معرض "تاجر البساطة" يدعو تأمل حال فن الغرافيتي في مصر وتراجعه على نحو ملحوظ بعد أن ظل سمة رئيسية لشوارع القاهرة والمدن الكبرى قبل الثورة. خلافا للرؤية التي تربط بين فن الغرافيتي والشارع، وتجاوزا للعقبات التي تعترض سبيل ممارسي هذا الفن في مصر، قرّرت مجموعة من الفنانين المصريين، أن تمارس حقها في رسم الغرافيتي داخل واحدة من قاعات العرض الكائنة في وسط القاهرة، فكانت التجربة مغايرة للسائد والمتعارف عليه حول مثل هذا النوع من الفن الذي يمارس أساسا خارج الأروقة التقليدية. القاهرة – تحوّلت مساحة قاعة “المشربية” بالعاصمة المصرية القاهرة طيلة ما يزيد عن أسبوعين إلى ورشة عمل ومساحة مفتوحة للرسم والتعبير، ليعرض نتاج هذه الورشة مؤخرا في القاعة تحت عنوان “تاجر البساطة”. وعنوان المعرض مستوحى، كما يقول المشاركون فيه، من الاسم الذي كان يذيّل به أحد فناني الغرافيتي الشباب رسومه الغرافيتية التي كان يرسمها على جدران وسط القاهرة، وهو الفنان هشام رزق، والذي رحل قبل أربع سنوات في ظروف يصفها أصدقاؤه بأنها غامضة. مات هشام رزق غرقا في نهر النيل، هكذا كتب في وثيقة وفاته الرسمية، ولم يترك الفنان الشاب وراءه سوى عدد قليل من الرسوم الساخرة والاسكتشات، بينما طُمست رسومه الغرافيتية بين ما طُمس من رسوم أخرى على جدران مدينة القاهرة. ضد النسيان بعد رحيل هشام رزق قرّر أصدقاء الفنان الشاب إحياء ذكراه بمعرض يحمل نفس الاسم الذي أطلقه على نفسه، وضم المعرض عددا كبيرا من الصور الفوتوغرافية لرسوم الغرافيتي التي رسمها الفنان الراحل في شوارع القاهرة، وكذلك بعض نماذج من رسومه الكاريكاتيرية الساخرة التي كان ينشرها على صفحته على فيسبوك، بالإضافة إلى صور فوتوغرافية أخرى تجمعه مع أصدقائه أو خلال اللأحداث المختلفة التي كان يشارك فيها بفاعلية. وخلال الدورات التالية من المعرض قرّر أعضاء المجموعة فتح الباب لمشاركات فنانين آخرين، ليتحوّل المعرض مع الوقت إلى مساحة حرة لإبداع الشباب الباحث عن فرصة للعرض أو التعبير بالفن. وشارك في المعرض أكثر من عشرة فنانين، بعضهم لم يدرس الفن على نحو أكاديمي، لكنهم جميعا اجتمعوا على عشقهم لطريقة الممارسة الغرافيتية أو الرسم على الجدران. والعمل الرئيسي داخل القاعة تمثل في جدارية كبيرة بطول خمسة أمتار وارتفاع مترين، شارك في رسمها جميع الفنانين المشاركين في المعرض، كل حسب رؤيته الخاصة، بينما وزعت الأعمال الأقل مساحة على بقية جدران القاعة. وازدحمت الجدارية بالعديد من الرسوم والأساليب المختلفة، من كتابات وألوان ووجوه الأصدقاء الذين رحلوا.. رسوم سريعة، وأخرى حاول أصحابها حبك تفاصيلها جيدا، تربط في ما بينها كتابات وحروف أبجدية مستوحاة من شعارات الثورة، فمثلت الجدارية بمحتواها وآلية العمل بها محاولة لاستعادة روح الغرافيتي التي كانت تجمع المشاركين في هذا المعرض قبل سنوات. ويعيدنا معرض “تاجر البساطة” إلى تأمل حال فن الغرافيتي اليوم في مصر وتراجعه على نحو ملحوظ بعد أن ظل سمة رئيسية لشوارع القاهرة والمدن الكبرى خلال السنوات القليلة التي أعقبت ثورة يناير 2011، فعلى جانبي الطُرق المؤدية إلى ميدان التحرير بالقاهرة كانت تنتشر المئات من الكتابات والرسوم الجدارية. ولم يقتصر الأمر على الشوارع القريبة من ميدان التحرير وحدها، إذ انتشرت رسوم الغرافيتي في كل أركان المدينة، والتي تحوّلت جدرانها إلى معرض مفتوح للصور والرسوم والكتابات، ومساحة شاسعة للسجال عن طريق الفن. وامتدت هذه المساحة إلى أنحاء كثيرة من أطراف القاهرة وغيرها من المدن المصرية، وتباينت خلالها قيمة الطرح البصري والمساحات التي تحتلها، من المساحات الصغيرة التي لا تتعدى أبعادها راحة اليد، إلى أخرى كبيرة قد تمتد إلى عشرات الأمتار، لترسم جميعها ملامح ذلك الفن الذي بدأت معالمه تتشكل في الشارع مع حلول الربيع العربي، ولكن بعد تراجع وتيرة الاحتجاجات، بدأت مساحات الغرافيتي في التقلص شيئا فشيئا، إلى أن توارت تماما من شوارع القاهرة. سؤال جوهري لماذا اختفت رسوم الغرافيتي في الشارع المصري؟ هو سؤال طرحناه على المشاركين في هذا المعرض، وهو السؤال الأكثر إلحاحا وتردّدا بين الحضور. ويعدّد المشاركون أسبابا كثيرة وراء تراجع وجود الغرافيتي في شوارع القاهرة وغيرها من المدن المصرية، أولها كما يقول الفنان أمير عبدالغني، وهو واحد من منسقي المعرض، يتمثل في الملاحقات الأمنية التي طالت العديد من النشطاء الشباب، ومن بينهم عدد غير قليل من فناني الغرافيتي، الأمر الذي أصبح معه العمل في الشارع يمثل مخاطرة كبيرة وحقيقية. ويقول “هناك فنانون شباب تم اعتقالهم على خلفية نشاطهم في الشارع، وتم الحكم عليهم بالفعل بتهمة التحريض على العنف، وهو أمر قاس، خاصة حين يأتي بعد ثورة كانت الحرية من أهم أهدافها ومطالبها”. ولا يخفي العدد الأكبر من المشاركين في معرض “تاجر البساطة” إحباطهم وخيبة أملهم في ما آلت إليه الأمور اليوم، لكنهم ما زالوا متمسكين بروح العمل الجماعي، وهو ما يميز نشاطهم الفني، فالأعمال المعروضة لا تحمل توقيع فنان بعينه، بل هي نتيجة تعاون وجهد مشترك، وحماس لم يفتر بعد، يحرص الجميع على الاحتفاظ به. أما القضية الأبرز التي يتم طرحها في هذا المعرض، فهي تتعلق بطبيعة فن الغرافيتي على نحو خاص، فخلال النقاشات التي دارت بين المشاركين والحضور كانت فكرة توصيف الأعمال المعروضة محل جدل، فمنهم من يرى أنها تندرج تحت وصف الغرافيتي، بينما ينفي آخرون عنها تلك الصفة، كونها فقدت محيطها الطبيعي، وهو الشارع، فالغرافيتي هو فن للاحتجاج وإبداء الرأي، ظهر في الشارع وارتبط وجوده به، وهو يفقد إحدى أهم خصائصه وسماته إذا ما تم حصاره داخل جدران القاعات ومساحات العرض. ولكن أمام التضييق الأمني على رسامي الغرافيتي لا بد من إيجاد مسارات مختلفة للتعبير، كما تقول الفنانة شاهندة، غير أن زميلها عمرو نور الطالب في كلية التربية الفنية يرى أن فن الغرافيتي هو فن وجد في الشارع، ومن غير الممكن انتزاعه من محيطه الطبيعي. ويعتقد نور أن الممارسات التي تقام داخل القاعات المغلقة ليست لها علاقة بالغرافيتي، فالغرافيتي في الأساس هو فن موجه لجمهور الشارع، والذي يختلف عن جمهور قاعات العرض، فجمهور الشارع، كما يقول، هو جمهور مختلف ومتباين ثقافيا واجتماعيا، وطريقة تلقيه لتلك الرسوم، تختلف بلا شك عن الجمهور الذي اعتاد ارتياد قاعات الفن.