أشاهد معني حسنكم فيلذ لي..... خضوعي لديكم في الهوي وتذللي وأشتاق للمغني الذي أنتم به..... ولولاكم ما شاقني ذكر منزل فلله كم من ليلة قطعتها بلذة عيش والرقيب بمعزل. ونقلي مدامي والحبيب منادمي. أبيات نظمها سلطان العاشقين عمر ابن الفارض صاحب الكلمات الناطقة بمحبة إلهية سكنت قلبه وعقله حتي أنه أصبح دليلا ناطقا للعشق الإلهي وللحقيقة المحمدية. امتلأت كلمات أشعاره بألغاز ورموز لا يعرف أسرارها سوي خاصة المتصوفة، ولد في مصر وبحث عن أسرار المحبة الإلهية بين جدران المساجد المهجورة وفي ظلمات كهوف جبل المقطم حتي عرف طريقه من شيخ التقاه فانتقل إلي مكة ليعود ويموت في مصر ويدفن تحت أقدام شيخه. هو أبو الحفص وأبو القاسم عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي ويعرف (عمر بن الفارض) ويلقب بشرف الدين واشتهر في عالم الصوفية ب"سلطان العاشقين" عرف الله بالحب فلم يعرف حب غيره واقترب منه بالزهد والورع فلم ير سواه، وامتلأ قلبه بالحب فانطلق لسانه بأبيات عرفت بديوان بن الفارض، أبيات كلها تدور وتبحث وتتمني لقاء الحبيب ،كلماتها تشبه كلمات الحب الدنيوية ولكنها تخفي لغة خاصة ورموز خبأ داخلها عشقه للذات الإلهية ،وأصبح بن الفارض واحدا ممن تربعوا علي قمة من قالوا بالعشق الإلهي الذي حاول كبار علماء الصوفية توضيحه وشرحه فقال القشيري في كتابه "الرسالة القشيرية" (الحب هو إيثار المحبوب علي جميع الصحوب) وقال الجنيد لما سئل عن المحبة (عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر اليه بقلبه) وقال عبد الله القرش عن الحب الإلهي (حقيقة المحب أن تهب لمن أحببت كلك، ولايبقي لك منك شيء). قدم أبو عمر من حماة في الشام إلي مصر فسكن فيها وكان رجلاً عالماً وفقيهاً وعمل "فارضا" أي الذي يثبت الفروض للنساء علي الرجال بين يدي الحكام وتدرج في الوظائف حتي عرض عليه أن يكون قاضي القضاة وداعي الدعاة إلا أن ابن الفارض رفض وآثر العزلة والانقطاع عن الناس معتكفا للعبادة في قاعة الخطابة بالجامع الأزهر وظل كذلك حتي توفي. ولم يكن غريبا علي سلطان العاشقين أن يرث عن والده حب العلم والزهد والورع والرغبة في الاعتكاف للتقرب إلي الله، ولد عمر بن الفارض في 4 من ذي القعدة سنة 675 هجرية بالقاهرة وعاش في بيت علم فعرف مجالس العلم منذ صغره واستمع إلي مناقشات العلماء وكبر والعلم يحيط به من كل جانب ودرس في شبابه الفقه الشافعي وأخذ الحديث عن ابن عساكر، ثم عرف طريق التصوف الذي كان شائعا في زمن الدولة الأيوبية وكان عصره يحفل بطوائف شتي من العلماء والأدباء والفقهاء والزهاد والوعاظ والصوفية واتصل (عمر بن الفارض) بكبار علماء عصره ومنهم الإمام العز بن عبد السلام الملقب "بسلطان العلماء" ومن الصوفيين اتصل بأبو الحسن بن الصباغ والشيخ عبد الرحيم القنائي، ومن بين مجالس العلم والعلماء اتجه قلبه نحو التصوف وأستأذن والده في أن يعتكف في وادي المستضعفين بجبل المقطم وكان يتجول وحده سائحا بين دروب الجبل مناجيا الله، تاركا الدنيا بمباهجها خلفه وكان لايعود إلي حياة المدينة إلا عندما يزور والده ويطمئن عليه وفي يوم وأثناء عودته إلي المدينة توقف أمام المدرسة السيوفية من أجل أن يستعد للصلاة فوجد بجواره شيخا كبيرايدعي "البقال" يتوضأ وضوءاً غير مرتب، فاعترض عليه ابن الفارض لينبهه بأن وضوءه مخالف للشرع ،فنظر الرجل اليه وقال له: ياعمر لن يفتح عليك في مصر وإنما يفتح عليك بالحجاز في مكة شرفها الله، فاقصدها فقد آن لك وقت الفتح! لم يتعجب بن الفارض من معرفة الرجل به ومنادته له باسمه فلقد أدرك أنه أمام أحد العارفين ولكنه دهش من طلب سفره إلي مكة ورد عليه: بأن المسافة التي تفصله عن مكة بعيدة وأن الوقت ليس بوقت حج ولا توجد قوافل متوجهة إلي مكة في ذلك الوقت ،فقال له الشيخ وهو يشير بيده (هذه مكة أمامك) فنظر ابن الفارض أمامه فوجد مكة، وهكذا رحل بن الفارض إلي مكة بشكل أسطوري تتناسب مع سيرته ومع ما تركه من أشهر ديوان في العشق الإلهي، وظل ابن الفارض في أرض الحجاز خمسة عشر عاما حتي عاد بعدها إلي مصر بعد أن وصلته إشارة روحية من أستاذه وشيخه "البقال" يستدعيه ليحضر وفاته ويجهزه ويصلي عليه ويدفنه، وكانت السنوات التي قضاها في أرض الحجاز هي التي كتب فيها ديوانه الشهير وجمعه ورتبه بعد عودته إلي القاهرة التي وأقام فيها أربع سنوات اعتكف خلالها في الأزهر الشريف وكان مجلسه يضم العلماء والفقهاء وذاع صيته فقصده العامة والخاصة حتي أصابه المرض الذي أوصله إلي نهاية رحلته ولم يترك الحياة بدون أن يترك رسالة شديدة الوضوح عن مذهبه الصوفي في العشق الإلهي ويروي "برهان الدين إبراهيم الجعبري أحد الصوفية المعاصرين لابن الفارض وكان حاضرا معه في اللحظات التي فارق فيها الحياة وسأل بن الفارض: ياسيدي هل أحاط أحد بالله علما؟ فنظر إليه وقال: نعم إذا حيطهم يحيطون يا إبراهيم وأنت منهم. ويضيف برهان :ثم رأيت الجنة قد تمثلت له فلما رآها قال " آه وصرخ صرخة عظيمة وبكي بكاء شديدا وتغير لونه وقال: إن كانت منزلتي في الحب عندكم ..... ما قد رأيت فقد ضيعت أيامي أمنية ظفرت روحي بها زمنا ...... واليوم أحسبها أضغاث أحلام.. ويتابع برهان الدين: فسمعت قائلا يقول بين السماء والأرض أسمع صوته ولا أري شخصه، وسأل عمر "يا عمر ماذا تروم"؟ فرد عليه بن الفارض: "أروم وقد طال المدي منك نظرة وكم من دماء دون مرماي طلت" ثم تهلل وجهه وتبسم وقضي نحبه مسرورا، فعلمت أنه نال ما يريده. وتذكر الدكتورة سعاد ماهر في كتابها »مساجد مصر وأولياؤها الصالحين« أن ابن الفارض توفي سنة 236 هجرية ودفن بالقرافة تحت سفح المقطم عند مجري السيل تحت المسجد المعروف بالفارض في البقعة المباركة التي دفن فيها الكثير من أولياء الله الصالحين ،ودفن بن الفارض تحت قدمي شيخه محمد البقال وقد أقيم علي قبره ضريح في العصر الأيوبي، إلا أن هذا الضريح توالت عليه الإصلاحات ،فقد ورد في الخطط التوفيقية أن السلطان إينال العلائي أضاف للضريح مسجدا، كما خصص له الخدم القائمين علي رعايته، وفي سنة 068 هجرية أوقف الأوقاف لصيانة المسجد والضريح وإطعام الفقراء وعين (برقوقا) ناظرا علي هذا الوقف. ومازال حتي أيامنا هذه يقام مولد للاحتفال بسلطان العاشقين صاحب قصائد العشق الإلهي التي يصدح بها كبار المنشدين فيطرب المحبون وتنطلق آهاتهم مع كلمات الأبيات فتنهمر الدموع من عيون المحبين من الخاصة وتهتز قلوب العامة لتناسق الكلمات وصدقها حتي ولو لم يدركوا معني كلماتها وهنا يقول الشيخ محمد الهلباوي شيخ المنشدين إن أشعار ابن الفارض للخاصة فقط من المتصوفين بل ولخاصة الخاصة وأما البسطاء من مريديه فهم متعلقون به بحثا عن كراماته وإن كانوا غير مدركين لمعاني كلماته. وإذا كان البسطاء من مريدي ابن الفارض لايعرفون الكثير عن أسرار قصائده في العشق الإلهي فإن الكثيرين أيضا من غير المتصوفين يقفون حائرين أمام كلمات أشعاره التي تمتلئ بمفردات عن العشق والحب والجوي والأسي والخمر والنشوة والكأس وكلمات عن الحب والعشق ،وهي كلمات تدفع كثيرين من رجال الدين لمهاجمة من يردد مثل هذه القصائد ويتهمونهم بالخروج عن الدين، ويأتي رد المتصوفة في شرح الحب عند الصوفية بأنه ينقسم إلي نوعين الحب الإلهي والحب النبوي، فالحب الإلهي يتخذ فيه المحب موضوع حبه من الذات الإلهية ويتحدث فيه عن الحب المتبادل بين الله والإنسان، أما الحب النبوي فيتخذ المحب موضوع حبه من النبي محمد أو من الحقيقة المحمدية التي هي عند الصوفية أسبق في الوجود من كل موجود. كل هذه الأفكار تحتاج إلي مزيد من التوضيح وجدته لدي الدكتور صابر عبد الدايم عميد كلية اللغة العربية بجامعة الزقازيق وأستاذ الأدب والنقد . قال: الشاعر ابن الفارض صاحب تجربة صوفية عميقة وروحية ونشأت معه في صورة عبادة وطاعة وتقرب إلي الله وهو تأثر بما قبله من علماء التصوف مثل رابعة العدوية وذي النون المصري وكان يتميز عنهم بأنه صاحب موهبة شعرية إبداعية، لم يكتف بأن يعبر عنها بشكل ظاهر وإنما جاءت متأثرة بثقافات متعددة منها القرآن والسنة وما تسرب إلي الثقافة الإسلامية من الثقافات الهندية واليونانية بما يعرف لديهم بوحدة الوجود والاتحاد والحلول، وقصائد ابن الفارض كان بها إشارات إلي وحدة الوجود بمعني أن الله والإنسان والطبيعة شيء واحد، والاتحاد والحلول بأن العابد الزاهد والمتصوف يترقي في العبادة إلي أن يكاد يصل إلي ربه، وهي مرتبة عالية وصل إليها ابن الفارض، وفي قصيدته التائية الكبري نجد فيها فلسفة ابن الفارض واضحة فهو يؤمن بما يسمي عند الصوفية بالحقيقة المحمدية وأن سيدنا محمد([) هو نور الكون كله ومن هذا النور تفرعت الأنوار وأن رسالة آدم أتت إليه بفضل نور سيدنا محمد ونوح نجا من الطوفان بفضل نوره وسيدنا إبراهيم نجا من النار بفضل الأنوار المحمدية وفي النهاية هذا النور تجسد في حقيقة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ،وتظل قضية الكلمات التي تستخدم في قصائد ابن الفارض مثار جدل لدي الكثيرين (فالخمر) مثلا هي رمز يعني أن العقل لايفكر إلا في ربه وأن وعيه غاب عن كل ماحوله، (الكأس) يرمز بها إلي المعرفة.