مجلس وزراء الداخلية العرب يشارك العالم الاحتفال باليوم العالمي للحد من الكوارث    محافظ أسيوط يستقبل وزير الإسكان لمتابعة المشروعات التنموية والبنية التحتية    8 أسباب جعلت المتحف المصرى الكبير أخضر صديقا للبيئة ومحايد كربونيا    فتح: قمة شرم الشيخ خطوة مهمة لإرساء مسار سياسى لإنهاء الاحتلال وحل الدولتين    «حسام زكي»: الموقف المصري كان له بالغ الأثر في تغيير دفة الحوار السياسي    هل يلحق عمر جابر بلقاء الزمالك أمام ديكيداها الصومالي ..مصدر يوضح    الأرصاد تكشف تفاصيل حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة بكل الأنحاء    المرور يضبط أكثر من 105 آلاف مخالفة في يوم واحد ويكشف 105 حالات تعاطي    حملات تموينية تضبط 12 طن دقيق وتواجه التلاعب بأسعار الخبز    محافظ قنا يزور مصابي حادث أتوبيس عمال الألومنيوم    «المالية»: فرص اقتصادية متميزة للاستثمار السياحي بأسيوط    نائب محافظ الأقصر يشهد تدريبًا لتأهيل الشباب للعمل بقطاع السياحة والفندقة    اليوم.. بدء استيفاء نموذج الطلب الإلكتروني للمواطنين المخاطبين بقانون «الإيجار القديم» (تفاصيل)    ارتفاع أسعار النفط مع بوادر تراجع حدة التوتر التجاري بين الصين وأمريكا    مصادر تكشف مصير 4 أعضاء ب«النواب» تم تعيينهم في «الشيوخ»    جامعة بنها: فحص 4705 شكاوى بالمنظومة الموحدة.. تفعيل نقطة اتصال جديدة لخدمة المواطنين    د. أيمن الرقب يكتب : إفريقيا ساحة الصراع الخفية    "هتفضل عايش في قلوبنا".. ريهام حجاج تنعى الصحفي الفلسطيني صالح الجعفراوي    البيت الأبيض: ترامب يتابع إطلاق الرهائن من على متن الطائرة الرئاسية    عاجل- فتح: قمة شرم الشيخ خطوة مهمة لإرساء مسار سياسي لإنهاء الاحتلال وحل الدولتين    إعلان أسماء مرشحي القائمة الوطنية بانتخابات مجلس النواب 2025 بمحافظة الفيوم    تشكيل منتخب فرنسا المتوقع أمام آيسلندا في تصفيات كأس العالم 2026    بتواجد أبو جريشة.. الكشف عن الجهاز الفني المساعد ل عماد النحاس في الزوراء العراقي    الدرندلي بعد فوز المنتخب: "أول مرة أشوف جمهور مصر بالكثافة دي"    وزير الرياضة: دعم متكامل للمنتخب الوطني.. وما تحقق في الكرة المصرية إنجاز يستحق الفخر    وزيرا ري مصر والأردن يفتتحان الاجتماع ال38 للشبكة الإسلامية لتنمية وإدارة مصادر المياه    بعد منحها ل«ترامب».. جنازة عسكرية من مزايا الحصول على قلادة النيل    محمد رمضان يوجّه رسالة تهنئة ل«لارا ترامب» في عيد ميلادها    تباين أداء مؤشرات البورصة في بداية تداولات اليوم وسط مشتريات محلية وعربية    مازال البحث جاري.. مصرع تلميذة في حادث مصرف أسيوط و الحماية المدنية تكثف البحث عن المفقودين    حجز محاكمة معتز مطر ومحمد ناصر و8 أخرين ب " الحصار والقصف العشوائي " للنطق بالحكم    إخماد ذاتي لحريق داخل محطة كهرباء ببولاق دون وقوع إصابات    تجارة السلاح كلمة السر.. تفاصيل جريمة غسل أموال ب 130 مليون جنيه    محدش يعرف حاجة عنهم.. 5 أبراج تكتم أسرارها وخطوات حياتها عن الناس    وزير السياحة يترأس اجتماع مجلس إدارة هيئة المتحف القومي للحضارة المصرية    أحمد فهمي الأعلى مشاهدة ب «ابن النادي»    بورسعيد أرض المواهب.. إطلاق مسابقة فنية لاكتشاف المبدعين    الليلة بمسرح السامر.. قصور الثقافة تطلق ملتقى شباب المخرجين في دورته الرابعة    آداب القاهرة تحتفل بمناسبة مرور 100 عام على تأسيس قسم الدراسات اليونانية واللاتينية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 13-10-2025 في محافظة قنا    أوقاف السويس تبدأ أسبوعها الثقافي بندوة حول المحافظة البيئة    هل الغسل يغني عن الوضوء؟ أمين الفتوى يوضح الحكم الشرعي بالتفصيل    رئيس «الرعاية الصحية» يتفقد مجمع الفيروز بجنوب سيناء استعدادًا لقمة شرم الشيخ    مباحثات مصرية - ألمانية لتعزيز التعاون وفرص الاستثمار في القطاع الصحي    مرور مكثف على 112 منشأة صحية ضمن خطة تطوير الرعاية الأولية بالفيوم    انتظام اللجان الخاصة بالكشف الطبي لمرشحي انتخابات مجلس النواب بالأقصر    وزارة الخارجية تهنئ السفراء المعينين في مجلس الشيوخ بقرار من فخامة رئيس الجمهورية    بعد استشهاده أمس.. ننشر نص وصية صالح الجعفراوي    مئات الإسرائيليين يتجمعون في تل أبيب ترقبا لإطلاق سراح الرهائن من غزة    موعد مباراة منتخب المغرب ضد فرنسا فى نصف نهائى كأس العالم للشباب    تحرك عاجل من نقابة المعلمين بعد واقعة تعدي ولي أمر على مدرسين في أسيوط    هل يجوز الدعاء للميت عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟.. «الإفتاء» توضح    موجودة في كل بيت.. أهم الأطعمة لتقوية المناعة خلال تغير الفصول    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 13 أكتوبر 2025 في القاهرة والمحافظات    قبل عرضه بمهرجان الجونة.. طرح البوستر الرسمى لفيلم «50 متر»    فاروق جعفر: هدفنا الوصول إلى كأس العالم ونسعى لإعداد قوي للمرحلة المقبلة    صلاح وزوجته يحتفلان بالتأهل في أرضية ستاد القاهرة    البطاقة 21.. غانا تتأهل لكأس العالم 2026    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعر الصوفى
من ‬أخناتون ‬إلى ‬ذى ‬النون

الشعر ‬الصوفي ‬المصري ‬هو ‬موضوع ‬حديث ‬هذا ‬الشهر ‬في ‬هذه ‬السلسلة ‬التي ‬أكتبها ‬عن ‬مصر ‬الشاعرة.‬ ووراء ‬اختياري ‬لهذا ‬الموضوع ‬عدة ‬اعتبارات ‬أولها ‬أن ‬التصوف ‬كان ‬مجالا ‬من ‬أولي ‬المجالات ‬التي ‬نظم ‬فيها ‬المصريون ‬شعرهم ‬باللغة ‬العربية ‬التي ‬ارتبطت ‬بالإسلام، ‬لأنها ‬لغة ‬البلاد ‬التي ‬ظهر ‬فيها ‬هذا ‬الدين، ‬ولغة ‬كتابه ‬المقدس، ‬ولغة ‬الفاتحين ‬العرب ‬الذين ‬حملوا ‬الإسلام ‬لمصر، ‬ولغة ‬الشعوب ‬التي ‬اعتنقت ‬الإسلام ‬ونطقت ‬بلغته ‬وعبرت ‬عن ‬نفسها ‬في ‬المجالات ‬المختلفة ‬خاصة ‬في ‬المجالات ‬التي ‬ارتبطت ‬بالدين ‬ومنها ‬التصوف ‬الذي ‬شارك ‬المصريون ‬في ‬وضع ‬أسسه، ‬وربما ‬سبقوا ‬غيرهم ‬في ‬ذلك، ‬إذ ‬وجدوه ‬مجالا ‬يمزجون ‬فيه ‬بين ‬العقيدة ‬الجديدة ‬بأصولها ‬وشرائعها ‬التي ‬تلقوها ‬عن ‬العرب ‬الفاتحين ‬وبين ‬تراثهم ‬الروحي ‬العريق ‬الموروث ‬عن ‬أسلافهم ‬المسيحيين ‬والفراعنة.‬
وإذا ‬كان ‬المصريون ‬قد ‬لعبوا ‬دورا ‬مهما ‬في ‬الحركة ‬الصوفية ‬فقد ‬لعبوا ‬هذا ‬الدور ‬أيضا ‬في ‬الشعر ‬الصوفي ‬الذي ‬نستطيع ‬أن ‬نقول ‬إنه ‬اللغة ‬الأولي ‬التي ‬عبر ‬بها ‬المتصوفة ‬المسلمون ‬عن ‬عواطفهم ‬وأفكارهم. ‬فالتصوف ‬وجدان ‬وانفعال ‬قبل ‬أن ‬يكون ‬أفكارا ‬ونظريات، ‬أو ‬هو ‬باللغة ‬الصوفية ‬وجد، ‬وجذب، ‬وعشق، ‬وسكر، ‬وفناء. ‬وهذه ‬أحوال ‬لايعبر ‬عنها ‬إلا ‬الشعراء ‬كما ‬فعل ‬ذو ‬النون ‬المصري، ‬والحلاج، ‬ورابعة ‬العدوية، ‬ومحيي ‬الدين ‬بن ‬عربي ‬من ‬شعراء ‬العربية، ‬وكما ‬فعل ‬جلال ‬الدين ‬الرومي، ‬وفريد ‬الدين ‬العطار ‬وغيرهما ‬من ‬المتصوفة ‬المسلمين ‬الذين ‬نظموا ‬أشعارهم ‬بالفارسية ‬والتركية ‬والأوردية ‬وغيرها.‬
ونحن ‬نري ‬أن ‬الشعر ‬الصوفي ‬ظهر ‬أول ‬ماظهر ‬في ‬مصر ‬مع ‬ذي ‬النون ‬المصري ‬الذي ‬عاش ‬بين ‬أواسط ‬القرن ‬الثاني ‬الهجري ‬وأواسط ‬القرن ‬الذي ‬تلاه ‬ ‬الثامن ‬والتاسع ‬الميلاديين ‬ ‬وازدهر ‬في ‬القرون ‬الثلاثة ‬التالية ‬مع ‬ابن ‬الفارض ‬والذين ‬عاصروه. ‬وتلك ‬هي ‬المرحلة ‬التي ‬انتشرت ‬فيها ‬اللغة ‬العربية ‬في ‬مصر ‬وتمصرت ‬وأصبحت ‬لغة ‬الحياة ‬اليومية، ‬بالإضافة ‬إلي ‬كونها ‬لغة ‬الدين ‬والعلم ‬والثقافة. ‬فإذا ‬كنت ‬قد ‬بدأت ‬هذه ‬السلسلة ‬من ‬الشعر ‬الذي ‬نظمة ‬المصريون ‬بلغتهم ‬الأولي ‬الهيروغليفية ‬وانتقلت ‬منه ‬إلي ‬الشعر ‬القبطي ‬حتي ‬وصلت ‬في ‬المقالتين ‬السابقتين ‬إلي ‬الشعر ‬المصري ‬المنظوم ‬باللغة ‬العربية ‬كما ‬وجدناه ‬عند ‬البهاء ‬زهير ‬فالحديث ‬اليوم ‬عن ‬الشعر ‬الصوفي ‬حديث ‬في ‬مكانه ‬من ‬هذا ‬التاريخ، ‬لأن ‬البهاء ‬زهير ‬كان ‬معاصرا ‬لابن ‬الفارض.‬
وأخيرا ‬فقد ‬وجدت ‬أن ‬مقالة ‬في ‬الشعر ‬الصوفي ‬هي ‬أنسب ‬مايكون ‬للكتابة ‬والقراءة ‬ونحن ‬غير ‬بعيدين ‬عن ‬رمضان. ‬ولنبدأ ‬بذي ‬النون ‬المصري.‬
نبدأ ‬بذي ‬النون ‬المصري ‬لأنه ‬الأول ‬في ‬ثلاثة: ‬في ‬التاريخ ‬لأنه ‬ولد ‬في ‬أواسط ‬القرن ‬الثاني ‬الهجري ‬كما ‬أشرت ‬من ‬قبل، ‬وفي ‬التصوف ‬لأنه ‬بشهادة ‬الكثيرين ‬‮»‬أحق ‬رجال ‬الصوفية ‬علي ‬الاطلاق ‬بأن ‬يطلق ‬عليه ‬اسم ‬واضع ‬أسس ‬التصوف‮«‬ ‬كما ‬يقول ‬العلامة ‬نيكولسون ‬في ‬كتابه ‬‮»‬التصوف ‬الإسلامي ‬وتاريخه‮«‬. ‬ويقول ‬عنه ‬الشاعر ‬الصوفي ‬الفارسي ‬جامي ‬الذي ‬عاش ‬في ‬القرن ‬الخامس ‬عشر ‬الميلادي ‬بعد ‬ذي ‬النون ‬بستة ‬قرون ‬إنه ‬‮»‬رأس ‬هذه ‬الفرقة. ‬فالكل ‬قد ‬أخذ ‬عنه ‬وانتسب ‬إليه. ‬وقد ‬كان ‬المشايخ ‬قبله، ‬ولكنه ‬كان ‬أول ‬من ‬فسر ‬إشارات ‬الصوفية ‬وتكلم ‬في ‬هذا ‬الطريق‮«‬. ‬ثم ‬إن ‬ذا ‬النون ‬أول ‬في ‬الشعر ‬المصري ‬المنظوم ‬باللغة ‬العربية: ‬
الخوف ‬أولي ‬بالمسيء ‬إذا ‬تأله ‬والحزن
والحب ‬يجمل ‬بالتقي ‬وبالنقي ‬من ‬الدرن
وأنا ‬لا ‬أقدم ‬هنا ‬إلا ‬بعض ‬ما ‬وجدته ‬من ‬شعر ‬ذي ‬النون ‬في ‬بعض ‬المؤلفات ‬والسير ‬التي ‬تتحدث ‬عن ‬التصوف ‬والمتصوفين. ‬وهو ‬مقطوعات ‬وأبيات ‬متناثرة ‬لايصح ‬أن ‬نعتمد ‬عليها ‬في ‬الحكم ‬علي ‬شاعرية ‬ذي ‬النون، ‬وإن ‬كانت ‬دليلا ‬علي ‬هذه ‬الشاعرية، ‬فضلا ‬عما ‬تتضمنه ‬من ‬ثقافة ‬عميقة ‬وفهم ‬للتصوف ‬كما ‬عرفه ‬ذو ‬النون ‬ورآه ‬طريقا ‬إلي ‬الله ‬يسلكه ‬الصوفي ‬ويجاهد ‬فيه ‬نفسه ‬ليخلصها ‬من ‬أدرن ‬الدنيا ‬ويطهرها ‬مما ‬يبعث ‬علي ‬الخوف ‬والحزن ‬حتي ‬يصبح ‬روحا ‬خالصة ‬تنسي ‬نفسها ‬وتتفاني ‬في ‬ذكر ‬الله ‬ولاتري ‬في ‬الكون ‬سواه.‬
وقد ‬عبر ‬ذو ‬النون ‬عن ‬هذا ‬الوعي ‬في ‬شعره ‬كما ‬عبر ‬عنه ‬بتفصيل ‬وتعمق ‬في ‬نثره ‬الذي ‬أصبح ‬مصدرا ‬أساسيا ‬للتصوف ‬وتحولت ‬عباراته ‬ومفرداته ‬التي ‬استخدم ‬فيها ‬المجاز ‬إلي ‬مصطلحات ‬نعرف ‬ماتدل ‬عليه ‬حين ‬نتحدث ‬عن ‬الذكر ‬والقرب، ‬وعن ‬الوجد ‬والسماع، ‬وعن ‬الكأس ‬والخمرة، ‬وعن ‬الفناء ‬والمجاهدة:‬
لك ‬من ‬قلبي ‬المكان ‬المصون
كل ‬لوم ‬علي ‬فيك ‬يهون
لك ‬عزم ‬بأن ‬أكون ‬قتيلا
فيك ‬والصبر ‬عنك ‬مالا ‬يكون!‬
هكذا ‬شارك ‬ذو ‬النون ‬وشاركنا ‬عن ‬طريقه ‬في ‬وضع ‬أسس ‬التصوف ‬وفي ‬إضافة ‬هذا ‬البعد ‬الروحي ‬للإسلام ‬ولثقافته ‬التي ‬بدأت ‬فقها ‬ثم ‬انتقلت ‬من ‬الفقة ‬إلي ‬التصوف ‬والفلسفة. ‬الفقة ‬لمعرفة ‬ماهو ‬مشترك ‬بين ‬كل ‬المسلمين. ‬والتصوف ‬والفلسفة ‬للخاصة ‬التي ‬لاتكتفي ‬بالاتباع ‬والنقل ‬وإنما ‬تبحث ‬عما ‬يرضي ‬العقل ‬ويطفيء ‬ظمأ ‬القلب ‬والروح، ‬وفي ‬هذ ‬يقول ‬عمر ‬بن ‬الفارض ‬في ‬تائيته:‬
وإسراء ‬سري ‬عن ‬خصوص ‬حقيقة
إلي ‬كسيري ‬في ‬عموم ‬الشريعة
ولم ‬أله ‬باللاهوت ‬عن ‬حكم ‬مظهري
ولم ‬أنس ‬بالناسوت ‬مظهر ‬حكمتي
يقول ‬مامعناه ‬إن ‬إسراء ‬الروحي ‬في ‬طلب ‬الحقيقة ‬التي ‬يطلبها ‬الخاصة ‬يرافق ‬سيره ‬في ‬طريق ‬الشريعة ‬التي ‬يسلكها ‬الجميع. ‬وإن ‬ماهو ‬إلهي ‬فيه ‬لايصرفه ‬عما ‬هو ‬بشري، ‬كما ‬أن ‬البشري ‬لايصرفه ‬عما ‬هو ‬إلهي.‬
لكن ‬هذه ‬الثقافة ‬التي ‬أتاحت ‬لذي ‬النون ‬أن ‬يضع ‬أسس ‬التصوف ‬أو ‬يشارك ‬في ‬وضعها ‬لم ‬تكن ‬مجرد ‬اجتهاد ‬شخصي ‬وإنما ‬هي ‬تعبير ‬متفرد ‬عن ‬ثقافة ‬قومية ‬بدأها ‬المصريون ‬في ‬أيام ‬أخناتون، ‬وواصلوها ‬في ‬المسيحية، ‬ومن ‬ثم ‬في ‬الإسلام.‬
يقول ‬القفطي ‬عن ‬ذي ‬النون ‬ ‬والقفطي ‬مؤرخ ‬مصري ‬ينتسب ‬لقفط ‬وهي ‬مدينة ‬مصرية ‬قديمة ‬تقع ‬علي ‬الشاطيء ‬الشرقي ‬للنيل ‬قرب ‬الأقصر ‬ولاتزال ‬تحمل ‬اسمها ‬الفرعوني ‬‮»‬قبطيو‮«‬ ‬محرفا ‬بعض ‬الشيء، ‬وقد ‬عاش ‬القفطي ‬في ‬القرنين ‬الثاني ‬عشر ‬والثالث ‬عشر ‬الميلاديين ‬وعاصر ‬ابن ‬الفارض ‬وكان ‬إلي ‬جانب ‬اشتغاله ‬بالتاريخ ‬شاعرا ‬ولغويا ‬ ‬يقول ‬في ‬كتابه ‬‮»‬إخبار ‬العلماء ‬بأخبار ‬الحكماء‮«‬: ‬‮»‬ذو ‬النون ‬ابن ‬إبراهيم ‬الاخميمي ‬المصري ‬من ‬طبقة ‬جابر ‬بن ‬حيان ‬في ‬انتحال ‬صناعة ‬الكيمياء. ‬وتقلد ‬علم ‬الباطن ‬ ‬أي ‬التصوف ‬ ‬والإشراف ‬علي ‬كثير ‬من ‬علوم ‬الفلسفة. ‬وكان ‬كثير ‬الملازمة ‬لبربا ‬بلدة ‬بأخميم ‬ ‬والبربا ‬اسم ‬يطلق ‬علي ‬آثار ‬الفراعنة ‬ ‬فإنها ‬بيت ‬من ‬بيوت ‬الحكمة ‬القديمة، ‬وفيها ‬التصاوير ‬العجيبة ‬والمثالات ‬الغريبة ‬التي ‬تزيد ‬المؤمن ‬إيمانا ‬والكافر ‬طغيانا. ‬ويقال ‬إنه ‬فتح ‬عليه ‬علم ‬ما ‬فيها ‬بطريق ‬الولاية. ‬وكانت ‬له ‬كرامات‮«‬.‬
ونحن ‬نعرف ‬أن ‬ذا ‬النون ‬ولد ‬في ‬زمن ‬وفي ‬مناطق ‬كان ‬فيها ‬المصريون ‬لايزالون ‬يتحدثون ‬بلغتهم ‬القبطية ‬وهي ‬امتداد ‬للهيروغليفية، ‬وكان ‬معظمهم ‬لايزال ‬يدين ‬بالمسيحية. ‬ويقول ‬الأستاذ ‬نيكولسون ‬إن ‬ذا ‬النون ‬‮»‬انحدر ‬هو ‬نفسه ‬من ‬أصل ‬قبطي ‬أو ‬نوبي‮«‬. ‬ويقول ‬الذين ‬أرخوا ‬له ‬إنه ‬كان ‬كثير ‬العكوف ‬علي ‬دراسة ‬النقوش ‬المصرية ‬القديمة ‬المكتوبة ‬علي ‬جدران ‬المعابد ‬وحل ‬رموزها. ‬وسواء ‬صح ‬هذا ‬أو ‬لم ‬يصح ‬فالذي ‬لاشك ‬فيه ‬أن ‬ذا ‬النون ‬كان ‬وثيق ‬الصلة ‬بالثقافة ‬المسيحية ‬القبطية ‬وبالتراث ‬المصري ‬القديم ‬الذي ‬نستطيع ‬أن ‬نعثر ‬فيه ‬علي ‬أصول ‬الفكر ‬الصوفي ‬أو ‬علي ‬بداياته ‬الأولي.‬
حين ‬يناجي ‬أخناتون ‬ربه ‬الواحد ‬الأحد ‬فيقول ‬له ‬‮»‬إنك ‬في ‬قلبي، ‬وليس ‬هناك ‬من ‬يعرفك ‬غير ‬ابنك ‬الذي ‬ولد ‬من ‬صلبك‮«‬ ‬نتذكر ‬العبارات ‬المماثلة ‬التي ‬وردت ‬في ‬بيت ‬ذي ‬النون ‬‮»‬لك ‬من ‬قلبي ‬المكان ‬المصون. ‬كل ‬لوم ‬علي ‬فيك ‬يهون‮«‬.‬
وحين ‬نقرأ ‬أناشيد ‬تحوت ‬التي ‬يقول ‬فيها ‬وهو ‬يتحدث ‬عن ‬ربه ‬‮»‬إنه ‬النور ‬الذي ‬يسطع ‬بداخلك. ‬نور ‬الخالق ‬الذي ‬أبدع ‬منه ‬الكون. ‬هو ‬يسكن ‬روحك ‬التي ‬تطوف ‬بعقلك. ‬هو ‬قدس ‬معبدك. ‬ومعبدك ‬هو ‬أنت. ‬والكون ‬يتجلي ‬فيك ‬ببهائه‮«‬ ‬ ‬حين ‬نقرأ ‬هذا ‬النشيد ‬الرائع ‬نتذكر ‬ما ‬قاله ‬ذو ‬النون ‬عن ‬معرفة ‬الله ‬‮»‬لو ‬تمثلت ‬المعرفة ‬رجلا ‬لهلك ‬كل ‬من ‬نظر ‬إليها ‬لفرط ‬جمالها ‬وحسنها ‬وطيبها ‬ولطفها، ‬ولبدا ‬كل ‬نور ‬ظلاما ‬بالقياس ‬إلي ‬بهائها‮«‬.‬
فإذا ‬انتقلنا ‬من ‬التراث ‬الفرعوني ‬إلي ‬التراث ‬القبطي ‬فسوف ‬نفاجأ ‬بما ‬نجده ‬من ‬صور ‬التماثل ‬والتطابق ‬بين ‬التصوف ‬المسيحي ‬والتصوف ‬الإسلامي ‬في ‬مصر. ‬ويكفي ‬أن ‬أقدم ‬هنا ‬مثلا ‬واحدا ‬مما ‬روي ‬عن ‬ذي ‬النون ‬الذي ‬شكت ‬له ‬امرأة ‬من ‬تمساح ‬خطف ‬ابنها ‬واختفي ‬به ‬في ‬النيل، ‬فنادي ‬ذو ‬النون ‬التمساح ‬الذي ‬لباه ‬فشق ‬جوفه ‬وأخرج ‬الطفل ‬حيا. ‬ومما ‬روي ‬عن ‬القديس ‬أنطونيوس ‬مؤسس ‬الرهينة ‬المسيحية ‬الذي ‬ذهب ‬ليزور ‬الأنبا ‬بولا ‬في ‬مغارته ‬التي ‬كان ‬يتعبد ‬فيها ‬في ‬الصحراء ‬الشرقية ‬فأسلم ‬الروح ‬بين ‬يديه ‬وعندئذ ‬جاء ‬أسدان ‬كما ‬تذكر ‬الروايات ‬القبطية ‬فحفرا ‬القبر ‬الذي ‬قام ‬أنطونيوس ‬بدفن ‬الأنبا ‬بولا ‬فيه. ‬وقد ‬جرت ‬العادة ‬علي ‬رسم ‬هذين ‬الأسدين ‬ضمن ‬زخارف ‬الأيقونات ‬التي ‬تصور ‬الأنبا ‬بولا ‬كما ‬تقول ‬بربارة ‬واترسون ‬في ‬كتابها ‬‮»‬أقباط ‬مصر‮«‬.‬
غير ‬أن ‬التصوف ‬لم ‬يقف ‬عند ‬هذه ‬الحدود ‬التي ‬وضعها ‬له ‬ذو ‬النون ‬المصري، ‬لافي ‬مصر ‬ولا ‬في ‬غيرها ‬من ‬بلاد ‬المسلمين، ‬وإنما ‬تطور ‬وتفلسف ‬وتعددت ‬مذاهبه ‬ونظرياته ‬علي ‬أيدي ‬كبار ‬المتصوفة ‬الذين ‬ظهروا ‬في ‬العراق ‬والشام ‬والمغرب ‬والأندلس ‬ومصر ‬أمثال ‬الحلاج، ‬والسهروردي، ‬ومحيي ‬الدين ‬بن ‬عربي، ‬وعمر ‬بن ‬الفارض ‬الذي ‬طور ‬مذهب ‬ذي ‬النون ‬في ‬الحب ‬وصعد ‬به ‬مقاما ‬بعد ‬مقام ‬حتي ‬وصل ‬إلي ‬الغناء ‬والاتحاد ‬كما ‬نري ‬في ‬قصيدته ‬التائية ‬الي ‬عبر ‬فيها ‬عن ‬هذا ‬المعراج ‬الروحي.‬
هذه ‬القصيدة ‬مطولة ‬بلغ ‬عدد ‬أبياتها ‬سبعمائة ‬وواحدا ‬وستين ‬بيتا. ‬وقد ‬نظمها ‬ابن ‬الفارض ‬في ‬البحر ‬الطويل ‬وجعل ‬التاء ‬قافية ‬لها. ‬وسوف ‬نختار ‬من ‬هذه ‬القصيدة ‬بعض ‬الأبيات ‬التي ‬تعبر ‬عن ‬مذهب ‬ابن ‬الفارض ‬في ‬التصوف ‬وتمثل ‬شاعريته. ‬لكننا ‬سنقدم ‬لها ‬بسطور ‬تساعد ‬علي ‬فهمها ‬وتذوقها.‬
يبدأ ‬ابن ‬الفارض ‬معراجه ‬بالانتقال ‬من ‬حالة ‬الصحو ‬العادية ‬إلي ‬حالة ‬السكر ‬التي ‬ينتشي ‬فيها ‬ويتحرر ‬مما ‬يشده ‬الي ‬هذا ‬العالم ‬ويصعد ‬درجة ‬بعد ‬درجة ‬حتي ‬يتحد ‬بمن ‬يحب، ‬وعندئذ ‬يستعيد ‬وعيه ‬بوجوده ‬الذي ‬يستمده ‬من ‬اتصاله ‬وليس ‬من ‬انفصاله:‬
سقتني ‬حُمياّ ‬الحب ‬راحة ‬مقلتي
وكأس ‬مُحيا ‬من ‬عن ‬الحسن ‬جلَّتِ
فأوهمت ‬صحبي ‬أن ‬شرب ‬شرابهم
به ‬سر ‬سري ‬في ‬انتشائي ‬بنظرتي
وبالحَدق ‬استغنيت ‬عن ‬قدحي ‬ومن
شمائلها ‬لا ‬من ‬شمولي ‬نشوتي
ففي ‬حان ‬سكري ‬حان ‬شكري ‬لفتيةٍ
بهم ‬تمَّ ‬لي ‬كتم ‬الهوي ‬مع ‬شهرتي!‬
ومعني ‬هذه ‬الأبيات ‬أنه ‬سكر ‬بالنظر ‬إلي ‬من ‬يحب، ‬فعينه ‬هي ‬هي ‬يمينه ‬التي ‬تناول ‬بها ‬الخمر، ‬وكأسه ‬وجه ‬محبوبه. ‬وقد ‬تظاهر ‬امام ‬أصحابه ‬بأنه ‬شرب ‬من ‬شرابهم ‬وانتشي ‬به. ‬غير ‬أنه ‬استغني ‬بالحدق ‬عن ‬القدح ‬وبالشمائل ‬عن ‬الشمول. ‬والشمائل ‬في ‬لغة ‬التصوف ‬هي ‬الجميل ‬حين ‬يمتزج ‬بالجليل. ‬أما ‬الشمول ‬فهي ‬الخمر. ‬والشاعر ‬يشكر ‬أصحابه ‬الذين ‬تستروا ‬عليه ‬وساعدوه ‬في ‬أن ‬يكتم ‬هواه، ‬حتي ‬يبلغ ‬درجة ‬الفناء ‬وعندئذ ‬تتفتح ‬له ‬أبواب ‬السموات ‬وينعم ‬بالقرب ‬ويتحد ‬بالمحبوب ‬كما ‬نري ‬في ‬الأبيات ‬التالية:‬
ومن ‬يتحرش ‬بالجمال ‬إلي ‬الردي
أري ‬نفسه ‬من ‬أنفس ‬العيش ‬رُدَّتِ
........‬
وعن ‬مذهبي ‬في ‬الحب ‬مالي ‬مذهب
وإن ‬ملت ‬يوماً ‬عنه ‬فارقت ‬ملتي ‬
وكل ‬الجهات ‬الست ‬نحوي ‬توجهت ‬
بما ‬تم ‬من ‬نسك ‬وحج ‬وعمرةِ
........‬
كلانا ‬مُصَلٍّ ‬واحدُُُُُ ‬ساجدُُ ‬إلي
حقيقته ‬بالجمع ‬في ‬كل ‬سجدة
وما ‬كان ‬لي ‬صلي ‬سواي ‬ولم ‬تكن
صلاتي ‬لغيري ‬في ‬أدا ‬كل ‬ركعة!‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.