينِي وَجْهَكِ)، و(أَطْفِئِي يَأْسِي.. بِنُورِكِ)، و(لِأَنْضُجَ.. بِحَنَانِكِ)، و(أَتَكَدَّسُ.. فِي مِرْآةِ جَبَرُوتِكِ)، وَ(الْبَرْدُ يَحْطُبُ لَيْلِيَ بِالْمَرَاثِي وعَتْمَتِك)..
(رُحْمَاكِ): تتضمّنُ انزياحًا بالحذفِ والتّقديرِ (أسألُكَ رُحماك)، فرحماك مفعولٌ به ثانٍ لفعلٍ محذوفٍ تقديرُهُ (أسألُكَ)، أو تجعلُها منصوبةً بنزعِ خافضِها والتّقدير: (اِرحمي برحماك).
ومِنَ الانزياحِ في التّقديمِ والتّأخيرِ قولُها (اِخْلَعِي عَنِّي مَنْفَايَ)، حيثُ قدّمتْ ما حقُّهُ التّأخير، وهو الجارُّ والمجرورُ (عَنِّي)، على ما حقّه التّقديمُ وهو المفعول بهِ (مَنْفَايَ).
إنّ الارتباطَ الوشيجَ بينَ الشّعريّةِ والانزياحِ هو ما جعلَ الأخيرَ مُكوّنًا رئيسًا، ومَلمَحًا عامًّا مِن ملامحِ التّجربةِ الشّعريّةِ الأخيرةِ في القصيدةِ، ونرى أنّ الانزياحَ بأنماطِهِ كافّةً، وبمستوياتِهِ المُتباينة، قد أسهمَ في الصّوغِ اللّغويّ الماتعِ لتراكيبِ النّصّ، وأكسبَ القصيدةَ طاقةً تعبيريّةً، ودفقاتٍ شعوريّةً، ارتقتْ بها إلى مستوياتِ الحداثةِ الشّعريّة.
وتستمرُّ الشّاعرةُ في شدْوِها الحزينِ: "هَا صَبَاحِي ذَابِلٌ/ يَهُشُّ أَنِينَ لَيْلِي.. بِزَفَرَاتِكِ/ أُلَامِسُ قَلْبَ السَّمَاءِ/ وحَيْثُنَا/ عُيُونُ الْمَلَائِكَةِ.. تَسْتَفِيضُ رَحْمَةً/ وَأَتَحَرَّقُ عَارِيًا/ إلَّا.. مِنْ هُشَاشَةِ رَجَاء!/ بِوَحْشَةِ ضَوْئِكِ الْفَائِرِ/ أَرْسمُنَا.. دَوَائِرَ تَتَحَالَقُ/ وَ.. أُحَلِّقُ حُرْقَةً/ أَ~ تَ~لَ~وَّ~ى/ أَ ~ تَ~ لَ~ وَّ~ عُ/ في قَفَصِ النِّسْيَانِ"!
وتتوالى الانزياحاتُ المختلفةُ والصُّورُ الشّعريَّة في مَقاطعِ الشاعرة آمال عوّاد رضوان، فصُبحُ الشّاعرةِ ذابلٌ كذبولِ النّباتاتِ الآيلةِ للجفافِ، وتُشبّهُ الشّاعرةُ صباحَها براعٍ أو بإنسانٍ يَهشُّ ويَطردُ، وتُشبّهُ الأنينَ بغنمٍ قابلةٍ للهشِّ والطّردِ، وتُشبّهُ زفراتِ أنينِ ليلِها أيضًا بإنسانٍ يهشُّ ويصولُ ويجولُ، والصّورُ الشّعريّةُ لا يتأتّى بها، إلّا مَنْ مَلَكَ زمامَ القلم، وإنّ الشّعرَ العذبَ الّذي يُشنَفُ الأسماعَ، ويُسْكِرُ الألبابَ، ويأخذُ بمَجامعِ القلوبِ، هو الشّعرُ الّذي يَموجُ موْجًا بالصّورِ الشّعريّةِ الحافلةِ الّتي تُشكّلُ نواةَ القصيدةِ، فالشّاعرُ المُتصرّفُ في فنونِ الشّعرِ، والّذي يتّسمُ شِعرُهُ بدقّةِ المَعاني، ولطافةِ التّخيُّلِ ومَلاحةِ الدّيباجةِ، هو الشّاعرُ الّذي يدمغُ شِعرَهُ المُهفهفَ في دخائلِ كلِّ نفسٍ، ويُوطّدُ دعائمَ أبياتِهِ المُطهّمةِ العتاقِ في مَدارجِ كلِّ حِسٍّ، والأشعارُ الّتي تفتقدُ لهذهِ الصّورِ البديعةِ يتخطّفُها الموتُ، ويَكتنفُها الظّلامُ، ولا يترنّمُ بها النّاسُ في دروبِ الحياةِ ومُتعرّجاتِها. لأجلِ ذلك، أضحتِ الصّورةُ الشّعريّةُ جوهرَ الشّعرِ وأساسَ الحُكمِ عليهِ… (10)
وتعودُ الشّاعرةُ مرّةً أخرى، لتنهلَ مِن ينابيعِ الصّورِ الفنّيّةِ ما طابَ لها فتقولُ: "أُلَامِسُ قَلْبَ السَّمَاءِ": كنايةً عن العُلوّ والرّفعةِ والوصولِ للمجدِ، وللسّماءِ قلبٌ ككائنٍ حيّ.
"عُيُونُ الْمَلَائِكَةِ.. تَسْتَفِيضُ رَحْمَةً": للملائكةِ عيونٌ، كنايةً عنِ المراقبةِ والعنايةِ الإلهيّة.
"وَأَتَحَرَّقُ عَارِيًا": كنايةً عن التّدرُّجِ في عذاباتِ ما تُكابدُهُ الشّاعرةُ في وطنِها.
"إلَّا .. مِنْ هُشَاشَةِ رَجَاء!": وللرّجاءِ هشاشةٌ وضعفٌ كما العظام.
"بِوَحْشَةِ ضَوْئِكِ الْفَائِرِ": وللضّوءِ وحشةٌ تفورُ.
"أَرْسمُنَا.. دَوَائِرَ تَتَحَالَقُ/ وَ.. أُحَلِّقُ حُرْقَةً/ أَ~ تَ~لَ~وَّ~ى/ أَ ~ تَ~ لَ~ وَّ~ عُ/ في قَفَصِ النِّسْيَانِ"!
"أَ~ تَ~لَ~وَّ~ى/ أَ ~ تَ~ لَ~ وَّ~ عُ/ وَ.. أُحَلِّقُ حُرْقَةً": كنايةً في كلٍّ عن المُكابدةِ في الوطنِ بتدَرُّجٍ، والحروفُ مُنفصلةٌ كما القتل، والتّقتيلُ يكونُ على دفعاتٍ أشدَّ وجعًا وأكثرَ إيلامًا، وتُكرّرُ الشّاعرةُ أصواتَ كلٍّ مِنَ الهمزةِ، والتّاءِ، واللّامِ، والصّائتِ الطّويلِ، والواو في كلمتَيْ (أَ~ تَ~لَ~وَّ~ى/ أَ ~ تَ~ لَ~ وَّ~ عُ)، لخلقِ إيقاعٍ عذبٍ، ولتطويلِ زمنِ المأساةِ وتَأرجُحِها.
"في قَفَصِ النِّسْيَانِ!": وللنّسيانِ قفصٌ كما الطّيور، والعالمُ كلُّه قد نسيَ القضيّةَ الفلسطينيّةَ، وأخذَ البعضُ يُتاجرُ بها.. صورٌ شعريّةٌ مُحلّقةٌ.
إنّ الشّاعرَ حينما تتدفّقُ شاعريّتُهُ، وتَنثالُ عليهِ المَعاني سهوًا ورهوًا، ويبدأُ في نظْمِ القريضِ، إنّما يُريدُ أنْ يُعبّرَ عن شيءٍ قد استبدَّ في ذهنِهِ، ورَبَضَ في دواخلِهِ، ولأنَّ الشّاعرَ يتخيّرُ تعبيرَهُ وينتقي ألفاظَهُ، ويتنزّهُ بها عن التّعابيرِ الممجوجةِ الّتي يتفوّهُ بها ملايينُ البشر، يأتي تعبيرُهُ مُغايرًا لتلكَ التّعبيراتِ الّتي يجودُ بها الشّخصُ العاديّ، تعبيرٌ أكبرُ مِن أنْ يتسامى في ابتداعِهِ شخصٌ ناضبُ القريحةِ، صلدُ الذّهنِ، تعبيرٌ يُبهرُ العيونَ، ويسحرُ الأفئدةَ، كلامٌ فنّيٌّ انسجمَتْ قِطعُهُ وحَسُنَ توزيعُهُ، وألفاظٌ أتّأدتْ حركاتُها، واتّزنتْ كلماتُها، جُملٌ مُرصّفةٌ تضفي على النّفسِ ما يُضفيهِ شدْوُ القيانِ، وهزْجُ المَزاميرِ، جُملٌ مُترعةٌ بالصّورِ الشّعريّةِ الخلّابةِ، صورٌ تُصوّرُ الانفعالَ وتنقلُ إحساسَ المُعبّرِ وذبذباتِ نفسِهِ نقلًا أمينًا، وعلى الشّاعرِ أنْ يُحسِنَ اختيارَ صورِهِ وعرْضِها، بما يُناسبُ طبائعَ النّاسِ وأمزجتَهُم، وأنْ يَجعلَ هدفَهُ نقْلَ العاطفةِ والفكرةِ في صورِهِ، لا أنْ يجعلَ همَّهُ إتقانَ شِعرِهِ وجوْدةَ رصْفِهِ وإحكامِهِ، فليسَ الفنُّ سوى التّكافؤِ الكاملِ بينَ العاطفةِ الّتي يُحسُّها الفنّانُ، وبينَ الصّورةِ الّتي يُعبّرُ بها عن هذهِ العاطفةِ.
إذن؛ الشّعرُ في كُنهِهِ صوَرٌ تُعبّرُ عن مخاضٍ عاشَهُ الشّاعرُ، فنحنُ حينما نعثرُ على صورةٍ مِن تلكَ الصّورِ، فإنّنا حتمًا نعثرُ مِن خلالِها على شرْخٍ أدْمى قلبَ الشّاعرِ، أو لوعةٍ أوْهتْ كبدَهُ، أو حسرةٍ سحَّتْ جفونَهُ، أو سعادةٍ ردّتْ لهُ الرّوحُ، وجدّدتْ في أوصالِهِ الحياةَ، وترتبطُ لغةُ الشّاعرِ بعُمقِ التّجربةِ الّتي يَعيشُها، فقد تأتي صريحةً، يرسمُ مِن خلالِها الصّورةَ، وقد تتفاوتُ في مواقعِ البلاغةِ، فتختلفُ بينَ الإيجازِ والإطناب، ممّا يجلبُ للقارئِ اللّذّةَ أحيانًا، والسّآمةَ أحيانًا أخرى.
على ضوءِ ما تقدّمَ، نستطيعُ أنْ نجزمَ بيقينٍ لا يُخالجُهُ شكٌّ أو تُخامرُهُ ريبَةٌ، أنّ الصّورةَ الشّعريّةَ هي "جوهرُ الشّعرِ وأداتُهُ القادرةُ على الخلقِ والابتكارِ، والتّحويرِ والتّعديلِ لأجزاءِ الواقعِ، بل اللّغة القادرة على استكناهِ جوهرِ التّجربةِ الشّعرية، وتشكيلِ موقفِ الشّاعر من الواقع، وِفقَ إدراكِهِ الجّماليّ الخاصّ. (11)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.