التعليم العالي: مشاركة مصري في فاعلة في مبادرة بوابات التعلم الرقمي بمدينة ووهان بالصين    حزمة قرارات تنظيمية وتمويلية جديدة وتحديث البنية الرقمية للتأمين الصحي الشامل    «التخطيط» تعلن حصول قرية «الحصص» بالدقهلية على شهادة «ترشيد» للمجتمعات الريفية الخضراء    كالاس: يجب توقف إسرائيل عن استهداف المدنيين ومنع إدخال المساعدات    لوكهيد مارتن تكشف مفاتيح بناء قبة ترامب الذهبية.. وتصفها ب"رؤية رائعة"    وزيرا الشباب والأوقاف يلتقيان أعضاء اتحاد بشبابها    مباراة الأهلي وفاركو .. الموعد والقنوات الناقلة مباشر والحكم والمعلق والتشكيل    «الخطيب مش هيوافق».. كيف تفاعلت جماهير الأهلي مع أنباء اقتراب كريستيانو؟    مصرع طفلين إثر سقوطهما فى بئر مياه بالشرقية    ديو جديد مع الشامي.. هل تُفيد الديوتوهات المتكررة تامر حسني جماهيريا    ابتعد أيها الفاشل، قارئة شفاة تكشف سر صفع ماكرون على الطائرة    طارق يحيي: لن ينصلح حال الزمالك إلا بالتعاقد مع لاعبين سوبر    رومانو: تاه يخضع للفحص الطبي تمهيدًا للانتقال إلى بايرن ميونخ    تقارير تكشف.. لماذا رفض دي بروين عرضين من الدوري الإنجليزي؟    الحزمة الأولى من مبادرة التسهيلات الضريبية.. مجلس الوزراء يوافق على مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون الضريبة على العقارات المبنية.. التعديلات تستهدف تخفيف الأعباء الضريبية مراعاة للبعدين الاجتماعي والاقتصادي    مصرع شخص أسفل عجلات قطار في بني سويف    مسئول أوروبي يتوقع انتهاء المحادثات مع مصر لتحديد شرائح قرض ال4 مليارات يورو أواخر يونيو    الناقد سيد سلام مديرًا لمسابقة الفيلم المصري الطويل بمهرجان الإسكندرية    تيتة نوال خفة دم مش طبيعية.. وفاة جدة وئام مجدي تحزن متابعيها    هيئة فلسطينية: فرض النزوح القسرى واستخدام التجويع فى غزة جريمة حرب    9 عبادات.. ما هي الأعمال المستحبة في العشر الأوائل من ذي الحجة؟    نائب وزير الصحة تتابع مستجدات توصيات النسخة الثانية للمؤتمر العالمى للسكان والتنمية    طريقة عمل الموزة الضاني في الفرن لغداء فاخر    زيارات ميدانية ل«نساء من ذهب» بالأقصر    الرقابة المالية: التأمين البحري يؤدي دور محوري في تعزيز التجارة الدولية    أكاديمية الشرطة تُنظم الاجتماع الخامس لرؤساء إدارات التدريب بأجهزة الشرطة بالدول الأفريقية "الأفريبول" بالتعاون مع الوكالة الألمانية للتعاون الدولى GIZ    حرام شرعًا وغير أخلاقي.. «الإفتاء» توضح حكم التصوير مع المتوفى أو المحتضر    د.محمد سامى عبدالصادق: حقوق السربون بجامعة القاهرة تقدم أجيالا من القانونيين المؤهلين لترسيخ قيم الإنصاف وسيادة القانون والدفاع عن الحق.    الإمارات تستدعي السفير الإسرائيلي وتدين الانتهاكات المشينة والمسيئة في الأقصى    الإعدام لمتهم والسجن المشدد 15 عامًا لآخر ب«خلية داعش قنا»    الاتحاد الأوروبي يعتمد رسمياً إجراءات قانونية لرفع العقوبات عن سوريا    اليونيفيل: أي تدخّل في أنشطة جنودنا غير مقبول ويتعارض مع التزامات لبنان    الحكومة تطرح 4 آلاف سيارة تاكسي وربع نقل للشباب بدون جمارك وضرائب    خبر في الجول - الجفالي خارج حسابات الزمالك بنهائي كأس مصر    نسرين أسامة أنور عكاشة ل«البوابة نيوز»: مفتقد نصيحة والدي وطريقته البسيطة.. وأعماله تقدم رسائل واضحة ومواكبة للعصر    اسكواش - تتويج عسل ونوران جوهر بلقب بالم هيلز المفتوحة    5 أهداف مهمة لمبادرة الرواد الرقميون.. تعرف عليها    افتتاح الصالة المغطاة بالقرية الأولمبية بجامعة أسيوط (صور)    سليمة القوى العقلية .. أسباب رفض دعوى حجر على الدكتورة نوال الدجوي    ألف جنيه انخفاضا في سعر الأرز للطن خلال أسبوع.. الشعبة توضح السبب    «بيت الزكاة والصدقات» يصرف 500 جنيه إضافية لمستحقي الإعانة الشهرية غدًا الخميس    في أول أيام الشهر.. تعرف على أفضل الأعمال في العشر الأوائل من ذي الحجة    الاتحاد الأوروبي: يجب عدم تسييس أو عسكرة المساعدات الإنسانية إلى غزة    حملة أمنية تضبط 400 قطعة سلاح وذخيرة خلال 24 ساعة    نائب وزير الصحة تشارك فى جلسة نقاشية حول "الاستثمار فى صحة المرأة"    بالصور- إقبال على المراجعات النهائية لطلاب الثانوية العامة ببورسعيد    وفاة «تيتة نوال» تشعل مواقع التواصل الاجتماعي.. تعرف على أبرز المعلومات عن جدة الفنانة وئام مجدي    روبوت ينظم المرور بشوارع العاصمة.. خبير مرورى يكشف تفاصيل التجربة الجديدة.. فيديو    وزير التعليم العالي يترأس اجتماع مجلس الجامعات الأهلية ويوجه بسرعة إعلان نتائج الامتحانات    وزير التعليم: 98 ألف فصل جديد وتوسّع في التكنولوجيا التطبيقية    نائب وزير الصحة: إنشاء معهد فنى صحى بنظام السنتين فى قنا    صحة أسيوط تفحص 53 ألف مواطن للكشف عن الرمد الحبيبي المؤدي للعمى (صور)    وزير الثقافة: ملتزمون بتوفير بنية تحتية ثقافية تليق بالمواطن المصري    وزير الخارجية يتوجه إلى المغرب لبحث تطوير العلاقات    قرار من «العمل» بشأن التقديم على بعض الوظائف القيادية داخل الوزارة    الحماية المدنية بالقليوبية تسيطر على حريق مخزن بلاستيك بالخانكة| صور    وزير الأوقاف يهنئ الشعب المصري والأمة العربية بحلول شهر ذي الحجة    ألم في المعدة.. حظ برج الدلو اليوم 28 مايو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعِرُ وَالصوفِي
نشر في صوت البلد يوم 06 - 11 - 2017

إذا كان الصوفي يرى بعين الغوص في الذات، الذوق والكشف لتحقيق الحلول والفناء في الذات الإلهية، وتمزيق ظلماتها وستائرها، التي تخفي أسرارها وحقائق الوجود، فإن الشاعر تمكن من أن يرى العالم، من خلال، عين الذوق والإنصات إلى الكون في أسمى تجليات العزلة والاغتراب والوحدة والتيه في الدروب الوعرة في الذات والعالم.
وبالتالي فإن الشاعر شَبيهٌ بالمتصوفة الذين نذروا أرواح عقولهم وعيون قلوبهم للانهائي قصْد فتْح كوة في وجه السديم، والتوحد مع الألم الباطني الذي يهز الكوامن ويعري حقيقة المكابدة. ولعل رحلة في متون الإبداع الإنساني سنقف فيها على حقيقة العلاقة بين التصوف والشعر، ذلك أنهما يقترنان في ما بَيْنهما، ويتزاوجان تُخُومِيا، على اعتبار أن كل واحد منهما يستمد وجوده من الآخر في تفاعل حميمي وفعال، ما يعني أن التصوف قرين الشعر؛ والعكس صحيح. ولا غرابة في هذا مادام التصوف والشعر صنوين للمكابدة الذاتية والوجودية، وللاحتراق الأبدي وللقلق الذي يمكن عده ملح الإبداع.
والصوفي يحتاج إلى الفناء والتوحد مع الذات الإلهية، حين يشعر بالتآكل الروحي يهدده، كذلك الشاعر يحتاج إلى العبور نحو اللامحدود باحثا عن الكينونة؛ عندما يتهددها فيروس اللاقيم واللامعنى الخراب والموت، وهنا نقف عند حقيقة أن كلا منهما يسعى إلى الفناء في الذات الباطنية المتقدة بنيران الرغبة في مراودة الآتي، والنظر عبر الحلم والرؤية بالنسبة للشاعر؛ ومن خلال، الاستيهامات الْمَنَامِية أي الحُلمية؛ والرؤيا بالنسبة للصوفي، فالفناء يمثل لهما ذلك الخلاص الذي ينقذ الذات من السقوط في شرَك الزائل، واعتناق الأبدي، في سيرورة تفاعلية تمجد الصفاء الروحي والسمو القِيمِي وتعطل الحواس والمدرك الحسي للصوفي، والاكتمال الذاتي وتحقيق الكيان متخيلا للشاعر. Bas du formulaire
الشاعر يبني صداقة إبداعية مع الصوفي انطلاقا من كونهما ينهلان من المنبع نفسه، رغم اختلافهما في طريقة القول، منبع الذات والكون، الذات ككتاب منغلق على الدواخل المنسية في قارة الجسد، التي يكتشفها الشاعر عبر لغة الشعور والحس العميق، ومجرة من المشاعر الفياضة الملتبسة بألم المعاناة، وحرقة الاغتراب، والكون باعتباره السؤال اللغز، الذي يحفزه على الرحيل في مساربه ومسالكه المتشعبة والمُوغلة في الأسرار.
في حين نجد الصوفي يسلك مسلك المحبة والعشق والذوق لتعرية حجب الذات والكون وتمزيقها حتى تدرك ماهية الحلول والفناء مع الذات كعالم مبهم وبالتركيز على الباطن، والكون كوسيلة من وسائل البحث عن الذات الإلهية، إن سيرة الصبابة عنوان الصوفي المتغلغل في العالم بروح القلب ويقظة الجوارح الباطنية، هذه السيرة تقوده إلى جغرافيات في الذات والوجود في حكم الالتباس والغموض، في حين أن الشاعر تتجلى سيرته في القبض على جمر الأسئلة المقلقة، والنابضة بالاحتراق الْجَوانِي المشتعل بنيران حب الآتي بلغة شعرية مضاءة بمكابدة التجربة.
ولا غرو في ذلك مادامت الكتابة تصور نابع من أرض الذات ومتخيل الواقع، تماشيا مع الصيرورة المجتمعية والفكرية والإبداعية، فإذا كان الشاعر القديم مثلا حين يقف على الطلل فهو يسعى إلى بناء ما تهدم واقعيا بالشعر، من خلال عملية الاسترجاع للذاكرة المشتركة بينه وبين من تركوا الرسْم يقول تاريخ المكان بوساطة الذكريات والأنفاس والهمهمات والعواطف الفياضة، في حين نجد الصوفي لا يقف على الطلل أو المقدمة الغزلية أو الخمرية، وإنما يلوذ إلى السماء طالبا الانغماس الكلي في الذات الإلهية ونسيان الأرض الفضاء الدنَسِي إن صح القول، لتحقيق المبتغى الكينوناتي المفتوح على احتمالات ذاتية ووجودية.
الشاعر في القصيدة يبحث عن ذاته، هذه الذات المغلولة بالنفي والاغتراب، بالسأم والعدمية المنبثقة من شعوره باللامعنى من حياة تفتقد فيها قيمة العقل، وعقلانية القيم، بل هو على الدوام يحفر مجراه عكس الآخر، ضد التقليدانية وكل ما هو مقدس في الذهنية المتخلفة، ضد عبودية أوثان الماضي، ضد الليل اللابس عقلية القطيع.
الشاعر يبحث عن الشمس المشرقة من الباطن، والمختفية وراء سحب الوعي الجمعي، هو خالق وعيه الفردي بذاته التواقة للحرية، فهو شبيه بالطير الذي يأبى الأقفاص ويعشق سماء يتنسم فيها هواء وجوده. الشاعر نرجسي إلى درجة حُلولية مع الذات، لكونه سادنها وحارسها والعارف بأحوالها، والساعي إلى اكتشاف أسرارها، لذلك نجده بعيدا عن جلبة الجماعة، وتفاهاتها، يختار المنافي للإقامة، والترحال في مسارب الوجود عله يظفر بنفسه، لكن في المقابل يروم الصوفي إلى الانشطار في عوالم الوجود، طالبا راغبا في معانقة الكوامن المنسية من العالم، ومنقبا عن المنفلت منه عله يظفر ولو بالنزْر القليل من تلك الشعل البعيدة المضيئة في المناطق المعتمة من الروح والبوح، فالصوفي يبوح بلغة الإشارات وينوح بقلب العبارات إلى عبور صوب المجاهل والمخفي منها، فالرغبة في الحلول هي المعادل الموضوعي في كتابات الصوفي الشعرية الباذخة برؤى صادحة باللامحدود في الوجود، وفي هذا السياق يحضرني للحلاج وهو يرتضي طريق الانصهار والذوبان في الذات الإلهية، فهوى الصوفي هوى حلولي باطني والرؤية بصيرة أو بعين الحدس. حين يقارن ذاته بذات الإله، وفي هذا انحراف عن الزمن الفيزيولوني إلى الزمن الأسطوري المنبثق من رحِم اللانهائي يقول الحلاج:
أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا نَحْنُ رُوحَانِ حُلِلْنَا بَدَنَا
نَحْنُ مُذْ كُنا عَلَى عَهْدِ الْهَوَى تُضْرَبُ الأَمْثَالُ لِلناسِ بِنَا
فَإِذَا أَبْصَرْتَنِي أَبْصَرْتَهُ وَإِذَا أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَنَا
أَيهَا السائِلُ عَنْ قَضِيتِنَا لَوْ تَرَانَا لَمْ تُفَرقْ بَيْنَنَا
رُوحُهُ رُوحِي وَرُوحِي لرُوحُهُ مَنْ رَأَى رُوحَيْنِ حَلتْ بَدَنَا
إن لغة الصوفي لغة إشارية إيحائية تتحول إلى علامات تحتاج إلى تقشير دلالتها السطحية للغوص في المعاني العميقة المتوارية بين طيات المقول، هذه الرمزية، عند الصوفي، تكشف عن العلاقة التفاعلية مع مكونات الوجود، ولكونها طريقة لإدراك ما لا يستطاع التعبير عنه بتعبير يونغ كما أنها وسيلة تبرز ذاك التلاحم الروحي بين الذات الإنسانية والذات الإلهية في تواشج حلولي تقف الذات في حالة دهشة لا توصف، وهنا مكمن جمالية النص الصوفي المباغت والمستفز للذائقة التي لا ترى في الكتابة الإبداعية إلا ترجيعا لصوت الأسلاف، ومن تم يمكننا القول إن اللغة الصوفية لغة إيمائية خارجة عن طوق اللغة المتواضع عليها أو المتداولة، وفي هذا انتصار للخيال الجانح صوب مساحات خضراء ممتدة في المجهول واللانهائي. فسِمَة المفارقة خصيصة من خصائص إبداعية النص الصوفي، لكونها تسلك، في التعبير عن الحالة، مسالك السالكين والعارفين بالباطن والمهملين الظاهر؛ وهنا مكمن الوصل الذي يسعى إليه الصوفي، فالمحبة وصل، والمكابدة وصل، والوجدانية وصل، والحق وصل حيث تتلاشى مكونات الخالق وتينع الذات مخضبة بحناء التماهي، ومعطرة بأنفاس الخالق.
في حين نجد الشاعر يسلك مسلك الذاتية كتجل من تجليات التعبير عن الرغبة في البحث عن الكينونة في واقع متحول ومتقلب المناخات، مما يفرض على الذات أن تفتح منافذ لتضيء هذا الملتبس والمُعْتم في الذات والواقع بلغة تركن إلى الترميز والتشفير، وتستعيد ذاكرة الذات والعالم في صور تشكيلية تتميز بجماليات فنية مُبْهِرَة ومستفزة، وهذا ما يجعل الشاعر دائما في حضرة موشومة بالانفعالية، في الوقت الذي نجد الصوفي يوجد في حضرة تفاعلية، وهنا مكمن الاختلاف، فالصوفي ينسى الذات لتندغم مع الآخر الإلهي، في حين أن هاجس الشاعر يتمثل في التعبير عن الذات، كما نجد الصوفي يخصب الوجود بسؤال الفيض، والشاعر يشحن اللغة بطاقة المشاعر والعواطف.
لا غرو في أن العلاقة التي تربط الصوفي والشاعر علاقة صداقة حمِيمية تتواشج في المكابدات والوجدان، غير أن مكابدة الصوفي مكابدة وجودية حُلولية، في الوقت الذي يصر فيه الشاعر على أن تكون مكابداته ووجدانه ملتصقين بالذات كحاضن للوجود، وعندما تُشْحن اللغة بحرارة التجربة عند الشاعر حيث الغنائية هوية الذات، وبفاعلية وتفاعلية التجربة عند الصوفي حيث التجاذب بين الحق والأنا دليل الحلولية. من هذا المَيْسَم ما يجعلنا نؤكد على تلك الرابطة الوشيجة بين الشعر والصوفية كتمثل للذات والوجود. هي وشيجة منبعها هذا الحب المنبثق من عذابات ومحنة كل منهما في تجسير الهوة وردمها بين الذوات والعوالم المترامية الأطراف في المجهول، إنها سيرة الإبداع الخالق والخارق، الإبداع المترحل في فجوات الوجود، والناسج آصرة الكائن بالكون نسْجاً العمق الداخلي جوهره، والظاهر اللاحب مَنْبِتُهُ.
....
٭ شاعر من المغرب
إذا كان الصوفي يرى بعين الغوص في الذات، الذوق والكشف لتحقيق الحلول والفناء في الذات الإلهية، وتمزيق ظلماتها وستائرها، التي تخفي أسرارها وحقائق الوجود، فإن الشاعر تمكن من أن يرى العالم، من خلال، عين الذوق والإنصات إلى الكون في أسمى تجليات العزلة والاغتراب والوحدة والتيه في الدروب الوعرة في الذات والعالم.
وبالتالي فإن الشاعر شَبيهٌ بالمتصوفة الذين نذروا أرواح عقولهم وعيون قلوبهم للانهائي قصْد فتْح كوة في وجه السديم، والتوحد مع الألم الباطني الذي يهز الكوامن ويعري حقيقة المكابدة. ولعل رحلة في متون الإبداع الإنساني سنقف فيها على حقيقة العلاقة بين التصوف والشعر، ذلك أنهما يقترنان في ما بَيْنهما، ويتزاوجان تُخُومِيا، على اعتبار أن كل واحد منهما يستمد وجوده من الآخر في تفاعل حميمي وفعال، ما يعني أن التصوف قرين الشعر؛ والعكس صحيح. ولا غرابة في هذا مادام التصوف والشعر صنوين للمكابدة الذاتية والوجودية، وللاحتراق الأبدي وللقلق الذي يمكن عده ملح الإبداع.
والصوفي يحتاج إلى الفناء والتوحد مع الذات الإلهية، حين يشعر بالتآكل الروحي يهدده، كذلك الشاعر يحتاج إلى العبور نحو اللامحدود باحثا عن الكينونة؛ عندما يتهددها فيروس اللاقيم واللامعنى الخراب والموت، وهنا نقف عند حقيقة أن كلا منهما يسعى إلى الفناء في الذات الباطنية المتقدة بنيران الرغبة في مراودة الآتي، والنظر عبر الحلم والرؤية بالنسبة للشاعر؛ ومن خلال، الاستيهامات الْمَنَامِية أي الحُلمية؛ والرؤيا بالنسبة للصوفي، فالفناء يمثل لهما ذلك الخلاص الذي ينقذ الذات من السقوط في شرَك الزائل، واعتناق الأبدي، في سيرورة تفاعلية تمجد الصفاء الروحي والسمو القِيمِي وتعطل الحواس والمدرك الحسي للصوفي، والاكتمال الذاتي وتحقيق الكيان متخيلا للشاعر. Bas du formulaire
الشاعر يبني صداقة إبداعية مع الصوفي انطلاقا من كونهما ينهلان من المنبع نفسه، رغم اختلافهما في طريقة القول، منبع الذات والكون، الذات ككتاب منغلق على الدواخل المنسية في قارة الجسد، التي يكتشفها الشاعر عبر لغة الشعور والحس العميق، ومجرة من المشاعر الفياضة الملتبسة بألم المعاناة، وحرقة الاغتراب، والكون باعتباره السؤال اللغز، الذي يحفزه على الرحيل في مساربه ومسالكه المتشعبة والمُوغلة في الأسرار.
في حين نجد الصوفي يسلك مسلك المحبة والعشق والذوق لتعرية حجب الذات والكون وتمزيقها حتى تدرك ماهية الحلول والفناء مع الذات كعالم مبهم وبالتركيز على الباطن، والكون كوسيلة من وسائل البحث عن الذات الإلهية، إن سيرة الصبابة عنوان الصوفي المتغلغل في العالم بروح القلب ويقظة الجوارح الباطنية، هذه السيرة تقوده إلى جغرافيات في الذات والوجود في حكم الالتباس والغموض، في حين أن الشاعر تتجلى سيرته في القبض على جمر الأسئلة المقلقة، والنابضة بالاحتراق الْجَوانِي المشتعل بنيران حب الآتي بلغة شعرية مضاءة بمكابدة التجربة.
ولا غرو في ذلك مادامت الكتابة تصور نابع من أرض الذات ومتخيل الواقع، تماشيا مع الصيرورة المجتمعية والفكرية والإبداعية، فإذا كان الشاعر القديم مثلا حين يقف على الطلل فهو يسعى إلى بناء ما تهدم واقعيا بالشعر، من خلال عملية الاسترجاع للذاكرة المشتركة بينه وبين من تركوا الرسْم يقول تاريخ المكان بوساطة الذكريات والأنفاس والهمهمات والعواطف الفياضة، في حين نجد الصوفي لا يقف على الطلل أو المقدمة الغزلية أو الخمرية، وإنما يلوذ إلى السماء طالبا الانغماس الكلي في الذات الإلهية ونسيان الأرض الفضاء الدنَسِي إن صح القول، لتحقيق المبتغى الكينوناتي المفتوح على احتمالات ذاتية ووجودية.
الشاعر في القصيدة يبحث عن ذاته، هذه الذات المغلولة بالنفي والاغتراب، بالسأم والعدمية المنبثقة من شعوره باللامعنى من حياة تفتقد فيها قيمة العقل، وعقلانية القيم، بل هو على الدوام يحفر مجراه عكس الآخر، ضد التقليدانية وكل ما هو مقدس في الذهنية المتخلفة، ضد عبودية أوثان الماضي، ضد الليل اللابس عقلية القطيع.
الشاعر يبحث عن الشمس المشرقة من الباطن، والمختفية وراء سحب الوعي الجمعي، هو خالق وعيه الفردي بذاته التواقة للحرية، فهو شبيه بالطير الذي يأبى الأقفاص ويعشق سماء يتنسم فيها هواء وجوده. الشاعر نرجسي إلى درجة حُلولية مع الذات، لكونه سادنها وحارسها والعارف بأحوالها، والساعي إلى اكتشاف أسرارها، لذلك نجده بعيدا عن جلبة الجماعة، وتفاهاتها، يختار المنافي للإقامة، والترحال في مسارب الوجود عله يظفر بنفسه، لكن في المقابل يروم الصوفي إلى الانشطار في عوالم الوجود، طالبا راغبا في معانقة الكوامن المنسية من العالم، ومنقبا عن المنفلت منه عله يظفر ولو بالنزْر القليل من تلك الشعل البعيدة المضيئة في المناطق المعتمة من الروح والبوح، فالصوفي يبوح بلغة الإشارات وينوح بقلب العبارات إلى عبور صوب المجاهل والمخفي منها، فالرغبة في الحلول هي المعادل الموضوعي في كتابات الصوفي الشعرية الباذخة برؤى صادحة باللامحدود في الوجود، وفي هذا السياق يحضرني للحلاج وهو يرتضي طريق الانصهار والذوبان في الذات الإلهية، فهوى الصوفي هوى حلولي باطني والرؤية بصيرة أو بعين الحدس. حين يقارن ذاته بذات الإله، وفي هذا انحراف عن الزمن الفيزيولوني إلى الزمن الأسطوري المنبثق من رحِم اللانهائي يقول الحلاج:
أَنَا مَنْ أَهْوَى وَمَنْ أَهْوَى أَنَا نَحْنُ رُوحَانِ حُلِلْنَا بَدَنَا
نَحْنُ مُذْ كُنا عَلَى عَهْدِ الْهَوَى تُضْرَبُ الأَمْثَالُ لِلناسِ بِنَا
فَإِذَا أَبْصَرْتَنِي أَبْصَرْتَهُ وَإِذَا أَبْصَرْتَهُ أَبْصَرْتَنَا
أَيهَا السائِلُ عَنْ قَضِيتِنَا لَوْ تَرَانَا لَمْ تُفَرقْ بَيْنَنَا
رُوحُهُ رُوحِي وَرُوحِي لرُوحُهُ مَنْ رَأَى رُوحَيْنِ حَلتْ بَدَنَا
إن لغة الصوفي لغة إشارية إيحائية تتحول إلى علامات تحتاج إلى تقشير دلالتها السطحية للغوص في المعاني العميقة المتوارية بين طيات المقول، هذه الرمزية، عند الصوفي، تكشف عن العلاقة التفاعلية مع مكونات الوجود، ولكونها طريقة لإدراك ما لا يستطاع التعبير عنه بتعبير يونغ كما أنها وسيلة تبرز ذاك التلاحم الروحي بين الذات الإنسانية والذات الإلهية في تواشج حلولي تقف الذات في حالة دهشة لا توصف، وهنا مكمن جمالية النص الصوفي المباغت والمستفز للذائقة التي لا ترى في الكتابة الإبداعية إلا ترجيعا لصوت الأسلاف، ومن تم يمكننا القول إن اللغة الصوفية لغة إيمائية خارجة عن طوق اللغة المتواضع عليها أو المتداولة، وفي هذا انتصار للخيال الجانح صوب مساحات خضراء ممتدة في المجهول واللانهائي. فسِمَة المفارقة خصيصة من خصائص إبداعية النص الصوفي، لكونها تسلك، في التعبير عن الحالة، مسالك السالكين والعارفين بالباطن والمهملين الظاهر؛ وهنا مكمن الوصل الذي يسعى إليه الصوفي، فالمحبة وصل، والمكابدة وصل، والوجدانية وصل، والحق وصل حيث تتلاشى مكونات الخالق وتينع الذات مخضبة بحناء التماهي، ومعطرة بأنفاس الخالق.
في حين نجد الشاعر يسلك مسلك الذاتية كتجل من تجليات التعبير عن الرغبة في البحث عن الكينونة في واقع متحول ومتقلب المناخات، مما يفرض على الذات أن تفتح منافذ لتضيء هذا الملتبس والمُعْتم في الذات والواقع بلغة تركن إلى الترميز والتشفير، وتستعيد ذاكرة الذات والعالم في صور تشكيلية تتميز بجماليات فنية مُبْهِرَة ومستفزة، وهذا ما يجعل الشاعر دائما في حضرة موشومة بالانفعالية، في الوقت الذي نجد الصوفي يوجد في حضرة تفاعلية، وهنا مكمن الاختلاف، فالصوفي ينسى الذات لتندغم مع الآخر الإلهي، في حين أن هاجس الشاعر يتمثل في التعبير عن الذات، كما نجد الصوفي يخصب الوجود بسؤال الفيض، والشاعر يشحن اللغة بطاقة المشاعر والعواطف.
لا غرو في أن العلاقة التي تربط الصوفي والشاعر علاقة صداقة حمِيمية تتواشج في المكابدات والوجدان، غير أن مكابدة الصوفي مكابدة وجودية حُلولية، في الوقت الذي يصر فيه الشاعر على أن تكون مكابداته ووجدانه ملتصقين بالذات كحاضن للوجود، وعندما تُشْحن اللغة بحرارة التجربة عند الشاعر حيث الغنائية هوية الذات، وبفاعلية وتفاعلية التجربة عند الصوفي حيث التجاذب بين الحق والأنا دليل الحلولية. من هذا المَيْسَم ما يجعلنا نؤكد على تلك الرابطة الوشيجة بين الشعر والصوفية كتمثل للذات والوجود. هي وشيجة منبعها هذا الحب المنبثق من عذابات ومحنة كل منهما في تجسير الهوة وردمها بين الذوات والعوالم المترامية الأطراف في المجهول، إنها سيرة الإبداع الخالق والخارق، الإبداع المترحل في فجوات الوجود، والناسج آصرة الكائن بالكون نسْجاً العمق الداخلي جوهره، والظاهر اللاحب مَنْبِتُهُ.
....
٭ شاعر من المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.