في انتظار الحيثيات، موقف التعليم العالي من حكم الإدارية العليا بعودة التعليم المفتوح    مديرة مدرسة عبد السلام المحجوب عن واقعة إهانة المعلمة: الفيديو مدبر    خلال لقاء ودي بالنمسا.. البابا تواضروس يدعو رئيس أساقفة فيينا للكنيسة الكاثوليكية لزيارة مصر    بيلاي: صرخة العدالة تتصاعد.. والعدالة الرقمية تبرز مع اتساع فجوة عدم المساواة    المشاط: اللجان المشتركة إحدى الآليات الرئيسية لتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية مع الدول    الجامعة العربية تدين الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على سوريا    قوات الاحتلال الإسرائيلي تبدأ هدم 24 مبنى بمخيم جنين في الضفة الغربية    تشكيل منتخب مصر للكرة النسائية تحت 20 عاما أمام ليبيا فى بطولة شمال أفريقيا    عمر جابر: الزمالك جاهز لتخطي كايزر تشيفز وحصد ثلاث نقاط مهمة    الأهلي يكلف المستشارين القانونيين للنادى بالانضمام لفريق الدفاع عن رمضان صبحي    السيطرة على حريق باستديو مصر بالمريوطية    الدفع ب 6 سيارات إطفاء لإخماد حريق ستوديو مصر، ومصدر يكشف سبب الواقعة (فيديو)    إيقاف تصوير الكينج حتى إشعار آخر بعد حريق استوديو مصر    صدمة في الوسط الإعلامي لرحيل 3 من رموزه في أسبوع واحد    بمشاركة 23 فنانًا مصريا.. افتتاح معرض "لوحة في كل بيت" بأتيليه جدة الأحد    «الرعاية الصحية» تنظم جلسة نقاشية حول توسيع الوصول إلى الأدوية ودور القطاع الخاص    الصحة: جمع 295 كيس دم آمن في حملة تبرع بجامعة حلوان    محافظ شمال سيناء من معبر رفح: جاهزون للانتقال للمرحلة الثانية من اتفاق غزة    ضبط سائق نقل يهدد قائد سيارة أخرى بسبب التصوير أثناء السير برعونة بالقليوبية    طقس غد.. مفاجأة بدرجات الحرارة ومناطق تصل صفر وشبورة خطيرة والصغرى بالقاهرة 16    تعاطى وترويج على السوشيال.. القبض على حائزي المخدرات في الإسماعيلية    مصرع 3 شباب في انقلاب سيارة ملاكي بترعة المريوطية    وزير البترول: توقيع مذكرة تفاهم لإجراء مسح جوي شامل للإمكانات التعدينية على مستوى مصر    ارتفاع سعر الجمبري واستقرار لباقي أنواع الأسماك في أسواق دمياط    الاتصالات: إطلاق برنامج ITIDA-DXC Dandelion لتدريب ذوى الاضطرابات العصبية للعمل بقطاع تكنولوجيا المعلومات    تامر محسن يقدم ماستر كلاس في مهرجان الفيوم اليوم    تامر حسنى: بعدّى بأيام صعبة وبفضل الله بتحسن ولا صحة لوجود خطأ طبى    مهرجان شرم الشيخ المسرحى يحتفى بالفائزين بمسابقة عصام السيد للعمل الأول    المصري يتحرك نحو ملعب مواجهة زيسكو الزامبي في الكونفدرالية    من قلب البرلمان.. تحريك عجلة الشراكة الأورومتوسطية نحو تعاون اقتصادي أوسع    لتغيبهما عن العمل.. إحالة طبيبين للشؤون القانونية بقنا    بعد وفاة فتاة في المغرب.. باحث يكشف خطورة «غاز الضحك»    محافظ سوهاج: إزالة 7255 حالة تعدى على أملاك الدولة والأراضي الزراعية    تفريغ كاميرات المراقبة بواقعة دهس سيدة لطفلة بسبب خلاف مع نجلها بالشروق    أحمد الشناوي: مواجهة بيرامديز ل باور ديناموز لن تكون سهلة    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات والانهيارات الأرضية بإندونيسيا إلى 84 شخصًا    محافظة الجيزة تعلن غلق كلى ل شارع الهرم لمدة 3 أشهر لهذا السبب    شادية.. أيقونة السينما المصرية الخالدة التي أسرت القلوب صوتاً وتمثيلاً    الصحة: فحص نحو 15 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأورام السرطانية    أسعار البيض اليوم الجمعة 28 نوفمبر    استعدادات مكثفة في مساجد المنيا لاستقبال المصلين لصلاة الجمعة اليوم 28نوفمبر 2025 فى المنيا    خشوع وسكينة.. أجواء روحانية تملأ المساجد في صباح الجمعة    انقطاع الكهرباء 5 ساعات غدًا السبت في 3 محافظات    رئيس كوريا الجنوبية يعزي في ضحايا حريق المجمع السكني في هونج كونج    مواقيت الصلاه اليوم الجمعه 28نوفمبر 2025 فى محافظة المنيا    مواعيد مباريات اليوم الجمعة 28- 11- 2025 والقنوات الناقلة    "العمل" تجري اختبارات للمتقدمين لمهنة «عامل بناء» بالأردن    صلاة الجنازة على 4 من أبناء الفيوم ضحايا حادث مروري بالسعودية قبل نقلهم إلى مصر    بيونج يانج: تدريبات سول وواشنطن العسكرية تستهدف ردع كوريا الشمالية    45 دقيقة تأخير على خط «طنطا - دمياط».. الجمعة 28 نوفمبر 2025    محمد الدماطي يحتفي بذكرى التتويج التاريخي للأهلي بالنجمة التاسعة ويؤكد: لن تتكرر فرحة "القاضية ممكن"    الشرع يدعو السوريين للنزول إلى الشوارع في ذكرى انطلاق معركة ردع العدوان    عبير نعمة تختم حفل مهرجان «صدى الأهرامات» ب«اسلمي يا مصر»    دار الإفتاء توضح حكم إخراج الزكاة للأقارب.. اعرف قالت إيه    إعلام فلسطيني: الاحتلال يشن غارات جوية على مدينة رفح جنوب قطاع غزة    القانون يحدد ضوابط لمحو الجزاءات التأديبية للموظف.. تعرف عليها    أبوريدة: بيراميدز ليس له ذنب في غياب لاعبيه عن كأس العرب    الشيخ خالد الجندي يحذر من فعل يقع فيه كثير من الناس أثناء الصلاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعر الصوفى
من ‬أخناتون ‬إلى ‬ذى ‬النون

الشعر ‬الصوفي ‬المصري ‬هو ‬موضوع ‬حديث ‬هذا ‬الشهر ‬في ‬هذه ‬السلسلة ‬التي ‬أكتبها ‬عن ‬مصر ‬الشاعرة.‬ ووراء ‬اختياري ‬لهذا ‬الموضوع ‬عدة ‬اعتبارات ‬أولها ‬أن ‬التصوف ‬كان ‬مجالا ‬من ‬أولي ‬المجالات ‬التي ‬نظم ‬فيها ‬المصريون ‬شعرهم ‬باللغة ‬العربية ‬التي ‬ارتبطت ‬بالإسلام، ‬لأنها ‬لغة ‬البلاد ‬التي ‬ظهر ‬فيها ‬هذا ‬الدين، ‬ولغة ‬كتابه ‬المقدس، ‬ولغة ‬الفاتحين ‬العرب ‬الذين ‬حملوا ‬الإسلام ‬لمصر، ‬ولغة ‬الشعوب ‬التي ‬اعتنقت ‬الإسلام ‬ونطقت ‬بلغته ‬وعبرت ‬عن ‬نفسها ‬في ‬المجالات ‬المختلفة ‬خاصة ‬في ‬المجالات ‬التي ‬ارتبطت ‬بالدين ‬ومنها ‬التصوف ‬الذي ‬شارك ‬المصريون ‬في ‬وضع ‬أسسه، ‬وربما ‬سبقوا ‬غيرهم ‬في ‬ذلك، ‬إذ ‬وجدوه ‬مجالا ‬يمزجون ‬فيه ‬بين ‬العقيدة ‬الجديدة ‬بأصولها ‬وشرائعها ‬التي ‬تلقوها ‬عن ‬العرب ‬الفاتحين ‬وبين ‬تراثهم ‬الروحي ‬العريق ‬الموروث ‬عن ‬أسلافهم ‬المسيحيين ‬والفراعنة.‬
وإذا ‬كان ‬المصريون ‬قد ‬لعبوا ‬دورا ‬مهما ‬في ‬الحركة ‬الصوفية ‬فقد ‬لعبوا ‬هذا ‬الدور ‬أيضا ‬في ‬الشعر ‬الصوفي ‬الذي ‬نستطيع ‬أن ‬نقول ‬إنه ‬اللغة ‬الأولي ‬التي ‬عبر ‬بها ‬المتصوفة ‬المسلمون ‬عن ‬عواطفهم ‬وأفكارهم. ‬فالتصوف ‬وجدان ‬وانفعال ‬قبل ‬أن ‬يكون ‬أفكارا ‬ونظريات، ‬أو ‬هو ‬باللغة ‬الصوفية ‬وجد، ‬وجذب، ‬وعشق، ‬وسكر، ‬وفناء. ‬وهذه ‬أحوال ‬لايعبر ‬عنها ‬إلا ‬الشعراء ‬كما ‬فعل ‬ذو ‬النون ‬المصري، ‬والحلاج، ‬ورابعة ‬العدوية، ‬ومحيي ‬الدين ‬بن ‬عربي ‬من ‬شعراء ‬العربية، ‬وكما ‬فعل ‬جلال ‬الدين ‬الرومي، ‬وفريد ‬الدين ‬العطار ‬وغيرهما ‬من ‬المتصوفة ‬المسلمين ‬الذين ‬نظموا ‬أشعارهم ‬بالفارسية ‬والتركية ‬والأوردية ‬وغيرها.‬
ونحن ‬نري ‬أن ‬الشعر ‬الصوفي ‬ظهر ‬أول ‬ماظهر ‬في ‬مصر ‬مع ‬ذي ‬النون ‬المصري ‬الذي ‬عاش ‬بين ‬أواسط ‬القرن ‬الثاني ‬الهجري ‬وأواسط ‬القرن ‬الذي ‬تلاه ‬ ‬الثامن ‬والتاسع ‬الميلاديين ‬ ‬وازدهر ‬في ‬القرون ‬الثلاثة ‬التالية ‬مع ‬ابن ‬الفارض ‬والذين ‬عاصروه. ‬وتلك ‬هي ‬المرحلة ‬التي ‬انتشرت ‬فيها ‬اللغة ‬العربية ‬في ‬مصر ‬وتمصرت ‬وأصبحت ‬لغة ‬الحياة ‬اليومية، ‬بالإضافة ‬إلي ‬كونها ‬لغة ‬الدين ‬والعلم ‬والثقافة. ‬فإذا ‬كنت ‬قد ‬بدأت ‬هذه ‬السلسلة ‬من ‬الشعر ‬الذي ‬نظمة ‬المصريون ‬بلغتهم ‬الأولي ‬الهيروغليفية ‬وانتقلت ‬منه ‬إلي ‬الشعر ‬القبطي ‬حتي ‬وصلت ‬في ‬المقالتين ‬السابقتين ‬إلي ‬الشعر ‬المصري ‬المنظوم ‬باللغة ‬العربية ‬كما ‬وجدناه ‬عند ‬البهاء ‬زهير ‬فالحديث ‬اليوم ‬عن ‬الشعر ‬الصوفي ‬حديث ‬في ‬مكانه ‬من ‬هذا ‬التاريخ، ‬لأن ‬البهاء ‬زهير ‬كان ‬معاصرا ‬لابن ‬الفارض.‬
وأخيرا ‬فقد ‬وجدت ‬أن ‬مقالة ‬في ‬الشعر ‬الصوفي ‬هي ‬أنسب ‬مايكون ‬للكتابة ‬والقراءة ‬ونحن ‬غير ‬بعيدين ‬عن ‬رمضان. ‬ولنبدأ ‬بذي ‬النون ‬المصري.‬
نبدأ ‬بذي ‬النون ‬المصري ‬لأنه ‬الأول ‬في ‬ثلاثة: ‬في ‬التاريخ ‬لأنه ‬ولد ‬في ‬أواسط ‬القرن ‬الثاني ‬الهجري ‬كما ‬أشرت ‬من ‬قبل، ‬وفي ‬التصوف ‬لأنه ‬بشهادة ‬الكثيرين ‬‮»‬أحق ‬رجال ‬الصوفية ‬علي ‬الاطلاق ‬بأن ‬يطلق ‬عليه ‬اسم ‬واضع ‬أسس ‬التصوف‮«‬ ‬كما ‬يقول ‬العلامة ‬نيكولسون ‬في ‬كتابه ‬‮»‬التصوف ‬الإسلامي ‬وتاريخه‮«‬. ‬ويقول ‬عنه ‬الشاعر ‬الصوفي ‬الفارسي ‬جامي ‬الذي ‬عاش ‬في ‬القرن ‬الخامس ‬عشر ‬الميلادي ‬بعد ‬ذي ‬النون ‬بستة ‬قرون ‬إنه ‬‮»‬رأس ‬هذه ‬الفرقة. ‬فالكل ‬قد ‬أخذ ‬عنه ‬وانتسب ‬إليه. ‬وقد ‬كان ‬المشايخ ‬قبله، ‬ولكنه ‬كان ‬أول ‬من ‬فسر ‬إشارات ‬الصوفية ‬وتكلم ‬في ‬هذا ‬الطريق‮«‬. ‬ثم ‬إن ‬ذا ‬النون ‬أول ‬في ‬الشعر ‬المصري ‬المنظوم ‬باللغة ‬العربية: ‬
الخوف ‬أولي ‬بالمسيء ‬إذا ‬تأله ‬والحزن
والحب ‬يجمل ‬بالتقي ‬وبالنقي ‬من ‬الدرن
وأنا ‬لا ‬أقدم ‬هنا ‬إلا ‬بعض ‬ما ‬وجدته ‬من ‬شعر ‬ذي ‬النون ‬في ‬بعض ‬المؤلفات ‬والسير ‬التي ‬تتحدث ‬عن ‬التصوف ‬والمتصوفين. ‬وهو ‬مقطوعات ‬وأبيات ‬متناثرة ‬لايصح ‬أن ‬نعتمد ‬عليها ‬في ‬الحكم ‬علي ‬شاعرية ‬ذي ‬النون، ‬وإن ‬كانت ‬دليلا ‬علي ‬هذه ‬الشاعرية، ‬فضلا ‬عما ‬تتضمنه ‬من ‬ثقافة ‬عميقة ‬وفهم ‬للتصوف ‬كما ‬عرفه ‬ذو ‬النون ‬ورآه ‬طريقا ‬إلي ‬الله ‬يسلكه ‬الصوفي ‬ويجاهد ‬فيه ‬نفسه ‬ليخلصها ‬من ‬أدرن ‬الدنيا ‬ويطهرها ‬مما ‬يبعث ‬علي ‬الخوف ‬والحزن ‬حتي ‬يصبح ‬روحا ‬خالصة ‬تنسي ‬نفسها ‬وتتفاني ‬في ‬ذكر ‬الله ‬ولاتري ‬في ‬الكون ‬سواه.‬
وقد ‬عبر ‬ذو ‬النون ‬عن ‬هذا ‬الوعي ‬في ‬شعره ‬كما ‬عبر ‬عنه ‬بتفصيل ‬وتعمق ‬في ‬نثره ‬الذي ‬أصبح ‬مصدرا ‬أساسيا ‬للتصوف ‬وتحولت ‬عباراته ‬ومفرداته ‬التي ‬استخدم ‬فيها ‬المجاز ‬إلي ‬مصطلحات ‬نعرف ‬ماتدل ‬عليه ‬حين ‬نتحدث ‬عن ‬الذكر ‬والقرب، ‬وعن ‬الوجد ‬والسماع، ‬وعن ‬الكأس ‬والخمرة، ‬وعن ‬الفناء ‬والمجاهدة:‬
لك ‬من ‬قلبي ‬المكان ‬المصون
كل ‬لوم ‬علي ‬فيك ‬يهون
لك ‬عزم ‬بأن ‬أكون ‬قتيلا
فيك ‬والصبر ‬عنك ‬مالا ‬يكون!‬
هكذا ‬شارك ‬ذو ‬النون ‬وشاركنا ‬عن ‬طريقه ‬في ‬وضع ‬أسس ‬التصوف ‬وفي ‬إضافة ‬هذا ‬البعد ‬الروحي ‬للإسلام ‬ولثقافته ‬التي ‬بدأت ‬فقها ‬ثم ‬انتقلت ‬من ‬الفقة ‬إلي ‬التصوف ‬والفلسفة. ‬الفقة ‬لمعرفة ‬ماهو ‬مشترك ‬بين ‬كل ‬المسلمين. ‬والتصوف ‬والفلسفة ‬للخاصة ‬التي ‬لاتكتفي ‬بالاتباع ‬والنقل ‬وإنما ‬تبحث ‬عما ‬يرضي ‬العقل ‬ويطفيء ‬ظمأ ‬القلب ‬والروح، ‬وفي ‬هذ ‬يقول ‬عمر ‬بن ‬الفارض ‬في ‬تائيته:‬
وإسراء ‬سري ‬عن ‬خصوص ‬حقيقة
إلي ‬كسيري ‬في ‬عموم ‬الشريعة
ولم ‬أله ‬باللاهوت ‬عن ‬حكم ‬مظهري
ولم ‬أنس ‬بالناسوت ‬مظهر ‬حكمتي
يقول ‬مامعناه ‬إن ‬إسراء ‬الروحي ‬في ‬طلب ‬الحقيقة ‬التي ‬يطلبها ‬الخاصة ‬يرافق ‬سيره ‬في ‬طريق ‬الشريعة ‬التي ‬يسلكها ‬الجميع. ‬وإن ‬ماهو ‬إلهي ‬فيه ‬لايصرفه ‬عما ‬هو ‬بشري، ‬كما ‬أن ‬البشري ‬لايصرفه ‬عما ‬هو ‬إلهي.‬
لكن ‬هذه ‬الثقافة ‬التي ‬أتاحت ‬لذي ‬النون ‬أن ‬يضع ‬أسس ‬التصوف ‬أو ‬يشارك ‬في ‬وضعها ‬لم ‬تكن ‬مجرد ‬اجتهاد ‬شخصي ‬وإنما ‬هي ‬تعبير ‬متفرد ‬عن ‬ثقافة ‬قومية ‬بدأها ‬المصريون ‬في ‬أيام ‬أخناتون، ‬وواصلوها ‬في ‬المسيحية، ‬ومن ‬ثم ‬في ‬الإسلام.‬
يقول ‬القفطي ‬عن ‬ذي ‬النون ‬ ‬والقفطي ‬مؤرخ ‬مصري ‬ينتسب ‬لقفط ‬وهي ‬مدينة ‬مصرية ‬قديمة ‬تقع ‬علي ‬الشاطيء ‬الشرقي ‬للنيل ‬قرب ‬الأقصر ‬ولاتزال ‬تحمل ‬اسمها ‬الفرعوني ‬‮»‬قبطيو‮«‬ ‬محرفا ‬بعض ‬الشيء، ‬وقد ‬عاش ‬القفطي ‬في ‬القرنين ‬الثاني ‬عشر ‬والثالث ‬عشر ‬الميلاديين ‬وعاصر ‬ابن ‬الفارض ‬وكان ‬إلي ‬جانب ‬اشتغاله ‬بالتاريخ ‬شاعرا ‬ولغويا ‬ ‬يقول ‬في ‬كتابه ‬‮»‬إخبار ‬العلماء ‬بأخبار ‬الحكماء‮«‬: ‬‮»‬ذو ‬النون ‬ابن ‬إبراهيم ‬الاخميمي ‬المصري ‬من ‬طبقة ‬جابر ‬بن ‬حيان ‬في ‬انتحال ‬صناعة ‬الكيمياء. ‬وتقلد ‬علم ‬الباطن ‬ ‬أي ‬التصوف ‬ ‬والإشراف ‬علي ‬كثير ‬من ‬علوم ‬الفلسفة. ‬وكان ‬كثير ‬الملازمة ‬لبربا ‬بلدة ‬بأخميم ‬ ‬والبربا ‬اسم ‬يطلق ‬علي ‬آثار ‬الفراعنة ‬ ‬فإنها ‬بيت ‬من ‬بيوت ‬الحكمة ‬القديمة، ‬وفيها ‬التصاوير ‬العجيبة ‬والمثالات ‬الغريبة ‬التي ‬تزيد ‬المؤمن ‬إيمانا ‬والكافر ‬طغيانا. ‬ويقال ‬إنه ‬فتح ‬عليه ‬علم ‬ما ‬فيها ‬بطريق ‬الولاية. ‬وكانت ‬له ‬كرامات‮«‬.‬
ونحن ‬نعرف ‬أن ‬ذا ‬النون ‬ولد ‬في ‬زمن ‬وفي ‬مناطق ‬كان ‬فيها ‬المصريون ‬لايزالون ‬يتحدثون ‬بلغتهم ‬القبطية ‬وهي ‬امتداد ‬للهيروغليفية، ‬وكان ‬معظمهم ‬لايزال ‬يدين ‬بالمسيحية. ‬ويقول ‬الأستاذ ‬نيكولسون ‬إن ‬ذا ‬النون ‬‮»‬انحدر ‬هو ‬نفسه ‬من ‬أصل ‬قبطي ‬أو ‬نوبي‮«‬. ‬ويقول ‬الذين ‬أرخوا ‬له ‬إنه ‬كان ‬كثير ‬العكوف ‬علي ‬دراسة ‬النقوش ‬المصرية ‬القديمة ‬المكتوبة ‬علي ‬جدران ‬المعابد ‬وحل ‬رموزها. ‬وسواء ‬صح ‬هذا ‬أو ‬لم ‬يصح ‬فالذي ‬لاشك ‬فيه ‬أن ‬ذا ‬النون ‬كان ‬وثيق ‬الصلة ‬بالثقافة ‬المسيحية ‬القبطية ‬وبالتراث ‬المصري ‬القديم ‬الذي ‬نستطيع ‬أن ‬نعثر ‬فيه ‬علي ‬أصول ‬الفكر ‬الصوفي ‬أو ‬علي ‬بداياته ‬الأولي.‬
حين ‬يناجي ‬أخناتون ‬ربه ‬الواحد ‬الأحد ‬فيقول ‬له ‬‮»‬إنك ‬في ‬قلبي، ‬وليس ‬هناك ‬من ‬يعرفك ‬غير ‬ابنك ‬الذي ‬ولد ‬من ‬صلبك‮«‬ ‬نتذكر ‬العبارات ‬المماثلة ‬التي ‬وردت ‬في ‬بيت ‬ذي ‬النون ‬‮»‬لك ‬من ‬قلبي ‬المكان ‬المصون. ‬كل ‬لوم ‬علي ‬فيك ‬يهون‮«‬.‬
وحين ‬نقرأ ‬أناشيد ‬تحوت ‬التي ‬يقول ‬فيها ‬وهو ‬يتحدث ‬عن ‬ربه ‬‮»‬إنه ‬النور ‬الذي ‬يسطع ‬بداخلك. ‬نور ‬الخالق ‬الذي ‬أبدع ‬منه ‬الكون. ‬هو ‬يسكن ‬روحك ‬التي ‬تطوف ‬بعقلك. ‬هو ‬قدس ‬معبدك. ‬ومعبدك ‬هو ‬أنت. ‬والكون ‬يتجلي ‬فيك ‬ببهائه‮«‬ ‬ ‬حين ‬نقرأ ‬هذا ‬النشيد ‬الرائع ‬نتذكر ‬ما ‬قاله ‬ذو ‬النون ‬عن ‬معرفة ‬الله ‬‮»‬لو ‬تمثلت ‬المعرفة ‬رجلا ‬لهلك ‬كل ‬من ‬نظر ‬إليها ‬لفرط ‬جمالها ‬وحسنها ‬وطيبها ‬ولطفها، ‬ولبدا ‬كل ‬نور ‬ظلاما ‬بالقياس ‬إلي ‬بهائها‮«‬.‬
فإذا ‬انتقلنا ‬من ‬التراث ‬الفرعوني ‬إلي ‬التراث ‬القبطي ‬فسوف ‬نفاجأ ‬بما ‬نجده ‬من ‬صور ‬التماثل ‬والتطابق ‬بين ‬التصوف ‬المسيحي ‬والتصوف ‬الإسلامي ‬في ‬مصر. ‬ويكفي ‬أن ‬أقدم ‬هنا ‬مثلا ‬واحدا ‬مما ‬روي ‬عن ‬ذي ‬النون ‬الذي ‬شكت ‬له ‬امرأة ‬من ‬تمساح ‬خطف ‬ابنها ‬واختفي ‬به ‬في ‬النيل، ‬فنادي ‬ذو ‬النون ‬التمساح ‬الذي ‬لباه ‬فشق ‬جوفه ‬وأخرج ‬الطفل ‬حيا. ‬ومما ‬روي ‬عن ‬القديس ‬أنطونيوس ‬مؤسس ‬الرهينة ‬المسيحية ‬الذي ‬ذهب ‬ليزور ‬الأنبا ‬بولا ‬في ‬مغارته ‬التي ‬كان ‬يتعبد ‬فيها ‬في ‬الصحراء ‬الشرقية ‬فأسلم ‬الروح ‬بين ‬يديه ‬وعندئذ ‬جاء ‬أسدان ‬كما ‬تذكر ‬الروايات ‬القبطية ‬فحفرا ‬القبر ‬الذي ‬قام ‬أنطونيوس ‬بدفن ‬الأنبا ‬بولا ‬فيه. ‬وقد ‬جرت ‬العادة ‬علي ‬رسم ‬هذين ‬الأسدين ‬ضمن ‬زخارف ‬الأيقونات ‬التي ‬تصور ‬الأنبا ‬بولا ‬كما ‬تقول ‬بربارة ‬واترسون ‬في ‬كتابها ‬‮»‬أقباط ‬مصر‮«‬.‬
غير ‬أن ‬التصوف ‬لم ‬يقف ‬عند ‬هذه ‬الحدود ‬التي ‬وضعها ‬له ‬ذو ‬النون ‬المصري، ‬لافي ‬مصر ‬ولا ‬في ‬غيرها ‬من ‬بلاد ‬المسلمين، ‬وإنما ‬تطور ‬وتفلسف ‬وتعددت ‬مذاهبه ‬ونظرياته ‬علي ‬أيدي ‬كبار ‬المتصوفة ‬الذين ‬ظهروا ‬في ‬العراق ‬والشام ‬والمغرب ‬والأندلس ‬ومصر ‬أمثال ‬الحلاج، ‬والسهروردي، ‬ومحيي ‬الدين ‬بن ‬عربي، ‬وعمر ‬بن ‬الفارض ‬الذي ‬طور ‬مذهب ‬ذي ‬النون ‬في ‬الحب ‬وصعد ‬به ‬مقاما ‬بعد ‬مقام ‬حتي ‬وصل ‬إلي ‬الغناء ‬والاتحاد ‬كما ‬نري ‬في ‬قصيدته ‬التائية ‬الي ‬عبر ‬فيها ‬عن ‬هذا ‬المعراج ‬الروحي.‬
هذه ‬القصيدة ‬مطولة ‬بلغ ‬عدد ‬أبياتها ‬سبعمائة ‬وواحدا ‬وستين ‬بيتا. ‬وقد ‬نظمها ‬ابن ‬الفارض ‬في ‬البحر ‬الطويل ‬وجعل ‬التاء ‬قافية ‬لها. ‬وسوف ‬نختار ‬من ‬هذه ‬القصيدة ‬بعض ‬الأبيات ‬التي ‬تعبر ‬عن ‬مذهب ‬ابن ‬الفارض ‬في ‬التصوف ‬وتمثل ‬شاعريته. ‬لكننا ‬سنقدم ‬لها ‬بسطور ‬تساعد ‬علي ‬فهمها ‬وتذوقها.‬
يبدأ ‬ابن ‬الفارض ‬معراجه ‬بالانتقال ‬من ‬حالة ‬الصحو ‬العادية ‬إلي ‬حالة ‬السكر ‬التي ‬ينتشي ‬فيها ‬ويتحرر ‬مما ‬يشده ‬الي ‬هذا ‬العالم ‬ويصعد ‬درجة ‬بعد ‬درجة ‬حتي ‬يتحد ‬بمن ‬يحب، ‬وعندئذ ‬يستعيد ‬وعيه ‬بوجوده ‬الذي ‬يستمده ‬من ‬اتصاله ‬وليس ‬من ‬انفصاله:‬
سقتني ‬حُمياّ ‬الحب ‬راحة ‬مقلتي
وكأس ‬مُحيا ‬من ‬عن ‬الحسن ‬جلَّتِ
فأوهمت ‬صحبي ‬أن ‬شرب ‬شرابهم
به ‬سر ‬سري ‬في ‬انتشائي ‬بنظرتي
وبالحَدق ‬استغنيت ‬عن ‬قدحي ‬ومن
شمائلها ‬لا ‬من ‬شمولي ‬نشوتي
ففي ‬حان ‬سكري ‬حان ‬شكري ‬لفتيةٍ
بهم ‬تمَّ ‬لي ‬كتم ‬الهوي ‬مع ‬شهرتي!‬
ومعني ‬هذه ‬الأبيات ‬أنه ‬سكر ‬بالنظر ‬إلي ‬من ‬يحب، ‬فعينه ‬هي ‬هي ‬يمينه ‬التي ‬تناول ‬بها ‬الخمر، ‬وكأسه ‬وجه ‬محبوبه. ‬وقد ‬تظاهر ‬امام ‬أصحابه ‬بأنه ‬شرب ‬من ‬شرابهم ‬وانتشي ‬به. ‬غير ‬أنه ‬استغني ‬بالحدق ‬عن ‬القدح ‬وبالشمائل ‬عن ‬الشمول. ‬والشمائل ‬في ‬لغة ‬التصوف ‬هي ‬الجميل ‬حين ‬يمتزج ‬بالجليل. ‬أما ‬الشمول ‬فهي ‬الخمر. ‬والشاعر ‬يشكر ‬أصحابه ‬الذين ‬تستروا ‬عليه ‬وساعدوه ‬في ‬أن ‬يكتم ‬هواه، ‬حتي ‬يبلغ ‬درجة ‬الفناء ‬وعندئذ ‬تتفتح ‬له ‬أبواب ‬السموات ‬وينعم ‬بالقرب ‬ويتحد ‬بالمحبوب ‬كما ‬نري ‬في ‬الأبيات ‬التالية:‬
ومن ‬يتحرش ‬بالجمال ‬إلي ‬الردي
أري ‬نفسه ‬من ‬أنفس ‬العيش ‬رُدَّتِ
........‬
وعن ‬مذهبي ‬في ‬الحب ‬مالي ‬مذهب
وإن ‬ملت ‬يوماً ‬عنه ‬فارقت ‬ملتي ‬
وكل ‬الجهات ‬الست ‬نحوي ‬توجهت ‬
بما ‬تم ‬من ‬نسك ‬وحج ‬وعمرةِ
........‬
كلانا ‬مُصَلٍّ ‬واحدُُُُُ ‬ساجدُُ ‬إلي
حقيقته ‬بالجمع ‬في ‬كل ‬سجدة
وما ‬كان ‬لي ‬صلي ‬سواي ‬ولم ‬تكن
صلاتي ‬لغيري ‬في ‬أدا ‬كل ‬ركعة!‬


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.