أسعار الخضروات والفاكهة اليوم الثلاثاء في شمال سيناء    رسميًا الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 29-7-2025 في البنوك    بيان عاجل من الكهرباء بشأن انقطاع التيار بالجيزة.. والوزارة: انتهاء التغذيات في هذا الموعد    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    تراجع في 3 بنوك.. سعر الدولار اليوم ببداية تعاملات الثلاثاء    وزير التنمية المحلية: شركاء التنمية حليف قوي في دفع العمل البيئي والمناخي في مصر    ترامب: لا أسعى للقاء جين بينج لكني قد أزور الصين تلبية لدعوته    ارتفاع حصيلة ضحايا إطلاق النار فى نيويورك ل5 أشخاص بينهم ضابط شرطة    رئيس الوزراء البريطاني يعقد اجتماعا طارئا لبحث مسار السلام في غزة    دخول 9 شاحنات مساعدات إنسانية إلى معبر كرم أبو سالم تمهيدًا لدخولها لقطاع غزة    رئيس اتحاد طنجة: عبد الحميد معالي اختار الانضمام إلى الزمالك عن أندية أوروبا    كريم رمزي يعلق على ستوري عبد القادر.. ويفجر مفاجأة بشأن موقف الزمالك    ثنائي المصري أحمد وهب وأحمد شرف ضمن معسكر منتخب الشباب استعدادًا لبطولة كأس العالم بشيلي    بعد القبض على رمضان صبحي.. تعرف على موقفة القانوني ومدة الحبس وموعد الأفراج عن اللاعب    "حرارة مرتفعة ورطوبة خانقة".. الأرصاد تكشف عن تفاصيل طقس الثلاثاء    عاجل.. الشرطة تلقي القبض على رمضان صبحي بعد عودته من تركيا    سميرة صدقي: محمد رمضان وأحمد العوضي مش هيعرفوا يبقوا زي فريد شوقي (فيديو)    حملة «100 يوم صحة» تقدم 19.2 مليون خدمة طبية مجانية خلال 13 يوما    رابط التقديم الإلكتروني ل تنسيق الصف الأول الثانوي 2025.. مرحلة ثانية (الحد الأدني ب 6 محافظات)    تفاصيل القبض على رمضان صبحي في مطار القاهرة (إنفوجراف)    بفرمان من ريبيرو.. الأهلي يتراجع عن صفقته الجديدة.. شوبير يكشف    ضياء رشوان: الأصوات المشككة لن تسكت.. والرئيس السيسي قال ما لم يقله أحد من الزعماء العرب    مصرع 30 شخصًا في العاصمة الصينية بكين جراء الأمطار الغزيرة    من «ظلمة» حطام غزة إلى «نور» العلم فى مصر    عطلة 10 أيام للموظفين.. هل هناك إجازات رسمية في شهر أغسطس 2025؟    رسميًا.. موعد بداية العام الدراسي الجديد 2026 بالمدارس الرسمية والدولية والجامعات    سفير تركيا: خريجو مدرسة السويدي للتكنولوجيا يكتسبون مهارات قيّمة    «رجب»: احترام العقود والمراكز القانونية أساس بناء الثقة مع المستثمرين    ماجدة الرومي تتصدر تريند جوجل بعد ظهورها المؤثر في جنازة زياد الرحباني: حضور مُبكٍ وموقف تاريخي    رامز جلال يتصدر تريند جوجل بعد إعلان موعد عرض فيلمه الجديد "بيج رامي"    وصول قطار الأشقاء السودانيين إلى محطة السد العالى بأسوان.. صور    تحت عنوان «إتقان العمل».. أوقاف قنا تعقد 126 قافلة دعوية    وزير الخارجية: العالم يصمت عن الحق في قطاع غزة صمت الأموات وإسرائيل تغتال الأطفال بشكل يومي    السيطرة على حريق بمولدات كهرباء بالوادي الجديد.. والمحافظة: عودة الخدمة في أقرب وقت- صور    تشييع جثماني طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما في حادث بالقاهرة    بدء اختبارات مشروع تنمية المواهب بالتعاون بين الاتحادين الدولي والمصري لكرة القدم    نشرة التوك شو| الوطنية للانتخابات تعلن جاهزيتها لانتخابات الشيوخ وحقيقة فرض رسوم على الهواتف بأثر رجعي    "إحنا بنموت من الحر".. استغاثات من سكان الجيزة بعد استمرار انقطاع المياه والكهرباء    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «حواديت» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية    لا تليق بمسيرتي.. سميرة صدقي تكشف سبب رفضها لبعض الأدوار في الدراما    مرشح الجبهة الوطنية: تمكين الشباب رسالة ثقة من القيادة السياسية    في عامها الدراسي الأول.. جامعة الفيوم الأهلية تعلن المصروفات الدراسية للعام الجامعي 2025/2026    جوتيريش: حل الدولتين أصبح الآن أبعد من أي وقت مضى    «النادي ممكن يتقفل».. رسائل نارية من نصر أبوالحسن لجماهير الإسماعيلي    تشييع جثمانى طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما فى حادث على الدائرى.. صور    صراع على السلطة في مكان العمل.. حظ برج الدلو اليوم 29 يوليو    توماس جورجيسيان يكتب: دوشة دماغ.. وكلاكيت كمان وكمان    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    قرار مفاجئ من أحمد عبدالقادر بشأن مسيرته مع الأهلي.. إعلامي يكشف التفاصيل    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    للحماية من التهاب المرارة.. تعرف على علامات حصوات المرارة المبكرة    بدون تكلفة ومواد ضارة.. أفضل وصفة طبيعية لتبييض الأسنان    جامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية تُقدم خدماتها الطبية ل 476 مواطناً    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النَّصُّ الصُّوْفِيُّ .. خِطَابُ إشَارَاتٍ أمْ إحْدَثِيَّاتٌ مَعْرِفِيَّة ؟
نشر في صوت البلد يوم 01 - 11 - 2016

اعتاد المهتمون بالتصوف الإسلامي كحركة تجديد في التاريخ الإسلامي توصيف الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي بأنه سلطان العارفين إسوة بالشاعر الصوفي عمر بن الفارض بأنه سلطان العاشقين ، وهذا الاستحقاق للأول بالمعرفة مفاده أن ابن عربي يشبه النحلة النشيطة ، إذ ينتقل من روض معرفي إلى آخر ، ينهل ويتعلم ويعي ويفطن ما يتعلمه ، وكانت عزيمته لا تعرف الكلل ، ونبغ في مجاله وميدانه حتى أجازه أساطين عصره من أمثال ابن عساكر إمام هذا الوقت وزمانه ، وكذلك ابن الجوزي الذي كان علامة العصر والزمان والتاريخ . ويمكننا أن نلمح نشاط قطبنا الصوفي الكبير في مؤلفاته ، حيث ترك عدداً ضخماً من المؤلفات في شتى العلوم الصوفية تقدر بحوالي ثلاثمائة كتاب من أشهرها الفتوحات المكية التي تقع في أربعة مجلدات ضخمة ، وكتاب فصوص الحكم .
ويعد هذا الكتاب من الدرر التي كتبت في تاريخ التصوف الإسلامي بمجمله ، إذ استطاع فيه ابن عربي أن يقدم رؤية صوفية إزاء بعض التي يمكن توصيفها بالفلسفية المجردة والتي تحتاج إلى عناية كبيرة بتقديمها إلى القارئ العربي بقصد توضيحها وتيسيرها عليه ، وديوان ( ترجمان الأشواق ) ، وهذا الأخير اجتهد المفسرون وفقهاء التاريخ أن يضعوا حدوداً جغرافية وتنظيرات تأويلية له عن مقصده وهدفه ولمن كتب . وابن عربي كصوفي وقطب كبير يختلف تمام الاختلاف مع نظرائه من أهل التصوف ، فلقد ابتعد عن التقليد الذي كان شائعا ًفي زمانه ، ولم يهتم بأن يكون مردداً لكلام من سبقوه بغير تفهم لمقاصدهم الرئيسة .
فأتى بأسلوب رشيق وجديد ومليئ بالمفارقات والدهشة ، بل كما يشير جوزيبي سكاتولين في كتابه ( التجليات الروحية في الإسلام نصوص صوفية عبر التاريخ ) إلى أن ابن عربي جاء بمتضادات مفهومية يتحير العقل إزاءها ، ومن أمثال ذلك عبارته الشهيرة " سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ، فكيف يكون الخالق هو عين المخلوق ؟ .
ولا يعد ابن عربي الوحيد من متصوفة الإسلام الذين استبقوا في الاهتمام بالعرفانية أو بالأحرى الأخذ بالطرح الفلسفي القريب إلى الذهنية بغير تخلٍ عن جوهر التصوف وهو المحبة ، بل هناك أقطاب كثيرون يمكن الاجتهاد في محاولة رصد وسرد أسمائهم مثل السهروردي وشقيق البلخي والإمام الجنيد والمحاسبي ويأتي على رأس كل هؤلاء إمام التصوف الإسلامي الشيخ عبد الجبار النفري بكتابه الماتع المواقف والمخاطبات . والعرفانية لدى أقطاب التصوف لا تخرج عن صفاء الروح وعقلية رائقة تتسع لكافة الأفكار والطروحات والرؤى لاسيما وأنها تجربة تتمايز كلية عن التجربة الدينية العادية .
وربما الاتهامات المتلاحقة التي نالت من التصوف بحجة أنه اتجاه روحي فحسب ولا علاقة له بالعقل أو فعل الإرادة الذهنية ، هي التي دفعت المتأخرين من مؤرخي حركة التصوف الإسلامي نحو إبراز دور الوعي والإدراك لدى متصوفة الإسلام ، وأن كنه التصوف لا يتمثل في مساجلات تنظم شعراً أو مجرد أقوال مرهونة بمواقف محددة بل هو وعي شديد الحضور وضرب من ضروب النشاط العقلي والذهني ، وإن جازت التسمية في بعض الأحايين بأنه ما فوق الإدراك وما وراء المعرفة . وإذا كان مؤرخو التصوف الإسلامي قد أسرفوا في جمع المواضعات الخاصة والمرتبطة بالمفهوم وركزوا غالباً على التجربة الروحية للمتصوفة معتمدين في ذلك على التعريف الأشهر للتصوف الذي قاله الصوفي الكبير بشر بن الحارث المعروف بالحافي بأن التصوف هو صفاء الأسرار ونقاء الآثار ، فإن كثيرين أيضاً أكدوا على أن التجربة الروحية تلك متلازمة على الدوام مع العقل ، بل إن بعضهم أجاز اعتبار صمت المتصوفة خير دليل على إعمال العقل والتدبر في المجردات والمحسوسات .
وهذه العرفانية الموغلة في ذهنية السرد هي التي ألجأت الكثير من أقطاب المتصوفة إلى الرمزية في التعبير ، والرمزية لغة خاصة ظن أولئك أنها تحميهم من هوس العامة تارة ومن عنف التوجه الفقهي القائم في فتراتهم تارة أخرى . وخصوصا أن فقهاء العصور التي عاش فيها الفقهاء الذين امتازوا ببطش الرأي كانوا يعتقدون أن الخطاب الصوفي غير المألوف هو من باب التخريب العقائدي ، الأمر الذي دفع كليهما إلى مساجلات ومعارك مستدامة انتهت دوما لصالح الخطاب الفقهي الذي طالما جاء وقتئذ مناصرا لرأي الخلفاء والسلاطين .
واستغراق المتصوفة في الذهنية التي يمكن توصيفها بالمبالغة أدت بهم إلى حتمية اللجوء للإشارة بل أيضا لتشفير النصوص الصوفية ذاتها ، فهم عادة يستخدمون بوعي شديد تقنيات الإيحاء بالمعنى والاكتفاء بالنهايات المغلقة التي قد لا تتطلب تأويلا خاصا بمعنى آخر احتكار نهايات القول وترك فرصة التأويل لإحداثيات النص السردية التي تسبق النهاية . ولربما حجة المتصوفة في ذلك الإبهام مفادها ستر المعرفة والحقيقة عمن ليس أهلا لها . في حين أن بعض أهل الاستشراق ادعوا أن التجاء المتصوفة إلى استخدام الإشارة في العبارة والمعنى يرجع إلى تحاشيهم اللعنف اللغوي لدى الفقهاء إذ يرى أقطاب التصوف أن قطاعا كبيرا من هؤلاء الفقهاء يتربصون بكل لفظة قد تحتمل دلالات مغايرة للمعنى الذي أراده القطب الصوفي .
وهذه التقنية الإشارية نجم عنها ما عرف بالتفسير الصوفي الإشاري كما ورد بموسوعة التصوف الإسلامي (2009) والذي يعني تأويل الآيات القرآنية الكريمة على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، ويشير الدكتور جودة المهدي إلى أن حجة الإسلام الشيخ أبا حامد الغزالي احتج بالتفسير الإشاري الفيضي قائلا : " فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل ومحفوظا مثله فما معنى تخصيصه بذلك ؟ " . أي أن تخصيص حبر الأمة بتعليم التأويل دليل على خصوصية التأويل المفاض على القلب لخواص الأمة ، وذلك في مقابلة التفسير الظاهر المتداول بالسماع لعموم علمائها .
والتأويل الإشاري المعني بالسطور السالفة قوامه المعرفة الصوفية التي تعتمد وترتكز على أساس رصين أكد عليه الدكتور محفوظ عزام حينما رصد أساس المعرفة وصفاتها عند الصوفية في " الميثاق " الوارد في قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) ( الأعراف : 172 ) . وهذه المعرفة المقصودة هي التي تتصل بالتجربة أكثر من اتصالها بجوانب أخرى . وأبو القاسم الجنيد بن محمد الجنيد يقول في تأويله للآية الكريمة السابقة أن الله أخبر جل ذكره أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم ، إذ كانوا واجدين للحق من غير وجودهم لأنفسهم ، فكان الحق بالحق في ذلك موجودا بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ، ولا يجده سواه ، فكان واجدا محيطا شاهدا عليهم .
ويمكن اعتماد فعل التأويل هذا كمرتبة أعلى من التفسير الظاهري المباشر ، وهذا يتوافق مع ما ذهب إليه ابن رشد في كونه التأويل فعلا معرفيا ينقل الإنسان من رتبة العامة إلى رتبة العلماء وبذلك فابن رشد باتجاهه صوب التأويل يسعى لتكوين وتأسيس السلطة العلمية للعلماء في مجتمعات العامة ، بخلاف الفقيه ابن حزم الذي لا يرتضي بالتأويل سبيلا بل يسير في كنف التفسير الظاهري المباشر الذي يرفض توزيع النص القرآني إلى ظاهر وباطن ، وهو يرى أيضا أن النص وحدة لغوية متكاملة وثابتة يفسر بعضها بعضا دون اللجوء إلى التأويل .
وإذا كنا نرصد في سطورنا هذه التقنية الصوفية لاستخدام الإشارات والتأويلات الخاصة بهم ، فمن الضرورة وبالغ الأمانة أن نرجع صعوبة الخطاب الصوفي سواء على مستويات الفهم والإدراك والتحليل إلى عدم اتساع اللغة المتداولة لتعبيرات الصوفيين أنفسهم ، بجانب ثمة عوامل أخرى يمكن إرجاعها إلى أن التصوف نفسه يمثل حركة ثقافية بالإضافة إلى كونها حركة تجديدية كما قلنا ، وبالتالي فهي ثقافة ضد الثقافة الجمعية التقليدية التي تحظى برضا كبير من العامة وفقا لرضا فقهاء العصر أنفسهم .
لكننا أمام خطاب متعدد الاتجاهات ،كونه يعتمد اعتمادا رئيسا على تقنية الرمز الذي يعد أحد هذه الجوانب الأكثر حضوراً في نصوص المتصوفة ، بل إن الرمز يمثل أحد أبرز السمات المميزة للتصوف الإسلامي ، ولطالما عبَّر الصوفيون عن أذواقهم وتجاربهم الروحية عن طريق التلميح دون التصريح ، والإشارة دون ذكر العبارة ، أو استخدام لغة مغايرة لما يستعمله العوام من مفردات كاشفة ، وأحياناً كثيرة يلجأ الصوفي إلى استعمال اللغة الرمزية الأكثر خصوصية هرباً من الفهم الضيق وفقر التأوي الذي يعاني منه بعض متلقي النص الصوفي ، وكانت مشكلة المتصوفة أن نصوصهم تتطلب قدراً عالياً من امتلاك اللغة ودلالة مفرداتها لدى المريدين والمتلقيين من ناحية ، وامتلاكهم ذائقة تمكنهم من الإحساس بالنص وصاحبه من ناحية أخرى . وربما أصاب مؤرخو التصوف الإسلامي حينما أشاروا إلى أن استخدام الصوفي للغة الرمزية جاء مناسباً للتعبير عن المواجيد والأحوال والمقامات التي لا تناسبها لغة اعتيادية كالجذب والاصطلاء والمحبة والوجد المطلق والفناء ، في نفس الوقت الذي أشاروا فيه إلى أن استعمال الرمز قُصِدَ به الإشارة إلى حقائق روحية ، وهذه اللغة الرمزية قد نالت من الصوفيين كثيراً حتى ألصق ببعضهم تهم الزندقة والخروج عن الدين .
ورمزية الصوفية تمثل دعوة للتحرر والخلاص عادة من الواقع الثقافي ، لذا فالخطاب الصوفي جدلية قائمة بين الواقع والتأويل اللانهائي له ، وهذه الجدلية هي الاستثناء الذي سمح للخطاب نفسه أن يجعل من التجربة الصوفية لأصحابها لتصبح خطابا جمعيا في نفس الوقت . ولذلك فإنه من قبيل الخطأ أن تتم قراءة نصوص الصوفية وفق سياقات مرجعية أو تاريخية فهذا محض خطأ لا يعتريه الصواب أبدا ، لاعتماد النصوص على إشارات ولغة رمزية قد تستشرف مستقبلا أو تتناول قضية معرفية متنقلة بين الماضي الضارب في القدم والحاضر الآني ، لذلك نصوص الصوفية رغم قدمها فإنها تعد نصوصا معاصرة ترفض أدلجة الامتدادات التاريخية ، فضلا عن هذه الرمزية واللغة الإشارية ، فمن العبث ممارسة حيلة الإسقاط الأيديولوجي على النصوص الصوفية ، فالصوفي عكس الأديب ، لا يبحث عن أسلوب أو طريقة أو كيفية لإرضاء ذوق الجمهور .
اعتاد المهتمون بالتصوف الإسلامي كحركة تجديد في التاريخ الإسلامي توصيف الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي بأنه سلطان العارفين إسوة بالشاعر الصوفي عمر بن الفارض بأنه سلطان العاشقين ، وهذا الاستحقاق للأول بالمعرفة مفاده أن ابن عربي يشبه النحلة النشيطة ، إذ ينتقل من روض معرفي إلى آخر ، ينهل ويتعلم ويعي ويفطن ما يتعلمه ، وكانت عزيمته لا تعرف الكلل ، ونبغ في مجاله وميدانه حتى أجازه أساطين عصره من أمثال ابن عساكر إمام هذا الوقت وزمانه ، وكذلك ابن الجوزي الذي كان علامة العصر والزمان والتاريخ . ويمكننا أن نلمح نشاط قطبنا الصوفي الكبير في مؤلفاته ، حيث ترك عدداً ضخماً من المؤلفات في شتى العلوم الصوفية تقدر بحوالي ثلاثمائة كتاب من أشهرها الفتوحات المكية التي تقع في أربعة مجلدات ضخمة ، وكتاب فصوص الحكم .
ويعد هذا الكتاب من الدرر التي كتبت في تاريخ التصوف الإسلامي بمجمله ، إذ استطاع فيه ابن عربي أن يقدم رؤية صوفية إزاء بعض التي يمكن توصيفها بالفلسفية المجردة والتي تحتاج إلى عناية كبيرة بتقديمها إلى القارئ العربي بقصد توضيحها وتيسيرها عليه ، وديوان ( ترجمان الأشواق ) ، وهذا الأخير اجتهد المفسرون وفقهاء التاريخ أن يضعوا حدوداً جغرافية وتنظيرات تأويلية له عن مقصده وهدفه ولمن كتب . وابن عربي كصوفي وقطب كبير يختلف تمام الاختلاف مع نظرائه من أهل التصوف ، فلقد ابتعد عن التقليد الذي كان شائعا ًفي زمانه ، ولم يهتم بأن يكون مردداً لكلام من سبقوه بغير تفهم لمقاصدهم الرئيسة .
فأتى بأسلوب رشيق وجديد ومليئ بالمفارقات والدهشة ، بل كما يشير جوزيبي سكاتولين في كتابه ( التجليات الروحية في الإسلام نصوص صوفية عبر التاريخ ) إلى أن ابن عربي جاء بمتضادات مفهومية يتحير العقل إزاءها ، ومن أمثال ذلك عبارته الشهيرة " سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها ، فكيف يكون الخالق هو عين المخلوق ؟ .
ولا يعد ابن عربي الوحيد من متصوفة الإسلام الذين استبقوا في الاهتمام بالعرفانية أو بالأحرى الأخذ بالطرح الفلسفي القريب إلى الذهنية بغير تخلٍ عن جوهر التصوف وهو المحبة ، بل هناك أقطاب كثيرون يمكن الاجتهاد في محاولة رصد وسرد أسمائهم مثل السهروردي وشقيق البلخي والإمام الجنيد والمحاسبي ويأتي على رأس كل هؤلاء إمام التصوف الإسلامي الشيخ عبد الجبار النفري بكتابه الماتع المواقف والمخاطبات . والعرفانية لدى أقطاب التصوف لا تخرج عن صفاء الروح وعقلية رائقة تتسع لكافة الأفكار والطروحات والرؤى لاسيما وأنها تجربة تتمايز كلية عن التجربة الدينية العادية .
وربما الاتهامات المتلاحقة التي نالت من التصوف بحجة أنه اتجاه روحي فحسب ولا علاقة له بالعقل أو فعل الإرادة الذهنية ، هي التي دفعت المتأخرين من مؤرخي حركة التصوف الإسلامي نحو إبراز دور الوعي والإدراك لدى متصوفة الإسلام ، وأن كنه التصوف لا يتمثل في مساجلات تنظم شعراً أو مجرد أقوال مرهونة بمواقف محددة بل هو وعي شديد الحضور وضرب من ضروب النشاط العقلي والذهني ، وإن جازت التسمية في بعض الأحايين بأنه ما فوق الإدراك وما وراء المعرفة . وإذا كان مؤرخو التصوف الإسلامي قد أسرفوا في جمع المواضعات الخاصة والمرتبطة بالمفهوم وركزوا غالباً على التجربة الروحية للمتصوفة معتمدين في ذلك على التعريف الأشهر للتصوف الذي قاله الصوفي الكبير بشر بن الحارث المعروف بالحافي بأن التصوف هو صفاء الأسرار ونقاء الآثار ، فإن كثيرين أيضاً أكدوا على أن التجربة الروحية تلك متلازمة على الدوام مع العقل ، بل إن بعضهم أجاز اعتبار صمت المتصوفة خير دليل على إعمال العقل والتدبر في المجردات والمحسوسات .
وهذه العرفانية الموغلة في ذهنية السرد هي التي ألجأت الكثير من أقطاب المتصوفة إلى الرمزية في التعبير ، والرمزية لغة خاصة ظن أولئك أنها تحميهم من هوس العامة تارة ومن عنف التوجه الفقهي القائم في فتراتهم تارة أخرى . وخصوصا أن فقهاء العصور التي عاش فيها الفقهاء الذين امتازوا ببطش الرأي كانوا يعتقدون أن الخطاب الصوفي غير المألوف هو من باب التخريب العقائدي ، الأمر الذي دفع كليهما إلى مساجلات ومعارك مستدامة انتهت دوما لصالح الخطاب الفقهي الذي طالما جاء وقتئذ مناصرا لرأي الخلفاء والسلاطين .
واستغراق المتصوفة في الذهنية التي يمكن توصيفها بالمبالغة أدت بهم إلى حتمية اللجوء للإشارة بل أيضا لتشفير النصوص الصوفية ذاتها ، فهم عادة يستخدمون بوعي شديد تقنيات الإيحاء بالمعنى والاكتفاء بالنهايات المغلقة التي قد لا تتطلب تأويلا خاصا بمعنى آخر احتكار نهايات القول وترك فرصة التأويل لإحداثيات النص السردية التي تسبق النهاية . ولربما حجة المتصوفة في ذلك الإبهام مفادها ستر المعرفة والحقيقة عمن ليس أهلا لها . في حين أن بعض أهل الاستشراق ادعوا أن التجاء المتصوفة إلى استخدام الإشارة في العبارة والمعنى يرجع إلى تحاشيهم اللعنف اللغوي لدى الفقهاء إذ يرى أقطاب التصوف أن قطاعا كبيرا من هؤلاء الفقهاء يتربصون بكل لفظة قد تحتمل دلالات مغايرة للمعنى الذي أراده القطب الصوفي .
وهذه التقنية الإشارية نجم عنها ما عرف بالتفسير الصوفي الإشاري كما ورد بموسوعة التصوف الإسلامي (2009) والذي يعني تأويل الآيات القرآنية الكريمة على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، ويشير الدكتور جودة المهدي إلى أن حجة الإسلام الشيخ أبا حامد الغزالي احتج بالتفسير الإشاري الفيضي قائلا : " فإن كان التأويل مسموعا كالتنزيل ومحفوظا مثله فما معنى تخصيصه بذلك ؟ " . أي أن تخصيص حبر الأمة بتعليم التأويل دليل على خصوصية التأويل المفاض على القلب لخواص الأمة ، وذلك في مقابلة التفسير الظاهر المتداول بالسماع لعموم علمائها .
والتأويل الإشاري المعني بالسطور السالفة قوامه المعرفة الصوفية التي تعتمد وترتكز على أساس رصين أكد عليه الدكتور محفوظ عزام حينما رصد أساس المعرفة وصفاتها عند الصوفية في " الميثاق " الوارد في قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) ( الأعراف : 172 ) . وهذه المعرفة المقصودة هي التي تتصل بالتجربة أكثر من اتصالها بجوانب أخرى . وأبو القاسم الجنيد بن محمد الجنيد يقول في تأويله للآية الكريمة السابقة أن الله أخبر جل ذكره أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم ، إذ كانوا واجدين للحق من غير وجودهم لأنفسهم ، فكان الحق بالحق في ذلك موجودا بالمعنى الذي لا يعلمه غيره ، ولا يجده سواه ، فكان واجدا محيطا شاهدا عليهم .
ويمكن اعتماد فعل التأويل هذا كمرتبة أعلى من التفسير الظاهري المباشر ، وهذا يتوافق مع ما ذهب إليه ابن رشد في كونه التأويل فعلا معرفيا ينقل الإنسان من رتبة العامة إلى رتبة العلماء وبذلك فابن رشد باتجاهه صوب التأويل يسعى لتكوين وتأسيس السلطة العلمية للعلماء في مجتمعات العامة ، بخلاف الفقيه ابن حزم الذي لا يرتضي بالتأويل سبيلا بل يسير في كنف التفسير الظاهري المباشر الذي يرفض توزيع النص القرآني إلى ظاهر وباطن ، وهو يرى أيضا أن النص وحدة لغوية متكاملة وثابتة يفسر بعضها بعضا دون اللجوء إلى التأويل .
وإذا كنا نرصد في سطورنا هذه التقنية الصوفية لاستخدام الإشارات والتأويلات الخاصة بهم ، فمن الضرورة وبالغ الأمانة أن نرجع صعوبة الخطاب الصوفي سواء على مستويات الفهم والإدراك والتحليل إلى عدم اتساع اللغة المتداولة لتعبيرات الصوفيين أنفسهم ، بجانب ثمة عوامل أخرى يمكن إرجاعها إلى أن التصوف نفسه يمثل حركة ثقافية بالإضافة إلى كونها حركة تجديدية كما قلنا ، وبالتالي فهي ثقافة ضد الثقافة الجمعية التقليدية التي تحظى برضا كبير من العامة وفقا لرضا فقهاء العصر أنفسهم .
لكننا أمام خطاب متعدد الاتجاهات ،كونه يعتمد اعتمادا رئيسا على تقنية الرمز الذي يعد أحد هذه الجوانب الأكثر حضوراً في نصوص المتصوفة ، بل إن الرمز يمثل أحد أبرز السمات المميزة للتصوف الإسلامي ، ولطالما عبَّر الصوفيون عن أذواقهم وتجاربهم الروحية عن طريق التلميح دون التصريح ، والإشارة دون ذكر العبارة ، أو استخدام لغة مغايرة لما يستعمله العوام من مفردات كاشفة ، وأحياناً كثيرة يلجأ الصوفي إلى استعمال اللغة الرمزية الأكثر خصوصية هرباً من الفهم الضيق وفقر التأوي الذي يعاني منه بعض متلقي النص الصوفي ، وكانت مشكلة المتصوفة أن نصوصهم تتطلب قدراً عالياً من امتلاك اللغة ودلالة مفرداتها لدى المريدين والمتلقيين من ناحية ، وامتلاكهم ذائقة تمكنهم من الإحساس بالنص وصاحبه من ناحية أخرى . وربما أصاب مؤرخو التصوف الإسلامي حينما أشاروا إلى أن استخدام الصوفي للغة الرمزية جاء مناسباً للتعبير عن المواجيد والأحوال والمقامات التي لا تناسبها لغة اعتيادية كالجذب والاصطلاء والمحبة والوجد المطلق والفناء ، في نفس الوقت الذي أشاروا فيه إلى أن استعمال الرمز قُصِدَ به الإشارة إلى حقائق روحية ، وهذه اللغة الرمزية قد نالت من الصوفيين كثيراً حتى ألصق ببعضهم تهم الزندقة والخروج عن الدين .
ورمزية الصوفية تمثل دعوة للتحرر والخلاص عادة من الواقع الثقافي ، لذا فالخطاب الصوفي جدلية قائمة بين الواقع والتأويل اللانهائي له ، وهذه الجدلية هي الاستثناء الذي سمح للخطاب نفسه أن يجعل من التجربة الصوفية لأصحابها لتصبح خطابا جمعيا في نفس الوقت . ولذلك فإنه من قبيل الخطأ أن تتم قراءة نصوص الصوفية وفق سياقات مرجعية أو تاريخية فهذا محض خطأ لا يعتريه الصواب أبدا ، لاعتماد النصوص على إشارات ولغة رمزية قد تستشرف مستقبلا أو تتناول قضية معرفية متنقلة بين الماضي الضارب في القدم والحاضر الآني ، لذلك نصوص الصوفية رغم قدمها فإنها تعد نصوصا معاصرة ترفض أدلجة الامتدادات التاريخية ، فضلا عن هذه الرمزية واللغة الإشارية ، فمن العبث ممارسة حيلة الإسقاط الأيديولوجي على النصوص الصوفية ، فالصوفي عكس الأديب ، لا يبحث عن أسلوب أو طريقة أو كيفية لإرضاء ذوق الجمهور .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.