منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تخفض من توقعاتها بالنسبة لنمو الاقتصاد الألماني    مجلس الحرب الإسرائيلي يجتمع اليوم لمناقشة موضوعي الرهائن واجتياح رفح    طريق الزمالك.. البداية أمام بروكسي.. والإسماعيلي في مسار الوصول لنهائي الكأس    رانجنيك يوجه صدمة كبرى ل بايرن ميونيخ    حبس طالب جامعي تعدى على زميلته داخل كلية الطب في الزقازيق    مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادث بالطريق الزراعي بالقليوبية    محافظ المنيا يوجه برفع درجة الاستعداد لاستقبال عيدي القيامة وشم النسيم    الثانوية العامة 2024.. مواصفات امتحان اللغة العربية    بحضور سوسن بدر.. انطلاق البروفة الأخيرة لمهرجان بردية لسينما الومضة بالمركز الثقافي الروسي    «الشيوخ» ينعي رئيس لجنة الطاقة والقوى العاملة بالمجلس    ارتفاع حصيلة قتلى انهيار جزء من طريق سريع في الصين إلى 48 شخصا    مصير مقعد رئيس لجنة القوى العاملة بالشيوخ بعد وفاته    السيسي: حملات تفتيش على المنشآت لمتابعة الحماية القانونية للعمال    الأهلي والالومنيوم والزمالك مع بروكسي.. تفاصيل قرعة كأس مصر    نجم الأهلي السابق: إمام عاشور أفضل لاعب في مصر    الهجرة تعلن ضوابط الاستفادة من مهلة الشهر بمبادرة سيارات المصريين بالخارج    «القومي للأمومة» يطلق برلمان الطفل المصري لتعليم النشئ تولي القيادة والمسؤولية    وزراة الدفاع الروسية تعلن سيطرة قوات الجيش على بيرديتشي شرقي أوكرانيا    واشنطن تطالب روسيا والصين بعدم منح السيطرة للذكاء الاصطناعي على الأسلحة النووية    الأرصاد: الأجواء مستقرة ودرجة الحرارة على القاهرة الآن 24    حداد رشيد حول منزله إلى ورشة تصنيع أسلحة نارية    أب يذبح ابنته في أسيوط بعد تعاطيه المخدرات    ميقاتي: طالبنا المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لوقف هجماتها على لبنان    بعد طرح فيلم السرب.. ما هو ترتيب الأفلام المتنافسة على شباك التذاكر؟    مسلسل البيت بيتي 2 الحلقة 4.. جد بينو وكراكيري يطاردهما في الفندق المسكون    الإمارات: مهرجان الشارقة القرائي للطفل يطلق مدينة للروبوتات    تزايد حالات السكتة الدماغية لدى الشباب.. هذه الأسباب    فيديو وصور.. مريضة قلب تستغيث بمحافظ الجيزة.. و"راشد" يصدر قرارا عاجلا    السكرتير العام المساعد لبني سويف يتابع بدء تفعيل مبادرة تخفيض أسعار اللحوم    «اكتشف غير المكتشف».. إطلاق حملة توعية بضعف عضلة القلب في 13 محافظة    مصدر رفيع المستوى: تقدم إيجابي في مفاوضات الهدنة وسط اتصالات مصرية مكثفة    رئيس اتحاد القبائل العربية يكشف أول سكان مدينة السيسي في سيناء    «التنمية الحضرية»: تطوير رأس البر يتوافق مع التصميم العمراني للمدينة    دعم توطين التكنولوجيا العصرية وتمويل المبتكرين.. 7 مهام ل "صندوق مصر الرقمية"    كلية الإعلام تكرم الفائزين في استطلاع رأي الجمهور حول دراما رمضان 2024    هل تلوين البيض في شم النسيم حرام.. «الإفتاء» تُجيب    شيخ الأزهر ينعى الشيخ طحنون بن محمد آل نهيان    كولر يعالج أخطاء الأهلي قبل مواجهة الجونة في الدوري    شوبير يكشف مفاجأة عاجلة حول مستجدات الخلاف بين كلوب ومحمد صلاح    هيئة الجودة: إصدار 40 مواصفة قياسية في إعادة استخدام وإدارة المياه    بنزيما يتلقى العلاج إلى ريال مدريد    البنك المركزي: تسوية 3.353 مليون عملية عبر مقاصة الشيكات ب1.127 تريليون جنيه خلال 4 أشهر    لمواليد 2 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    على طريقة نصر وبهاء .. هل تنجح إسعاد يونس في لم شمل العوضي وياسمين عبدالعزيز؟    التنظيم والإدارة يتيح الاستعلام عن نتيجة الامتحان الإلكتروني في مسابقة معلم مساعد فصل للمتقدمين من 12 محافظة    منها إجازة عيد العمال وشم النسيم.. 11 يوما عطلة رسمية في شهر مايو 2024    رئيس الوزراء: الحكومة المصرية مهتمة بتوسيع نطاق استثمارات كوريا الجنوبية    سؤال برلماني للحكومة بشأن الآثار الجانبية ل "لقاح كورونا"    أبرزها تناول الفاكهة والخضراوات، نصائح مهمة للحفاظ على الصحة العامة للجسم (فيديو)    تشغيل 27 بئرا برفح والشيخ زويد.. تقرير حول مشاركة القوات المسلحة بتنمية سيناء    هئية الاستثمار والخارجية البريطاني توقعان مذكرة تفاهم لتعزيز العلاقات الاستثمارية والتجارية    دعاء النبي بعد التشهد وقبل التسليم من الصلاة .. واظب عليه    التضامن: انخفاض مشاهد التدخين في دراما رمضان إلى 2.4 %    هل يستجيب الله دعاء العاصي؟ أمين الإفتاء يجيب    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثقافة التصوف معين لا ينضب للإبداع
نشر في البوابة يوم 01 - 07 - 2015

تكتسب ثقافة التصوف مذاقا خاصا في شهر رمضان الفضيل فيما تشكل هذه الثقافة معينا لا ينضب لكثير من الإبداعات وتطرح العديد من الأسئلة بقدر ما تقدم إجابات يمكن أن تؤسس لحوار جاد حول قضايا تهم البشر في كل مكان.
وفي شهر رمضان تحفل الصحف ووسائل الإعلام المصرية والعربية بعديد النفحات الصوفية والمقالات والطروحات التي تتناول الطرق الصوفية بأقلام مثقفين مصريين وعرب وأسماء رموز وإعلام التصوف مثل محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي والحلاج وابن الفارض ورابعة العدوية وأبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي والسيد البدوي وصولا لعبد الحليم محمود ومحمد متولي الشعراوي وأحمد الطيب.
وها هو الكاتب عماد الغزالي يقول في جريدة الشروق القاهرية "كثيرا ما تستهويني أحوال الصوفية، أحبهم وأتفهم حالات الوجد والتوحد التي تتلبسهم" مستعرضا حالات لإعلام المتصوفة مثل الحلاج الذي كانت مآساته عنوانا لمسرحية شعرية للشاعر المصري الراحل صلاح عبد الصبور والنفري "صاحب الوقفات والمخاطبات" وابن الجوزي والسهروردي ناهيك عن أبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي.
وكان التصوف حاضرا بقوة في ملتقى ثقافي هام شهدته القاهرة مؤخرا وهو المؤتمر الدولي ال(18) للفلسفة الإسلامية الذي نظمته كلية دار العلوم بجامعة القاهرة تحت عنوان "التربية الأخلاقية والتحديات المعاصرة".
واتفق العديد من الحضور في هذا المؤتمر على أهمية الدور الذي ينهض به التصوف في تعزيز قيم التسامح فيما قال الدكتور محمد حفيان الأستاذ بجامعة السعيدة اليمنية إن التربية الأخلاقية في التصوف الإسلامي أصبحت الآن في بؤرة اهتمام الدرس النفسي والاجتماعي والديني لافتا لدور التصوف في مواجهة التطرف.
وحتى في الثقافة الغربية ثمة اهتمام كبير وواضح بالتصوف ويعكف بعض المفكرين هناك خاصة من المتخصصين في قضايا التصوف والصوفية على بحث دور التصوف في تذليل العقبات أمام الحوار بين المختلفين دينيا وعقائديا مثل ذلك الكتاب الذي أصدره المستشرق الإيطالي وأستاذ التصوف الإسلامي الدكتور جوزيف سكاتولين بعنوان "تأملات في التصوف والحوار الديني".
وإذا كان المستشرق الفرنسي الراحل لويس ماسينيون قد اشتهر بكتابه الصادر في جزئين بعنوان:"عذاب الحلاج شهيد التصوف في الإسلام" فإن للدكتور جوزيف سكاتولين عدة كتب وإصدارات في التصوف منها:"ديوان ابن الفارض" والتجليات الروحية في الإسلام" وكذلك جاء كتابه الجديد "تأملات في التصوف والحوار الديني" في جزءين يتناول الجزء الأول موضوع الحوار الديني وأبعاده في عصر العولمة بينما يركز الجزء الثاني على عالم التصوف والحياة الدينية الروحية.
وإذا كان المعنيون بالتصوف يذكرون بالحقيقة التي تقول إن "الذين تركوا بصمات واضحة وثابتة في الثقافة الإسلامية هم العلماء الذين جمعوا بين قلب الصوفي وعقل الفيلسوف لأن القلوب ترطب حسابات العقول ولأن العقول تضبط خطرات القلوب" فإن هذه الحقيقة دالة على أهمية المزج ما بين القواعد العلمية الذوقية والمصطلحات الفنية المشتقة من صميم التجربة الوجدانية الصوفية المتميزة.
وفيما تحمل كلمات كتاب بصحف مصرية وعربية في شهر رمضان أنفاسا صوفية محببة فإن هناك العديد من الكتب التي صدرت لكتاب معاصرين عن ثقافة التصوف والصوفية المحلقين بالحب للخالق الواحد الأحد في هذا الكون وقد تكشف بعض هذه الكتب عن جوانب طريفة مثل علاقة المتصوفة بالموسيقى.
وفي كتاب "كتب وناس" يقول الكاتب والروائي الراحل خيري شلبي إن تحرر الموسيقى الغنائية المصرية من الروح التركية بدأ بشكل مكثف في أوائل القرن العشرين على أيدي الطرق الصوفية.. موضحا أن هذه الطرق استخدمت الموسيقى عن وعي عميق يحكمه دور مقصود.
وحسب رؤية خيري شلبي فإن الطرق الصوفية أعادت الموسيقى إلى أصولها كعنصر فاعل في توصيل الذاكرين لمرتبة الوجد الصوفي ووضعوا مقامات شهيرة وقسموا هذه المقامات تبعا لمراحل بلوغ الوجد الصوفي.
وكان المنشد في حلقات الذكر يمسك بمفاتيح أجساد الذاكرين تبعا لقوة موهبته الصوتية ودرجة ثرائه النغمي فينفض الأجساد نفضا:يحولهم على أوتاره الصوتية إلى ريش في مهب الريح ولم تكن جهود المنشدين - كما يؤكد خيري شلبي - نابعة من فراغ أو قائمة على اجتهاد عشوائي يتصادف نجاحه إنما هناك أكبر رصيد علمي موسيقي في التاريخ العربي الحديث سكت عنه المؤرخون لسبب أو لآخر ذلك هو رصيد "جماعة إخوان الصفا".
وهذه الجماعة كانت تضم لفيفا من خيرة كبار المثقفين والأدباء ولاسيما ذوي الميول الصوفية وكلهم كانوا على درجة عالية جدا من الثقافة الرفيعة والتقدم العلمي المذهل في الفلسفة والرياضة والفلك والطبيعة والكيمياء وعلوم اللغة والتفسير والحديث وقبل ذلك علم الكلام وهى شخصيات من طراز أبي حيان التوحيدي.
ومن يقرأ رسائل إخوان الصفا يفاجأ بأن رسالتهم في الموسيقى رسالة فذة حتى أن الكاتب الراحل خيري شلبي وصفها بأنها لم يسبق لها مثيل في الدقة العلمية والوصول باللغة العربية إلى مرحلة من الشفافية استطاعت به تقنين ما لا يخضع لقانون.
رسالة "إخوان الصفا" عن الموسيقى - كما قال الكاتب الراحل خيري شلبي - كانت ولا تزال أهم مصدر لدراسة هذا الفن واستلهامه إبداعيا ومما لا شك فيه أن تلاميذهم ومريديهم ودراويشهم من الأجيال التالية قد ورثوا هذا العلم وأضافوا إليه وأبدعوا من خلاله ووظفوه في خدمة الروح الإنسانية وتهذيب النفوس أعظم توظيف.
وللصوفي الشهير محيي الدين بن عربي قول مأثور ضمن رسالة كاملة من مأثوراته حيث يقول:"كل فن لا يخدم علما لا يعول عليه" وفي ضوء هذه المقولة يتبين أن إبداع الصوفية في الموسيقى كان يخدم علم الموسيقى".
ومن عباءة المنشدين خرج الذين طوروا الغناء العربي ووصلوا به إلى ذروة عالية من القدرة على التأثير القوى في الوجدان حتى أن الذين نبغوا في الغناء الدنيوي هم أولئك الذين هضموا المقامات الصوفية واستوعبوا تجلياتها كابرا عن كابر كما يقول التعبير العربي الشهير ومعظمهم كان يعمل في بطانات المنشدين القدامى ثم أصبحوا بدورهم إعلاما لهم بطاناتهم الخاص التي يتخرج فيها إعلام جدد، فليس صدفة إذن أن إعلام فن الموسيقى والغناء في مصر في أوائل القرن العشرين وأواسطه كانوا شيوخا ومنشدين مثل الشيخ محمد عبد الرحيم المسلوب والشيخ درويش الحريري والشيخ يوسف المنيلاوي والشيخ محمود صبح والشيخ أبو العلا محمد والشيخ على محمود والشيخ زكريا أحمد والشيخ سيد درويش.
ومن هنا لم يكن من الغريب أن يلفت عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للأهمية الثقافية لفنون التلاوة والتجويد والإنشاد والموسيقى على وجه العموم كتشكيل للزمان وهو مجال أسهم فيه المتصوفة بالكثير بقدر ما تتوزع إسهاماتهم الثقافية على مجالات عدة وبعضها لا يخلو من تداخل وتشابك مثل مجالات البلاغة والفن والجمال.
وكما في نشوة الصبا تبدع اللغة أجمل الأشياء فإن الصوفية الحقة وهى تحمل المتعة الروحية والراحة والسلوى من آلام الحياة تقترن أيضا بالتفاؤل والإيجابية فيما سيبقى دور الطرق الصوفية في نشر الإسلام بأفريقيا وآسيا محفورا بحروف من مجد في الذاكرة الإيمانية للأمة.
وتجليات المشاعر الصوفية قد تجعل بعض الناس من أصحاب الأذواق الرفيعة يحسون بالحقيقة كما لو كانت شيئا ماديا وعندئذ تختلط المادة بالمجرد فإذا بهؤلاء الذين لا يتصورون المجرد يبصرونه ويلمسونه وقد انزاح الفاصل بين المجرد والمادي.
وللكلمة عند الصوفية مجد وأي مجد، ولعل فهم ثقافة التصوف يقدم إجابة لسؤال مثل:"كيف يمكن لكلمة بفضل ما تعنيه من شكل وموسيقى وعلاقة بغيرها من الكلمات أن تكون صاحبة شخصية ككائن حي وقوة سحرية بقدر ما تعبر عن نفس إنسانية"؟!.
وثمة حاجة أيضا لفهم الأسس الفلسفية للمتصوفة والتنظير المعرفي - الوجداني لحقيقة السجال بين "أهل الظاهر وأهل الباطن" فيما يؤكد أصحاب الأقلام من المتصوفة على أنه "من الخطأ تناول المسألة وكأن هناك منافاة حقيقية بين أهل الحق من كلا الجانبين".
ويقول الدكتور حسن الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية ومستشار الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف "الأزهر تعانق منذ 8 قرون مع الصوفية لما تمثله من قيم روحية وأخلاقية".. موضحا أن "التصوف الحق قوة بالمعنى الاجتماعي".
وقد يكون أحد أسباب الالتباسات في العلاقة بين التصوف والشريعة أو بين ما يسمى "بأهل الحقيقة وأهل الشريعة" أن "البعض من المتصوفة يتحدث عن التصوف بصورة جعلت الآخرين يظنون خطأ أنه دين آخر داخل الدين فنفروا وتخوفوا منه" وثمة اتفاق على أن هؤلاء الذين أساءوا للتصوف من داخله "لم يأخذوا منه إلا اسمه ورسمه" مع تأكيدات واجبة على أن "الصوفي الحق هو الذي كملت لديه التربية النبوية والأخلاقية تماما كما أنه لا تصوف بلا تشرع".
وحسب تقديرات الدكتور عبد الهادي القصبي رئيس المجلس الأعلى للطرق الصوفية في مصر فإن عدد المتصوفة على مستوى العالم ككل في ضوء البيانات المتاحة يصل إلى 200 مليون شخص فيما ينوه الدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي الأستاذ بجامعة القاهرة بانخراط العديد من المتصوفة المصريين في الأنشطة الثورية ذات الطابع الوطني.
وإذا كان الدكتور حسن الشافعي قد ذهب إلى أن "التصوف الحقيقي هو أقوى القوى الاجتماعية في العالم الإسلامي" فإن هناك حاجة ماسة لتأمل الصورة الحقيقية للصوفية بكل زواياها وعمقها التاريخي واستخدام أدوات معرفية عربية - إسلامية في التفسير والتحليل والتنظير بدلا من الاعتماد المخجل على أدوات الباحثين في الغرب ناهيك عن أن هذه التبعية تؤدي لمزيد من الهيمنة الغربية والتشوهات البنيوية والضلال المعرفي وهى مسألة مختلفة عن التواصل المطلوب والانفتاح المنشود من موقع الندية لا التبعية وبإدراك أصيل للحقيقة المتمثلة في أن أي نص يتكون أصلا في مجال ثقافي هو بدوره جزء من بنية مجتمع.
وإذ يدرك الغرب أن التصوف جزء حيوي في نسيج العالم الإسلامي ومن ثم فهو أحد العوامل المؤثرة في تشكيل الخطاب الثقافي والعلاقات الدولية فاللافت بالفعل أن التصوف الإسلامي أمسى موضع دراسات متعددة في جامعات الغرب وتتردد هناك مصطلحات مثل سياسات التصوف وانعكاساتها على الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط كما تتردد أسماء الطرق والجماعات الصوفية في هذه الدراسات مثل النقشبندية والجيلانية والقادرية.
ومن الذي بمقدوره أن ينكر دور الحركات الصوفية في نشر الإسلام في أفريقيا وبآسيا الوسطى ووصولا لنهر الفولجا في روسيا وحتى تخوم الصين وأن الصوفية في جوهرها كما أشار الإمام أبو حامد الغزالي منذ القرن ال(11) الميلادي هي علاقة بالغة الخصوصية بين العبد والرب؟!.
ويمكن الانطلاق من هذا التوصيف للقول إن التصوف الحق يوسع من نطاق الحرية الإنسانية ويخدم قضية الحرية في مواجهة كل أشكال الطغيان فيما لا يجوز تناسي أن أحد الأسئلة الكبرى لثقافة التصوف كجزء من التقاليد المعرفية الإسلامية ككل وهو:"كيف السبيل للمعرفة الحقة وما الذي نستطيعه ويجوز لنا معرفته كبشر؟".
فالتصوف الحق ثورة إنسانية تماما كما أن عملية النمو الروحي بكل مجاهداتها ومجالداتها هي اختيار للإنسان بكامل حريته وملء إرادته ولا يجوز فرضها من خارج الإنسان ولا موضع فيها لنفاق أو مراءة ومن ثم فهى "عملية ديمقراطية تماما".
ويضع الدكتور حسن الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية وأحد رموز تيار التصوف المعاصر في مصر يده على نقطة بالغة الأهمية بقوله إن "التغيير الثوري إن اقتصر على الجانب السياسي فلن يحل المشكلة الأساسية.. فالتغيير لابد وأن يكون أخلاقيا".
فالعلاقة بين الصوفية وطلب الحق والحقيقة وثيقة للغاية بقدر ما تصب في مجرى ثورة العقل والضمير والوجدان وتؤسس لمزيد من ثقافة السؤال وتشد بالفضول المعرفي باحثين غربيين للكتابة عن مصر المتصوفة.
وفي دراسة مستفيضة للرؤية النقدية لابن خلدون للصوفية على مستوى الخطاب والفلسفة والسياسة - أظهر الباحث جيمس ونستون موريس المتخصص في الفلسفة الإسلامية والحاصل على الدكتوراه في لغات وحضارات الشرق الأدنى من جامعة هارفارد اهتماما كبيرا بالجوانب والأبعاد الاجتماعية - السياسية والمعرفية للصوفية.. مؤكدا أن التصوف كان بمثابة المعين الصافي والمنجم الثري للعديد من التجليات والصيغ الإبداعية البعيدة الأثر في الثقافة والحياة بالعالم الإسلامي.
وهكذا لم يكن من الغريب أو المدهش أن يقف مفكر في حجم وقامة ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع أمام التصوف بالتأمل والتحليل عبر الإبحار في هذه الموجات الإبداعية المتشابكة والمعبرة عن الأبعاد الثقافية للتصوف بجذوره العميقة في الوجدان العربي - الإسلامي.
وعلى طريق المعرفة - ولج مفكرون مصريون وعرب من أبواب ثقافة التصوف ساعين للنهل من هذا العالم الثري وتحتفظ الذاكرة الثقافية العربية بإسهامات جليلة لأستاذ الفلسفة الراحل الدكتور عبد الرحمن بدوي صاحب كتاب "شهيدة العشق الإلهي".
وكان الأديب المصري الراحل الدكتور زكي مبارك قد قدم للمكتبة العربية كتاب "بين التصوف والأدب" كما قدم الإمام الأكبر الراحل وشيخ الجامع الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود سلسلة غنية من كتب التصوف والثقافة الصوفية فيما أبحر صاحب نوبل وهرم الرواية المصرية والعربية نجيب محفوظ في التصوف ضمن بحاره الإبداعية كما يتبدى على وجه الخصوص في رواية "ليالي ألف ليلة".
وإذا كان السؤال المؤرق للمبدع العظيم نجيب محفوظ قد انصب على النظام الذي يحكم الكون فإن إجابته الإبداعية على هذا السؤال الكبير والتي تجلت في إبداعات روائية عديدة إنما اعتمدت إلى حد كبير على معين التصوف وإشراقات الصوفية.
وأوضح الباحث جيمس موريس أن العقدين الأخيرين شهدا اهتماما غير عادى على مستوى دوائر البحث في الغرب بأعمال الشيخ الأكبر للصوفية محيي الدين بن عربي بل إنه يصف هذا الجهد البحثي "بالجهد المتعدد الجنسيات لمؤرخين ومثقفين وباحثين في تخصصات مختلفة بما يعبر عن حقيقة تعدد إبداعات بن عربي في حقول ومجالات مختلفة من بينها الشعر.
وذهب موريس إلى أن المحور الأساسي في فكر محيي الدين بن عربي ومفسريه وشارحيه هو الشمول المطلق لعمليات وأنشطة الحياة الروحية الإنسانية ونموها والضاربة بجذورها في أعماق وعي كل إنسان أو "الطاقة المطمورة".
واللافت أن هناك تيارا مؤثرا في الدوائر الثقافية الغربية المعنية بالشرق انكب منذ زمن بعيد على تقصي ودراسة الإنجازات الإبداعية للتصوف الإسلامي وانعكاساتها على الحياة اليومية للعرب والمسلمين فيما ينوه موريس في دراسته التي نشرتها دورية جامعة هارفارد الأمريكية المرموقة بأن هذا الاهتمام يعكس فهما للحقيقة المتمثلة في أن هذه التجليات الإبداعية لثقافة التصوف نهضت بدور بالغ الأهمية في تشكيل تصورات ومفاهيم كتلة هائلة من سكان العالم الإسلامي.
وأعاد الباحث جيمس موريس للأذهان أن هذه الموجات الإبداعية للثقافة الصوفية امتدت بعيدا منذ زمن بعيد حتى الصين وأندونيسيا، فضلا عن آسيا الوسطى وجنوب آسيا كما أنها كانت حاضرة في التجليات الثقافية المميزة للامبراطوريتين العثمانية والصفوية بل أنها أثرت بعمق على المغول الذين اهتدوا للإسلام بعد أن عاثوا فسادا في الأرض.
وفيما يشدد جيمس موريس في دراسته على أن الفترة التي عاش فيها ابن خلدون في القاهرة المملوكية كانت فترة قاهرية خصبة للتأويلات الفكرية والثقافية الصوفية فالأمر ذاته ينطبق على بلاد المغرب التي جاء منها ابن خلدون ليحل ضيفا كريما على مصر المحروسة.
ويقول جيمس موريس في سياق دراسته وتناوله للمشروع الفلسفي والسياسي لابن خلدون ومواقفه حيال الصوفية ورؤاه المغايرة لرؤى محيي الدين بن عربي إن التقاليد الفكرية للثقافة الإسلامية سمحت وتسمح بالخلاف والاختلاف كما أن هذه التقاليد العريقة تسمح دائما بالاجتهادات المتعددة طالما كان مناطها مصلحة الأمة والعباد وما دامت تتوسل بسبل المعرفة وصولا للحق مبديا إعجابا كبيرا بثراء المناقشات بين اتجاهات متعددة وتعدد الطرق للوصول للحقيقة والتي أفضت بدورها لثراء الثقافة الإسلامية.
وإذا كانت الثقافة الصوفية في أحد معانيها قراءة مجاهدة للذات والوجود ثم الكتابة أو الشهادة بعد هذه القراءة فإن تلك الثقافة لها مذاقها المحبب دوما في شهر رمضان ونفحاته المباركة بقدر ما تنطوي على أهمية في موضوع هام كتجديد الخطاب الديني.. حقا ما أروع قلب ينهل من شهد المحبة ويذوب عشقا وشوقا لحبيب ليس كمثله حبيب.. ما أروعه من قال:"ليس العجب من حبي لك وأنا عبد فقير.. وإنما العجب من حبك لي وأنت الملك القدير".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.