اليورو يرتفع بعد اتفاق تجاري بين أمريكا والاتحاد الأوروبي    سعر الدواجن اليوم الاثنين 28-7- 2025 فى المنوفية.. الفراخ البيضاء ب77 جنيها    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الاثنين 28 يوليو 2025    وزير الزراعة يناقش التعديلات المرتقبة لقانون التعاونيات الزراعية الجديد    استشهاد 13 فلسطينيا فى قصف إسرائيلى على مناطق متفرقة من قطاع غزة    المصري يواصل استعداداته بمعسكر تونس بعد العودة إلى سوسة    البنك الأهلي يبدأ استعداداته الخميس المقبل لمواجهة غزل المحلة فى الدوري    الأرصاد: استمرار الموجة شديدة الحرارة.. وارتفاع كبير في نسب الرطوبة    السيطرة على حريق نشب في حوش زراعي بسوهاج    الصحة تنصح المواطنين بالإكثار من شرب الماء لتجنب المخاطر الصحية لارتفاع الحرارة    اليوم طلاب الدور الثانى بالأزهر يؤدون امتحانات الفرنساوى والجغرافيا والتاريخ    تنسيق الثانوية العامة 2025.. مؤشرات كلية الآثار 2024 المرحلة الأولي بالنسبة المئوية    ستارمر يعتزم إثارة وقف إطلاق النار في غزة والرسوم على الصلب مع ترامب    أخبار مصر: حقيقة وفاة الدكتور مجدي يعقوب، حريق يلتهم فيلا رجل أعمال شهير، عودة التيار الكهربائي للجيزة، حسين الشحات: لن أرحل عن الأهلي    أخبار متوقعة لليوم الإثنين 28 يوليو 2025    مواعيد مباريات المقاولون العرب في الدوري الممتاز موسم 2025-2026    الخريطة الزمنية للعام الدراسي الجديد 2025 - 2026 «أيام الدراسة والإجازات»    الإطار التنسيقي الشيعي يدين هجوم الحشد الشعبي على مبنى حكومي ببغداد    حادث قطار في ألمانيا: 3 قتلى و34 مصابا إثر خروج عربات عن المسار وسط عاصفة    تعرف على مواعيد مباريات المصري بالدوري خلال الموسم الكروي الجديد    تجاوزات في ودية المصري والترجي.. ومحمد موسى: البعثة بخير    فرنسا: إسرائيل تسعى لاستعادة الأسرى لكن حماس تقتل مزيدًا من جنودها    وزير خارجية أمريكا: سنسهل محادثات السلام بين كمبوديا وتايلاند    "حماة الوطن" يحشد لدعم مرشحيه في "الشيوخ" بسوهاج (فيديو وصور)    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    بالصور.. اصطدام قطار بجرار أثناء عبوره شريط السكة الحديد بالبحيرة    طعنة غدر.. حبس عاطلين بتهمة الاعتداء على صديقهما بالقليوبية    «اقعد على الدكة احتياطي؟».. رد حاسم من حسين الشحات    بالصور.. إيهاب توفيق يتألق في حفل افتتاح المهرجان الصيفي للموسيقى والغناء بالإسكندرية    هدى المفتي تحسم الجدل وترد على أنباء ارتباطها ب أحمد مالك    محافظ القليوبية يجري جولة مفاجئة بمدينة الخانكة ويوجّه بتطوير شارع الجمهورية    الخارجية السودانية تدين إعلان قوات الدعم السريع «حكومة وهمية» وتطلب عدم الاعتراف بها    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 28 يوليو    وائل جسار ل فضل شاكر: سلم نفسك للقضاء وهتاخد براءة    4 انفجارات متتالية تهز العاصمة السورية دمشق    رسمياً تنسيق الجامعات 2025 القائمة الكاملة لكليات علمي علوم «الأماكن المتاحة من الطب للعلوم الصحية»    أسعار الذهب اليوم في المملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الإثنين 28 يوليو 2025    منها «الاتجار في المخدرات».. ما هي اتهامات «أيمن صبري» بعد وفاته داخل محبسه ب بلقاس في الدقهلية؟    «مكنتش بتاعتها».. بسمة بوسيل تفجر مفاجأة بشأن أغنية «مشاعر» ل شيرين عبدالوهاب.. ما القصة؟    تنسيق الثانوية العامة 2025 بالقاهرة.. درجة القبول والشروط لطلاب الانتظام والخدمات    كريم رمزي: جلسة مرتقبة بين محمد يوسف ونجم الأهلي لمناقشة تجديد عقده    لا أماكن بكليات الهندسة للمرحلة الثانية.. ومنافسة شرسة على الحاسبات والذكاء الاصطناعي    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    تنسيق الكليات 2025، الحدود الدنيا لجميع الشعب بالدرجات والنسب المئوية لطلبة الثانوية بنظاميها    السكرتير العام المساعد لمحافظة الجيزة: عودة المياه لمعظم المناطق المتأثرة خلال ساعة    أحمد نبيل: تعليم الأطفال فن البانتومايم غيّر نظرتهم للتعبير عن المشاعر    وزير السياحة: ترخيص 56 وحدة فندقية جديدة و60 طلبًا قيد الدراسة    إدريس يشيد بالبداية المبهرة.. ثلاث ميداليات للبعثة المصرية فى أول أيام دورة الألعاب الإفريقية للمدارس    متخليش الصيف ينسيك.. فواكه ممنوعة لمرضى السكر    أم وابنها يهزمان الزمن ويصنعان معجزة فى الثانوية العامة.. الأم تحصل على 89% والابن 86%.. محمد: ليست فقط أمى بل زميلتي بالدراسة.. والأم: التعليم لا يعرف عمرا وحلمنا ندرس صيدلة.. ونائب محافظ سوهاج يكرمهما.. فيديو    الباذنجان مهم لمرضى السكر والكوليسترول ويحمي من الزهايمر    بعد توقف 11 عاما.. رئيس حقوق الإنسان بالنواب يُشارك في تشغيل مستشفي دار السلام    رغم ارتفاع درجات الحرارة.. قوافل "100 يوم صحة" تواصل عملها بالوادى الجديد    رفضت عرسانًا «أزهريين» وطلبت من زوجها التعدد.. 19 معلومة عن الدكتورة سعاد صالح    في الحر الشديد.. هل تجوز الصلاة ب"الفانلة الحمالات"؟.. أمين الفتوى يوضح    بتوجيهات شيخ الأزهر.. قافلة إغاثية عاجلة من «بيت الزكاة والصدقات» في طريقها إلى غزة    هل الحر الشديد غضبًا إلهيًا؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعِرُ وَالصوفِي
نشر في صوت البلد يوم 06 - 11 - 2017

إذا كان الصوفي يرى بعين الغوص في الذات، الذوق والكشف لتحقيق الحلول والفناء في الذات الإلهية، وتمزيق ظلماتها وستائرها، التي تخفي أسرارها وحقائق الوجود، فإن الشاعر تمكن من أن يرى العالم، من خلال، عين الذوق والإنصات إلى الكون في أسمى تجليات العزلة والاغتراب والوحدة والتيه في الدروب الوعرة في الذات والعالم.
وبالتالي فإن الشاعر شَبيهٌ بالمتصوفة الذين نذروا أرواح عقولهم وعيون قلوبهم للانهائي قصْد فتْح كوة في وجه السديم، والتوحد مع الألم الباطني الذي يهز الكوامن ويعري حقيقة المكابدة. ولعل رحلة في متون الإبداع الإنساني سنقف فيها على حقيقة العلاقة بين التصوف والشعر، ذلك أنهما يقترنان في ما بَيْنهما، ويتزاوجان تُخُومِيا، على اعتبار أن كل واحد منهما يستمد وجوده من الآخر في تفاعل حميمي وفعال، ما يعني أن التصوف قرين الشعر؛ والعكس صحيح. ولا غرابة في هذا مادام التصوف والشعر صنوين للمكابدة الذاتية والوجودية، وللاحتراق الأبدي وللقلق الذي يمكن عده ملح الإبداع.
والصوفي يحتاج إلى الفناء والتوحد مع الذات الإلهية، حين يشعر بالتآكل الروحي يهدده، كذلك الشاعر يحتاج إلى العبور نحو اللامحدود باحثا عن الكينونة؛ عندما يتهددها فيروس اللاقيم واللامعنى الخراب والموت، وهنا نقف عند حقيقة أن كلا منهما يسعى إلى الفناء في الذات الباطنية المتقدة بنيران الرغبة في مراودة الآتي، والنظر عبر الحلم والرؤية بالنسبة للشاعر؛ ومن خلال، الاستيهامات الْمَنَامِية أي الحُلمية؛ والرؤيا بالنسبة للصوفي، فالفناء يمثل لهما ذلك الخلاص الذي ينقذ الذات من السقوط في شرَك الزائل، واعتناق الأبدي، في سيرورة تفاعلية تمجد الصفاء الروحي والسمو القِيمِي وتعطل الحواس والمدرك الحسي للصوفي، والاكتمال الذاتي وتحقيق الكيان متخيلا للشاعر. Bas du formulaire
الشاعر يبني صداقة إبداعية مع الصوفي انطلاقا من كونهما ينهلان من المنبع نفسه، رغم اختلافهما في طريقة القول، منبع الذات والكون، الذات ككتاب منغلق على الدواخل المنسية في قارة الجسد، التي يكتشفها الشاعر عبر لغة الشعور والحس العميق، ومجرة من المشاعر الفياضة الملتبسة بألم المعاناة، وحرقة الاغتراب، والكون باعتباره السؤال اللغز، الذي يحفزه على الرحيل في مساربه ومسالكه المتشعبة والمُوغلة في الأسرار.
في حين نجد الصوفي يسلك مسلك المحبة والعشق والذوق لتعرية حجب الذات والكون وتمزيقها حتى تدرك ماهية الحلول والفناء مع الذات كعالم مبهم وبالتركيز على الباطن، والكون كوسيلة من وسائل البحث عن الذات الإلهية، إن سيرة الصبابة عنوان الصوفي المتغلغل في العالم بروح القلب ويقظة الجوارح الباطنية، هذه السيرة تقوده إلى جغرافيات في الذات والوجود في حكم الالتباس والغموض، في حين أن الشاعر تتجلى سيرته في القبض على جمر الأسئلة المقلقة، والنابضة بالاحتراق الْجَوانِي المشتعل بنيران حب الآتي بلغة شعرية مضاءة بمكابدة التجربة.
ولا غرو في ذلك مادامت الكتابة تصور نابع من أرض الذات ومتخيل الواقع، تماشيا مع الصيرورة المجتمعية والفكرية والإبداعية، فإذا كان الشاعر القديم مثلا حين يقف على الطلل فهو يسعى إلى بناء ما تهدم واقعيا بالشعر، من خلال عملية الاسترجاع للذاكرة المشتركة بينه وبين من تركوا الرسْم يقول تاريخ المكان بوساطة الذكريات والأنفاس والهمهمات والعواطف الفياضة، في حين نجد الصوفي لا يقف على الطلل أو المقدمة الغزلية أو الخمرية، وإنما يلوذ إلى السماء طالبا الانغماس الكلي في الذات الإلهية ونسيان الأرض الفضاء الدنَسِي إن صح القول، لتحقيق المبتغى الكينوناتي المفتوح على احتمالات ذاتية ووجودية.
الشاعر في القصيدة يبحث عن ذاته، هذه الذات المغلولة بالنفي والاغتراب، بالسأم والعدمية المنبثقة من شعوره باللامعنى من حياة تفتقد فيها قيمة العقل، وعقلانية القيم، بل هو على الدوام يحفر مجراه عكس الآخر، ضد التقليدانية وكل ما هو مقدس في الذهنية المتخلفة، ضد عبودية أوثان الماضي، ضد الليل اللابس عقلية القطيع.
الشاعر يبحث عن الشمس المشرقة من الباطن، والمختفية وراء سحب الوعي الجمعي، هو خالق وعيه الفردي بذاته التواقة للحرية، فهو شبيه بالطير الذي يأبى الأقفاص ويعشق سماء يتنسم فيها هواء وجوده. الشاعر نرجسي إلى درجة حُلولية مع الذات، لكونه سادنها وحارسها والعارف بأحوالها، والساعي إلى اكتشاف أسرارها، لذلك نجده بعيدا عن جلبة الجماعة، وتفاهاتها، يختار المنافي للإقامة، والترحال في مسارب الوجود عله يظفر بنفسه، لكن في المقابل يروم الصوفي إلى الانشطار في عوالم الوجود، طالبا راغبا في معانقة الكوامن المنسية من العالم، ومنقبا عن المنفلت منه عله يظفر ولو بالنزْر القليل من تلك الشعل البعيدة المضيئة في المناطق المعتمة من الروح والبوح، فالصوفي يبوح بلغة الإشارات وينوح بقلب العبارات إلى عبور صوب المجاهل والمخفي منها، فالرغبة في الحلول هي المعادل الموضوعي في كتابات الصوفي الشعرية الباذخة برؤى صادحة باللامحدود في الوجود، وفي هذا السياق يحضرني للحلاج وهو يرتضي طريق الانصهار والذوبان في الذات الإلهية، فهوى الصوفي هوى حلولي باطني والرؤية بصيرة أو بعين الحدس. حين يقارن ذاته بذات الإله، وفي هذا انحراف عن الزمن الفيزيولوني إلى الزمن الأسطوري المنبثق من رحِم اللانهائي يقول الحلاج:
أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا نَحْنُ رُوحَانِ حُلِلْنَا بَدَنَا
نَحْنُ مُذْ كُنا عَلَى عَهْدِ الْهَوَى تُضْرَبُ الأَمْثَالُ لِلناسِ بِنَا
فَإِذَا أَبْصَرْتَنِي أَبْصَرْتَهُ وَإِذَا أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَنَا
أَيهَا السائِلُ عَنْ قَضِيتِنَا لَوْ تَرَانَا لَمْ تُفَرقْ بَيْنَنَا
رُوحُهُ رُوحِي وَرُوحِي لرُوحُهُ مَنْ رَأَى رُوحَيْنِ حَلتْ بَدَنَا
إن لغة الصوفي لغة إشارية إيحائية تتحول إلى علامات تحتاج إلى تقشير دلالتها السطحية للغوص في المعاني العميقة المتوارية بين طيات المقول، هذه الرمزية، عند الصوفي، تكشف عن العلاقة التفاعلية مع مكونات الوجود، ولكونها طريقة لإدراك ما لا يستطاع التعبير عنه بتعبير يونغ كما أنها وسيلة تبرز ذاك التلاحم الروحي بين الذات الإنسانية والذات الإلهية في تواشج حلولي تقف الذات في حالة دهشة لا توصف، وهنا مكمن جمالية النص الصوفي المباغت والمستفز للذائقة التي لا ترى في الكتابة الإبداعية إلا ترجيعا لصوت الأسلاف، ومن تم يمكننا القول إن اللغة الصوفية لغة إيمائية خارجة عن طوق اللغة المتواضع عليها أو المتداولة، وفي هذا انتصار للخيال الجانح صوب مساحات خضراء ممتدة في المجهول واللانهائي. فسِمَة المفارقة خصيصة من خصائص إبداعية النص الصوفي، لكونها تسلك، في التعبير عن الحالة، مسالك السالكين والعارفين بالباطن والمهملين الظاهر؛ وهنا مكمن الوصل الذي يسعى إليه الصوفي، فالمحبة وصل، والمكابدة وصل، والوجدانية وصل، والحق وصل حيث تتلاشى مكونات الخالق وتينع الذات مخضبة بحناء التماهي، ومعطرة بأنفاس الخالق.
في حين نجد الشاعر يسلك مسلك الذاتية كتجل من تجليات التعبير عن الرغبة في البحث عن الكينونة في واقع متحول ومتقلب المناخات، مما يفرض على الذات أن تفتح منافذ لتضيء هذا الملتبس والمُعْتم في الذات والواقع بلغة تركن إلى الترميز والتشفير، وتستعيد ذاكرة الذات والعالم في صور تشكيلية تتميز بجماليات فنية مُبْهِرَة ومستفزة، وهذا ما يجعل الشاعر دائما في حضرة موشومة بالانفعالية، في الوقت الذي نجد الصوفي يوجد في حضرة تفاعلية، وهنا مكمن الاختلاف، فالصوفي ينسى الذات لتندغم مع الآخر الإلهي، في حين أن هاجس الشاعر يتمثل في التعبير عن الذات، كما نجد الصوفي يخصب الوجود بسؤال الفيض، والشاعر يشحن اللغة بطاقة المشاعر والعواطف.
لا غرو في أن العلاقة التي تربط الصوفي والشاعر علاقة صداقة حمِيمية تتواشج في المكابدات والوجدان، غير أن مكابدة الصوفي مكابدة وجودية حُلولية، في الوقت الذي يصر فيه الشاعر على أن تكون مكابداته ووجدانه ملتصقين بالذات كحاضن للوجود، وعندما تُشْحن اللغة بحرارة التجربة عند الشاعر حيث الغنائية هوية الذات، وبفاعلية وتفاعلية التجربة عند الصوفي حيث التجاذب بين الحق والأنا دليل الحلولية. من هذا المَيْسَم ما يجعلنا نؤكد على تلك الرابطة الوشيجة بين الشعر والصوفية كتمثل للذات والوجود. هي وشيجة منبعها هذا الحب المنبثق من عذابات ومحنة كل منهما في تجسير الهوة وردمها بين الذوات والعوالم المترامية الأطراف في المجهول، إنها سيرة الإبداع الخالق والخارق، الإبداع المترحل في فجوات الوجود، والناسج آصرة الكائن بالكون نسْجاً العمق الداخلي جوهره، والظاهر اللاحب مَنْبِتُهُ.
....
٭ شاعر من المغرب
إذا كان الصوفي يرى بعين الغوص في الذات، الذوق والكشف لتحقيق الحلول والفناء في الذات الإلهية، وتمزيق ظلماتها وستائرها، التي تخفي أسرارها وحقائق الوجود، فإن الشاعر تمكن من أن يرى العالم، من خلال، عين الذوق والإنصات إلى الكون في أسمى تجليات العزلة والاغتراب والوحدة والتيه في الدروب الوعرة في الذات والعالم.
وبالتالي فإن الشاعر شَبيهٌ بالمتصوفة الذين نذروا أرواح عقولهم وعيون قلوبهم للانهائي قصْد فتْح كوة في وجه السديم، والتوحد مع الألم الباطني الذي يهز الكوامن ويعري حقيقة المكابدة. ولعل رحلة في متون الإبداع الإنساني سنقف فيها على حقيقة العلاقة بين التصوف والشعر، ذلك أنهما يقترنان في ما بَيْنهما، ويتزاوجان تُخُومِيا، على اعتبار أن كل واحد منهما يستمد وجوده من الآخر في تفاعل حميمي وفعال، ما يعني أن التصوف قرين الشعر؛ والعكس صحيح. ولا غرابة في هذا مادام التصوف والشعر صنوين للمكابدة الذاتية والوجودية، وللاحتراق الأبدي وللقلق الذي يمكن عده ملح الإبداع.
والصوفي يحتاج إلى الفناء والتوحد مع الذات الإلهية، حين يشعر بالتآكل الروحي يهدده، كذلك الشاعر يحتاج إلى العبور نحو اللامحدود باحثا عن الكينونة؛ عندما يتهددها فيروس اللاقيم واللامعنى الخراب والموت، وهنا نقف عند حقيقة أن كلا منهما يسعى إلى الفناء في الذات الباطنية المتقدة بنيران الرغبة في مراودة الآتي، والنظر عبر الحلم والرؤية بالنسبة للشاعر؛ ومن خلال، الاستيهامات الْمَنَامِية أي الحُلمية؛ والرؤيا بالنسبة للصوفي، فالفناء يمثل لهما ذلك الخلاص الذي ينقذ الذات من السقوط في شرَك الزائل، واعتناق الأبدي، في سيرورة تفاعلية تمجد الصفاء الروحي والسمو القِيمِي وتعطل الحواس والمدرك الحسي للصوفي، والاكتمال الذاتي وتحقيق الكيان متخيلا للشاعر. Bas du formulaire
الشاعر يبني صداقة إبداعية مع الصوفي انطلاقا من كونهما ينهلان من المنبع نفسه، رغم اختلافهما في طريقة القول، منبع الذات والكون، الذات ككتاب منغلق على الدواخل المنسية في قارة الجسد، التي يكتشفها الشاعر عبر لغة الشعور والحس العميق، ومجرة من المشاعر الفياضة الملتبسة بألم المعاناة، وحرقة الاغتراب، والكون باعتباره السؤال اللغز، الذي يحفزه على الرحيل في مساربه ومسالكه المتشعبة والمُوغلة في الأسرار.
في حين نجد الصوفي يسلك مسلك المحبة والعشق والذوق لتعرية حجب الذات والكون وتمزيقها حتى تدرك ماهية الحلول والفناء مع الذات كعالم مبهم وبالتركيز على الباطن، والكون كوسيلة من وسائل البحث عن الذات الإلهية، إن سيرة الصبابة عنوان الصوفي المتغلغل في العالم بروح القلب ويقظة الجوارح الباطنية، هذه السيرة تقوده إلى جغرافيات في الذات والوجود في حكم الالتباس والغموض، في حين أن الشاعر تتجلى سيرته في القبض على جمر الأسئلة المقلقة، والنابضة بالاحتراق الْجَوانِي المشتعل بنيران حب الآتي بلغة شعرية مضاءة بمكابدة التجربة.
ولا غرو في ذلك مادامت الكتابة تصور نابع من أرض الذات ومتخيل الواقع، تماشيا مع الصيرورة المجتمعية والفكرية والإبداعية، فإذا كان الشاعر القديم مثلا حين يقف على الطلل فهو يسعى إلى بناء ما تهدم واقعيا بالشعر، من خلال عملية الاسترجاع للذاكرة المشتركة بينه وبين من تركوا الرسْم يقول تاريخ المكان بوساطة الذكريات والأنفاس والهمهمات والعواطف الفياضة، في حين نجد الصوفي لا يقف على الطلل أو المقدمة الغزلية أو الخمرية، وإنما يلوذ إلى السماء طالبا الانغماس الكلي في الذات الإلهية ونسيان الأرض الفضاء الدنَسِي إن صح القول، لتحقيق المبتغى الكينوناتي المفتوح على احتمالات ذاتية ووجودية.
الشاعر في القصيدة يبحث عن ذاته، هذه الذات المغلولة بالنفي والاغتراب، بالسأم والعدمية المنبثقة من شعوره باللامعنى من حياة تفتقد فيها قيمة العقل، وعقلانية القيم، بل هو على الدوام يحفر مجراه عكس الآخر، ضد التقليدانية وكل ما هو مقدس في الذهنية المتخلفة، ضد عبودية أوثان الماضي، ضد الليل اللابس عقلية القطيع.
الشاعر يبحث عن الشمس المشرقة من الباطن، والمختفية وراء سحب الوعي الجمعي، هو خالق وعيه الفردي بذاته التواقة للحرية، فهو شبيه بالطير الذي يأبى الأقفاص ويعشق سماء يتنسم فيها هواء وجوده. الشاعر نرجسي إلى درجة حُلولية مع الذات، لكونه سادنها وحارسها والعارف بأحوالها، والساعي إلى اكتشاف أسرارها، لذلك نجده بعيدا عن جلبة الجماعة، وتفاهاتها، يختار المنافي للإقامة، والترحال في مسارب الوجود عله يظفر بنفسه، لكن في المقابل يروم الصوفي إلى الانشطار في عوالم الوجود، طالبا راغبا في معانقة الكوامن المنسية من العالم، ومنقبا عن المنفلت منه عله يظفر ولو بالنزْر القليل من تلك الشعل البعيدة المضيئة في المناطق المعتمة من الروح والبوح، فالصوفي يبوح بلغة الإشارات وينوح بقلب العبارات إلى عبور صوب المجاهل والمخفي منها، فالرغبة في الحلول هي المعادل الموضوعي في كتابات الصوفي الشعرية الباذخة برؤى صادحة باللامحدود في الوجود، وفي هذا السياق يحضرني للحلاج وهو يرتضي طريق الانصهار والذوبان في الذات الإلهية، فهوى الصوفي هوى حلولي باطني والرؤية بصيرة أو بعين الحدس. حين يقارن ذاته بذات الإله، وفي هذا انحراف عن الزمن الفيزيولوني إلى الزمن الأسطوري المنبثق من رحِم اللانهائي يقول الحلاج:
أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا نَحْنُ رُوحَانِ حُلِلْنَا بَدَنَا
نَحْنُ مُذْ كُنا عَلَى عَهْدِ الْهَوَى تُضْرَبُ الأَمْثَالُ لِلناسِ بِنَا
فَإِذَا أَبْصَرْتَنِي أَبْصَرْتَهُ وَإِذَا أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَنَا
أَيهَا السائِلُ عَنْ قَضِيتِنَا لَوْ تَرَانَا لَمْ تُفَرقْ بَيْنَنَا
رُوحُهُ رُوحِي وَرُوحِي لرُوحُهُ مَنْ رَأَى رُوحَيْنِ حَلتْ بَدَنَا
إن لغة الصوفي لغة إشارية إيحائية تتحول إلى علامات تحتاج إلى تقشير دلالتها السطحية للغوص في المعاني العميقة المتوارية بين طيات المقول، هذه الرمزية، عند الصوفي، تكشف عن العلاقة التفاعلية مع مكونات الوجود، ولكونها طريقة لإدراك ما لا يستطاع التعبير عنه بتعبير يونغ كما أنها وسيلة تبرز ذاك التلاحم الروحي بين الذات الإنسانية والذات الإلهية في تواشج حلولي تقف الذات في حالة دهشة لا توصف، وهنا مكمن جمالية النص الصوفي المباغت والمستفز للذائقة التي لا ترى في الكتابة الإبداعية إلا ترجيعا لصوت الأسلاف، ومن تم يمكننا القول إن اللغة الصوفية لغة إيمائية خارجة عن طوق اللغة المتواضع عليها أو المتداولة، وفي هذا انتصار للخيال الجانح صوب مساحات خضراء ممتدة في المجهول واللانهائي. فسِمَة المفارقة خصيصة من خصائص إبداعية النص الصوفي، لكونها تسلك، في التعبير عن الحالة، مسالك السالكين والعارفين بالباطن والمهملين الظاهر؛ وهنا مكمن الوصل الذي يسعى إليه الصوفي، فالمحبة وصل، والمكابدة وصل، والوجدانية وصل، والحق وصل حيث تتلاشى مكونات الخالق وتينع الذات مخضبة بحناء التماهي، ومعطرة بأنفاس الخالق.
في حين نجد الشاعر يسلك مسلك الذاتية كتجل من تجليات التعبير عن الرغبة في البحث عن الكينونة في واقع متحول ومتقلب المناخات، مما يفرض على الذات أن تفتح منافذ لتضيء هذا الملتبس والمُعْتم في الذات والواقع بلغة تركن إلى الترميز والتشفير، وتستعيد ذاكرة الذات والعالم في صور تشكيلية تتميز بجماليات فنية مُبْهِرَة ومستفزة، وهذا ما يجعل الشاعر دائما في حضرة موشومة بالانفعالية، في الوقت الذي نجد الصوفي يوجد في حضرة تفاعلية، وهنا مكمن الاختلاف، فالصوفي ينسى الذات لتندغم مع الآخر الإلهي، في حين أن هاجس الشاعر يتمثل في التعبير عن الذات، كما نجد الصوفي يخصب الوجود بسؤال الفيض، والشاعر يشحن اللغة بطاقة المشاعر والعواطف.
لا غرو في أن العلاقة التي تربط الصوفي والشاعر علاقة صداقة حمِيمية تتواشج في المكابدات والوجدان، غير أن مكابدة الصوفي مكابدة وجودية حُلولية، في الوقت الذي يصر فيه الشاعر على أن تكون مكابداته ووجدانه ملتصقين بالذات كحاضن للوجود، وعندما تُشْحن اللغة بحرارة التجربة عند الشاعر حيث الغنائية هوية الذات، وبفاعلية وتفاعلية التجربة عند الصوفي حيث التجاذب بين الحق والأنا دليل الحلولية. من هذا المَيْسَم ما يجعلنا نؤكد على تلك الرابطة الوشيجة بين الشعر والصوفية كتمثل للذات والوجود. هي وشيجة منبعها هذا الحب المنبثق من عذابات ومحنة كل منهما في تجسير الهوة وردمها بين الذوات والعوالم المترامية الأطراف في المجهول، إنها سيرة الإبداع الخالق والخارق، الإبداع المترحل في فجوات الوجود، والناسج آصرة الكائن بالكون نسْجاً العمق الداخلي جوهره، والظاهر اللاحب مَنْبِتُهُ.
....
٭ شاعر من المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.