ثمة آونة في الحياة يوشك فيها الإنسان على الهلاك والضياع، وآونة يواجه فيها الخواء الروحي وعدم القدرة على التصدي للذات وانتشالها من عثرتها. في هذه الآونة الحالكة الظلمة، التي يكون فيها الإنسان في أضعف صوره، أين تراه يجد الملاذ؟ من أين يستمد الإنسان الطاقة الروحية في لحظات ضعفه وألمه وشعوره بالضياع؟ فيلم «الصلاة» للمخرج الفرنسي سيدريك كان، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين في دورته الثامنة والستين (من 15 إلى 25 فبراير/شباط الجاري) يضعنا في قلب واحدة من هذه اللحظات، التي يبحث فيها الإنسان عن الخلاص والملاذ. أترى العثور على الله والتشبث به هو السبيل للنجاة؟ وأين ملاذ من لا يؤمن؟ وهل يعثر الإنسان على الإله في داخله حقا في وقت ضيقه؟ أم هل يتخيل وجوده لإقالة نفسه من عثرتها؟ يبدأ الفيلم بوجه صبي يرتسم عليه الخوف والألم، وذوي نظرة زائغة قلقة منكسرة حينا ومتمردة حينا. هذا الوجه هو وجه الصبي توما (أنتوني باجان في أداء متميز للغاية) الذي نعلم لاحقا أنه يحاول التعافي من إدمان المخدر، ليس في مصحة للمدمنين، ولكن في ملاذ كاثوليكي للإقلاع عن الإدمان، عبر الصلاة والقرب من الإله. لا يفرض علينا الفيلم رؤية إيمانية بعينها، ولا يتخذ منحى وعظيا، بقدر ما يترك لنا ولتوما السبل مفتوحة للعثور على القوة الروحية. يكابد توما في الفيلم روحه المتمردة القلقة، ويجد الراحة أحيانا في الصلاة، ولكنه يجدها أحيانا أخرى في مساندة المتعافين من الإدمان الآخرين له، أو في كلمة طيبة من صديق في وقت ألم، أو في العمل اليدوي الشاق أو في القرب من الطبيعة. توما العابس المتألم يظهر في سيارة تقله إلى مكان ما، نعلم بعد دقائق أنه الملاذ الكاثوليكي في البرية، وقرب نهاية الفيلم يكرر كان المشهد ذاته بوجه توما في سيارة تقله إلى مكان ما، ولكن شتان ما بين تعبير الوجه في الحالتين: وجه معذب ضائع ووجه ترتسم عليه ابتسامة ثقة وأمل. طريق طويل ومكابدة طويلة للنفس والروح وتساؤلات كثيرة ومواجهات مع الذات، وبحث عن الإله تفصل بين الصورتين. لا يركز كان في الفيلم على الإدمان ذاته، أو على قصة وقوع توما فيه، أو على ما أودى به إلى الإدمان، فليس هذا ما يسعى الفيلم لنقاشه بقدر ما يسعى للتفتيش داخل روح الإنسان وقلبه عن ملاذ يقيل النفس من عثرتها. نحن لا نعلم ماضي توما الأسري، ولا نعلم من الذي اصطحبه إلى الملاذ البعيد. لا يحاول سيناريو الفيلم، الذي اشترك كان في كتابته مع فاني بوردينو وسامويل دو، أن يقدم لنا تفسيرا لإدمان توما أو للأسباب الأسرية والاجتماعية التي دفعت به لذلك. لا يركز الفيلم على الماضي بقدر ما يركز على اللحظة الآنية وكيفية مواجهتها، وعلى كيفية الحصول على الطاقة الروحية التي تنقذ توما من ألمه وتمده بالقدرة على مواجهة المستقبل بدون الرجوع مجددا إلى المخدر. صلاة يرصد الفيلم لحظات القرب الإنساني التي يلوذ فيها الإنسان بمن هم في مثله ضعفه وألمه، ليست الصلاة فقط في التضرع للإله أو مناجاته، ولكنها أيضا التواصل مع الآخرين الذين يمدون يد العون رغم ألمهم الشخصي. عند دخول الملاذ للتعافي من الإدمان، يخصص الأب المشرف لتوما رفيقا في درب التعافي تسميه الدار «الملاك الحارس». ذلك الملاك الحارس ليس كائنا نورانيا بعيدا وليس عضوا في سلك الكهنوت، بل هو مدمن سابق في مرحلة متقدمة من التعافي. الملاذ الذي يقدمه الفيلم للروح يجمع بين الصلاة وقراءة الإنجيل مع لحظات الدفء الإنساني بين أصدقاء يواجهون الألم نفسه. ولعلّ أحد التساؤلات الرئيسية التي يطرحها الفيلم هو مفهوم الصلاة ذاتها ومغزاها الحقيقي. هل يصلي الإنسان حين يصلي لإيجاد صلة روحية مع الإله حقا؟ أم هل تراه يردد كلمات جوفاء محفوظة ظنا منه أنها ستنقذه من الألم؟ لا يقدم الفيلم إجابة ملزمة للأمر ولكنه يقدم الرؤيتين بصورة متوازنة. يقدم الفيلم صورا لبعض نزلاء الملاذ الذين يجدون في هذا الالتزام بالكتاب والصلاة أمرا خانقا معذبا للروح. وفي المقابل، نجد أيضا أصواتا تقول إنها وجدت الخلاص والراحة في الصحبة بين الأصدقاء ولكنها لم تعثر على الإله ولم تجد الخلاص في التعبد. ونجد أيضا من يعثر على الملاذ في الإله والتعبد والصلاة. أما توما فهو يجد خلاصه الخاص وصلاته الروحية في العديد من الأيادي التي مدت له في طريقه. نجده ينكب على الكتاب ويحفظ الصلوات والمزامير ويرددها عن ظهر قلب. ولكن هل وقر ذلك حقا في قلبه؟ نجده يبحث في لحظات عن معجزته الذاتية التي تريه أن الإله إلى جانبه ويسانده، وهو ما يظن أنه وجده ذات ليلية يضل فيها الطريق بين الجبال الموحشة. ولكنه أيضا يجد الخلاص في الحب الروحي وفي الحب الجسدي وفي المرأة وقلبها وجسدها. في لحظة ألم نفسي وضياع روحي يجد توما الراحة والحنان في سيبيل، الشابة الجميلة ابنة أحد السكان الذين تجاور أرضهم الملاذ. لا يفرض سيدريك كان في الفيلم حلا واحدا، ولا يجد ملاذا واحدا للروح يفرضه دون غيره، بل يطرق الكثير من الأبواب التي قد يجد الإنسان فيها سكنا لروحه: الإله، الأصدقاء، الحب، العمل. وربما يمثل كل من تلك الأمور ملاذا مؤقتا. ربما الحكمة من حياة الإنسان هي السعي وربما قدره الدائم هو مكافحة الذات ومكابدتها وتقويمها.